الحقوق الاجتماعية ومقترحات الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان

Cover Image for الحقوق الاجتماعية ومقترحات الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان
نشر بتاريخ

يشهد المغرب وضعا اقتصاديا صعبا، وموجات غلاء ولهيبا في أسعار المواد الأساسية، يعزى لمعدلات التضخم المرتفعة، أصبحت معه شرائح واسعة من الشعب المغربي تعيش وضعا غير مستقرٍّ، جعل مؤسسات الدولة نفسها تقر بعمق الأزمة وديمومتها، وتؤكد أن المغرب يتخبط في أزمة شاملة ومركبة منذ عقود مست للأسف كل قطاعات الحياة العامة والخاصة.

الدولة عبأت كل طاقاتها لوضع نموذج تنموي جديد ولد ميتا، فرفعت شعار الدولة الاجتماعية ولم تتوقف عن التبجح بتحقيق حماية اجتماعية لمواطنيها بفضل السجل الاجتماعي الموحد، وتعميم التغطية الصحية، والدعم المباشر…

 وبغض النظر عن هزالة هذا الدعم، فقد تم إقصاء الكثير من الأسر التي تعيش حالة العوز والهشاشة وهي في حاجة ماسة لحلول دائمة لا ترقيعية، أضف إلى ذلك إكراهات التنزيل وهي بنيوية متجذرة في السياسات العمومية.

فإذا كانت مضامين دستور 2011 تؤسس للبعد الاجتماعي للدولة المغربية، فإن مشاريع قوانين المالية التي تضعها الحكومات المتعاقبة لا تكرس لمفهوم الدولة الاجتماعية ولا تساهم في مأسستها، فالمتتبع للشأن الاقتصادي والاجتماعي بالمغرب يلاحظ أن هناك تحديات كبرى أفرزت وضعا اجتماعيا واقتصاديا مأزوما، فالتبجح بالدولة الاجتماعية يقتضي أن تكون المقاربات التي تحكم سياسات الحكومة مقاربات تستحضر الأثر الاجتماعي لقراراتها وبرامجها واختياراتها كأولوية تشكل بوصلة سياساتها، لا أن تعترض على كل التعديلات ذات البعد الاجتماعي الحقيقي، وترفض على الدوام كل إصلاح بنيوي، كإقرار الضريبة على الثروة…

أشار تقرير المجلس الأعلى للحسابات الأخير الصادر بتاريخ 19 دجنبر 2023 إلى محدودية تدبير الموارد المالية المتعلقة بتنزيل ورش الدولة الاجتماعية، وتشير تقارير المندوبية السامية للتخطيط، والأرقام المصرح بها، إلى أن ثلاثة ملايين من المغاربة يعيشون أوضاعا جد مزرية، يعني أن 3 مليون مغربي يفتقرون للسكن وللتعليم والعلاج وأبسط شروط الحياة…

أما معدلات البطالة فقد بلغت مداها، فحسب ما ذكرت المندوبية السامية للتخطيط، ضمن مذكرة إخبارية حول المميزات الأساسية للسكان النشطين المشتغلين خلال 2022 فنسبة العطالة في صفوف حاملي الشهادات العليا بلغ 61.2%.. كما تكشف الأرقام أن أكثر من شاب من بين أربعة تتراوح أعمارهم ما بين 15 و24 سنة يصنفون ضمن فئة من “لا يشتغلون، وليسوا بالمدرسة ولا يتابعون أي تكوين”، وتمثل النساء من هذه الفئة 72 في المائة. أما المشغلين فهم يفتقدون للحماية، ف 70 % مـنهم لا يتوفرون على الحـد الأدنـى للأجـور، و59 % من النشيطين لا يتوفرون على عقود عمل، بل إن الحكومة نفسها تقر بأن قانون الشغل على علاته، لا يطبق إلا في 15% من مؤسسات القطاع الخاص.

أما بالنسبة للتغطية الصحية فقد أشارت الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان إلى أن 38% من المغاربة ما زالوا غير مشمولين بأية تغطية، مع العلم أن عددا كبيرا ممن سجلوا قصرا في الضمان الاجتماعي لا يستفيدون فعليا من الأمو AMO لأنهم لا يستطيعون تأدية الاشتراكات، أضف إلى ذلك النقص الحاد في الخدمات الاستشفائية، الذي يرجع للنقص الكبير في الموارد البشرية الصحية (طبيب واحد لكل 1351 نسمة أي 0.74/1000. في حين توصي منظمة الصحة العالمية ب طبيب لكل 224 نسمة أي 4.45/1000)، وكل هذه الأعطاب وغيرها يعود بالأساس لكون الدولة تعتبر الصحة قطاعا استهلاكيا حيث إن الإنفاق العام على الصحة لا يتجاوز 6% من الميزانية العامة بينما المعيار الدولي لا يقل عن 13%.

ففي غياب تغطية صحية، وفي غياب فرص شغل حقيقية، وفي غياب شروط العمل اللائق، وفي غياب العدالة الأجرية، وفي غياب تقاعد مريح، فعن أي دولة اجتماعية يتحدثون إذن؟

الدولة عند نشأتها حسب المنظرين، اقتصرت على تلبية الحقوق الأمنية والسياسية (الجيل الأول من الحقوق)، وبفعل عدة متغيرات أصبحت مطالبة بالاهتمام بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي تشمل الحق في السكن، الحق في العمل، الحق في المعاملة المتكافئة، الحق في العيش الكريم، الحق في الرعاية الصحية (جيل ثان من الحقوق)، إلى أن أصبحت مطالبة بجيل ثالث للحقوق متجاوز للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، كالحق في بيئة صحية، الحق في الاتصال، الحق في التنمية، الحق في التضامن… وعليه فإن مفهوم الدولة الاجتماعية لم يعد يقتصر فقط على سبل العيش الكريم المتصل بالمأكل والمشرب والمبيت والتأمين والصحة وما إلى ذلك من متطلبات الحياة اليومية للأفراد، بل يتعداه ليشمل كافة الجوانب المرتبطة بمجال حقوق الإنسان والحريات العامة.

من هنا نخلص إلى أن المغرب ما زال بعيدا كل البعد عن توفير حماية اجتماعية كما هو متعارف عليها دوليا، لا جيل أول ولا ثاني ولا ثالث. الحقيقة أن الدولة المغربية تمعن في تخليها عن دورها الاجتماعي، الأمر الذي أدى إلى اختلال عميق في ميزان توزيع الثروة وتزايد الهوة بين الطبقات، فطبيعة الفوارق من طبيعة وضعية موازين القوى، وقد بينت الوثيقة السياسية أن كل هذه الفوارق هي نتاج منظومة الفساد والريع والإثراء غير المشروع، هي نتيجة حتمية للاستبداد بالسلطة واحتكار الثروة، هي نتيجة للاختيارات الخاطئة للدولة اقتصاديا واجتماعيا، هي نتيجة الارتهان للمؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي)، هي نتيجة فشل الدولة في بلورة نموذج تنموي قادر على تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية.

نحن أمام دولة فرضت علينا بسياساتها الرعناء أن نأكل مما لا نزرع، ونلبس مما لا ننسج، ونستورد أكثر مما نصدر، ونستهلك أكثر مما ننتج، ومن الغرائب العجيبة، أن نستورد القمح والسكر والذرة… في بلد المخطط الأخضر، ونصدر الفوسفاط والسمك والخضر والفواكه وعرق اليد العاملة الرخيصة… هم يصدرون لنا منتوجات عقلهم البشري بأثمان غالية (الصناعة)، ونحن نستنزف أرضنا بقيمة متدنية، بل وبدون عائد بعد أن شرعت الأبواب للصهاينة يعيثون فيها فسادا.

لتجاوز كل لهذه العوائق تدعو الوثيقة السياسية لضرورة التأسيس لنظام اقتصادي مستقل محمي من الضغط الخارجي وغير مرتهن للخارج، وتشدد على أن مدخل الإصلاح ينطلق من تفكيك بنية الفساد وتخليق الحياة العامة، وتقترح ميثاقا اجتماعيا بعيدا عن المزايدة والتقاطب، من مبادئه الشمولية، والتضامن التطوعي والإجباري، والتأسيس لعدالة اجتماعية بباعث الحق والواجب لا الإحسان.

إن الظرفية الراهنة تفرض على الدولة مراجعة كل اختياراتها الاقتصادية والاجتماعية، والقطع مع ما تبنته سابقا وتأكد فشله وأوصلنا للنفق المسدود، ولن يتأتى ذلك إلا عبر إصلاح سياسي شامل وجذري، يفسح المجال لإصلاحات تبني اقتصادا وطنيا تضامنيا منتجا، يقوي القدرات الاقتصادية للبلاد ويكون في خدمة الحاجيات الأساسية لأغلب المغاربة.