التغيير العميق عند الإمام المجدد عبد السلام ياسين

Cover Image for التغيير العميق عند الإمام المجدد عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

مقدمة

الحديث عن التغيير عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى يحلينا على المشروع المجتمعي الذي جاء به الرجل لأن التغيير أحد مفرداته.

المشروع المجتمعي الذي جاء به الإمام المجدد رحمه الله تعالى شامل ومتكامل يقرأ الماضي ويقترح للحاضر ويستشرف للمستقبل ويلامس جميع مطالب النفس البشرية باطنا وظاهرا فردا وجماعة ودولة وقلبا وقالبا ورحمة وقوة.

والجمع بين الإرادة الحرة والتتلمذ المباشر للوحي والقراءة الواعية للكون وخفايا النفس البشرية شروط أساس لهذا المشروع،

والأسئلة الكبرى والقضايا المصيرية فلسفة وروحا هي موضوع اشتغال الإمام. ولا يلتف رحمه الله تعالى إلى اليومي والمتغير الظرفي الموقوت. وإن نظر إلى أحداث بعينها فبالتبع لا بالأصل، أي في سياق السيرورة التاريخية بدءا من الخلق ومرورا من التجربة الإنسانية فالإسلامية عموما ثم تطلعا إلى المستقبل النسبي دون إغفال المصير المطلق أعني به لقاء الله تعالى وما بعد الموت.

كتابات الرجل تنظيرية لأنها تركز على البعد الاستراتيجي ولا يمكن مقارنتها مطلقا بما يكتبه الكثير عن المظروف الآني اللحظي ولا يستحضره ضمن الماضي وماضيه ولا المستقبل وأفقه القريب والبعيد. وهذه من خصائص الكتابة المنهاجية للأستاذ رحمه الله تعالى.

نعم تنظيرية وفي نفس الآن إجرائية عملية. وليست تجريدية في السماء بل لها قابلية التطبيق والعمل والإنجاز.

المشروع المجتمعي شمولي يمتح في جميع المجالات الإنسانية قلبا وعقلا وسلوكا، تعليما وسياسة وإدارة واقتصادا وعلما ومعرفة وكونا…

 لكن الجانب التربوي يحوز الأولوية عند الإمام ويعتبره الأساس واللباب والجوهر ومفتاح الباب. فهو الحبل الناظم لمشروع إحياء الأمة، والمفتاح الفاصل لنهضتها العمرانية.

 نقلا عن الأستاذ منير الركراكي 1 حفظه الله تعالى وقد علق الإمام رحمه الله تعالى على بعض الإخوة الأفاضل لما زاروه في بداية تأسيس الجماعة والإخوة ما زالوا قلة وقد تكلموا عن انجازات باهرة كبيرة عظيمة لبعض الحركات الإسلامية فقال رحمه الله تعالى: “لا تقارنوا بين ناطحات سحاب وبناء يتأسس بل قارنوا بين أساس وأساس. فإن البناء مهما اتسع وارتفع إذا حرم لبنة التربية ولحامهما يوشك البناء أن يتداعى وينهار ويقع. حذار من الغفلة عن الله وبدار التربية. التربية ثم التربية ثم التربية”.

التربية هي قانون التغيير الإلهي: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” والتغيير هنا هو الإصلاح الباطني للنفس البشرية القائم على التربية.

التربية أولا وآخرا ووسطا.

1.       التغيير العميق والتغيير الكلي أو الأساس والبناء.

التغيير عند الإمام رحمه الله تعالى الذي يقترحه على الأمة ويسعى حملة مشروعه لتحقيقه في مستقبل الأمة المشرق إن شاء الله تغيير عميق شامل، يقول: “المستقبل لتغيير عميق شامل، تغيير من داخل الإنسان، من تربية الإنسان، من تعليم الإنسان. التغيير أجيال، التغيير أمهات صالحات، التغيير مدرسة صالحة، التغيير مَنَعةٌ ضد الامتداد السرطاني للثقافة الدوابية، التغيير إعادة بناء الأمة على أصولها، التغيير تعبئة أمة، قومة أمة”  2

ولذلك يميز الإمام المجدد رحمه الله تعالى بين نوعين من التغيير يدور أحدهما على الآخر ويفتل فيه. التغيير الأصلي والتغيير التبعي أو قل: التغيير الأساس والتغيير البناء. التغيير الشامل الذي يستهدف كل مجالات الحياة الإنسانية وعليه تبنى الدولة الإسلامية القوية المنيعة، وبه يكون لها الوجود الفعلي والمؤثر في العالم وليس تبعا لأحد بل صانعة منتجة.

هذا التغيير الشامل إنما يبنى ويتأسس على بناء الإنسان وإعداد الإنسان وإصلاح الإنسان وتربية الإنسان. وهو ما عبر عن الأستاذ رحمه الله تعالى بالتغيير الجذري.

يقول رحمه الله تعالى: “هذا التغيير الجذريُّ في تصور الإنسان لنفسه، وللعالمين الدنيويِّ والأخروي، وللمسؤولية بين يدي الله بعد الموت، هو رسالة القرآن الخالدة إلينا. ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه، فإن ضيعوا هذه الغاية فكل تغيير دونها لا حساب به، ولا وزن له في حياة البشرية. ليست القومة الإسلامية ثورة قطرية إقليمية تنتهي مهمتُها عند تغيير بُنى المجتمع، وتنشيط اقتصاده، وتطوير وسائله، بل هي رسالة القرآن إلى الإنسان أن يغير موقفه، وينتبه لمصيره، ويُقْبِل على نفسه يُغَيِّرُ ما بها لتُقْبِلَ على ربها.

وكل تغيير في السياسية والاقتصاد فإنما هو تبَعٌ لهذا التغيير الكلي الجوهري للإنسان، ونفسيته، وعقيدته، وأخلاقه، وإرادته، وحركته كلها على الأرض، لتكون حركةً لها غاية، ومعنى، وارتباط بمصيره بعد الموت، وبمصير أمته في التاريخ3

التغيير الكلي الجوهري يركز عليه الإمام رحمه الله تعالى أشد التركيز ويعتبره مفتاح التغيير المنشود تغيير ما بالإنسان ثم بعد ذلك وبعد ذلك فقط كل تغيير ذي بال في ما ينتجه هذا الإنسان على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والفنية…

هذا التغيير العميق هو وسيلة التغيير الشامل وأداته يقول: “وتغيير ما بأنفسنا تربية وتنظيما وزحفا هو وسيلة التغيير من غثاء لقوة” 4.

إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم هذا هو قانون التغيير المقصود للعمل الإسلامي ومعادلة النهوض الحضاري للأمة الإسلامية وإلا الدوران في حركة مفرغة، والتغيير الذي نسعى إليه مهما وسم بشتى النعوت الجميلة يبقى فارغا لا معنى له خواء في خواء.

 ولا يعني هذا البتة التقليل من البناء الكلي الشامل لجميع المجالات وعلى كافة الأصعدة لأن غاية التغيير العميق هو تأهيل الإنسان التأهيل الكامل حتى يعرف ربه ويطلب القرب منه مع المقربين ويقوم بالوظيفة الاستخلافية التي ندبها الله إليه على أحسن وجه. فهو جمع بين روح وجسد، الروح ه\ا التغيير العميق ولباسه وزينته هذا التغيير الكلي الشامل الذي يحقق دولة القرآن. ولذا” لا تتنكب دولةُ القرآن ضرورات الابتكار، والتصنيع، والتنمية الاقتصادية، ومنافسة بضائع الآخرين، وأسلحتهم، وتنظيماتهم المالية، والإدارية، والعسكرية. ولا تتنكب مهمات تغيير البُنَى الفاسدة، وتركيب جهاز الدولة تركيبا يساعد على الفعالية والجدوى، ويساعد عل توحيد الأمة، وجمعِها، وتحصينها من القلق والاضطراب. بل تهدف دولة القرآن إلى كل ذلك التغيير، وتعتبره واجبا من آكد واجباتها. لكن الدعوة إلى الله، وإنقاذ الإنسان من ظلام الكفر، وقتامة النفاق، وقذارة معصية الله، وغبش الغفلة عنه، المؤدية إلى بؤس الدنيا وعذاب الآخرة، هي الهدفُ الأسمَى، ومحورُ الحركة، ومحطُّ الطموح. 5.

 ودولة القرآن التي ننشدها تغيير الإنسان ابتداء وبناء العمران انتهاء. وإلا فإن: “تغيير الهياكل إن لم يصحبه تغيير الإنسان ويسايره تضييع للجهد في دوامة التجارب الفاشلة” 6.

وجماع القول: أن التغيير العميق أو التغيير الجوهري هو قاعدة التغيير الكلي والشامل. الذي هو “تغيير دوافع الإنسان وشخصيته وأفكاره، تغيير نفسه وعقله وسلوكه” 7، وأن “يغير موقفه، وينتبه لمصيره، ويُقْبِل على نفسه يُغَيِّرُ ما بها لتُقْبِلَ على ربها”  8

 وبعبارة أخرى جامعة للمعنيين: “تغيير دوافع الإنسان وشخصيته وأفكاره، تغيير نفسه وعقله وسلوكه، تغيير يسبق ويصاحب التغيير السياسي الاجتماعي” 9.

2.       مفهوم التغيير العميق ومنطلقه ومطلبه

أ‌-       مفهومه

التغيير العميق: هو تغيير “جوهر الإنسان، ونفسيته، وعقيدته، وأخلاقه، وإرادته، وحركته كلها على الأرض، لتكون حركةً لها غاية، ومعنى، وارتباط بمصيره بعد الموت، وبمصير أمته في التاريخ” 10.

فهو تغيير كلي وشامل الإنسان: دوافعه النفسية، ومطمحه الروحي، وفكره وفهمه، حركته وسلوكه… ينسلك كله في اتجاه واحد وطريق لاحب “وأن إلى ربك المنتهى”.

يبدأ المؤمن طريق التغير والتغيير بتساؤل عن ذاته وإيمانه وكماله، ويطرح “السؤال الدائم المزعج المنجي: ما ثقتي بربي، ما صدقي معه، ما صدقي في طلب رضاه، أين أنا من الصادقين الذين يعبدونه رَغَبا ورَهَباً، ما حَظِّي مِن يقين الصادقين، ما رضاي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، ما مسارعتي بين المسارعين إلى نيل الدرجات في الجنة عنده؟”  11 أسئلة محرقة مقلقلة مزعجة ان انبعثت إرادة تواقة ووجدت بيئة ايمانية صالحة مصلحة يكتشف المؤمن نفسه وضعفه وحاجته إلى معرفة ربه. فيطلب الله تعالى، ويطلب ما يطلبه الله: أن يكون له أثر في الدنيا. والقلب المنطلق والجوارح حادي والعقل المنور بنور الوحي الموجه والمسدد.

ب‌-   منطلقه

إن منطلق التغيير الجوهري العميق في الإنسان هو باطنه هو القلب. وهو أعلى جارحة في الإنسان وأشرفها. وهو محل الإرادة والهم والعزم والخواطر وهل الإنسان حقيقة إلا ما يريد.

“القلب مكمن الداء، فإن صح فهو مركز الإشعاع، وهو العنصر الحاسم في معادلة وجود الأمة وانبعاثها، ما حديثنا عن مقاصد الشريعة ومطالب الشريعة….إلا أحلام طائشة إن لم يشتد قلب الأمة باشتداد قلوب المومنين على عزمة إيمانية وإرادة إحسانية تنهد أمامها العقبات وتنفتح أبواب الأرض والسماوات” 12.

روى الشيخان وغيرهما عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “… ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.” 

ت‌-   مطلبه

تحقيق العبودية لله تعالى والاقبال على الله تعالى بالكلية وتحرير الانسان من كل عبودية واولها اطلاقا أن يكون عبدا لنفسه ثم لغيره هو مناط التغيير ومطلبه عند الإمام رحمه الله تعالى. يقول: “ذلك التغيير لا يدور حول نفسه، ولا ينتهي عند مقدماته، بل يدور حول الإنسان، ويخدُم غاية تحرير الإنسان من كل عبودية، ليدخل في العبودية لله عز وجل” 13.

إن تحرير الإنسان من عبودية غيره هي أم الحريات ورأسها حيث قال: “رأس حقوق الإنسان عندنا، وأم الحريات، ومنبع الكرامة، تحرير الإنسان من كل عبودية غير العبودية لله رب العالمين لا شريك له” 14..

غاية التغيير العميق أن ينجمع الإنسان المؤمن على أمرين منسلكين في بعضهما البعض: هم الله والشوق إلى لقاء الله والفوز بالله ثم يندمج اندماجا كليا في الحركة الاجتماعية للأمة بناء وإسهاما وخدمة وعملا حاملا لا محمولا فقط .

روى الطبراني عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أصبح وهمُّه الدنيا فليس من الله في شيء. ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. ومن أعطى الدنية من نفسه طائعا غير مكره فليس منا“. 

3.       وسيلة التغيير العميق وشروطه وأثره

أ‌-       وسيلته: التربية الجامعة

يرى الإمام رحمه الله أن التربية هي الوسيلة الخادمة الحاضنة الراعية لمشروع التغيير العميق. وبدون تربية لن يتحقق التغيير أبدا.

يقول رحمه الله: “حرفتنا التربية. هي وسيلتنا لتغيير الإنسان حتى يتبنى موقفا ونظرة وإرادة تتعالى على الظرفيات التاريخية، وتتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة التي تحيطنا بها سياسة المنـزل الإقليمي الصغير، وذهنية الهوية التجزيئية….. مشروعنا بعيد المدى، والتغيير العميق الذي يتم بواسطة التربية والإقناع لا يمكن أن يعاش إلا بعد مخاض عسير” 15.

ويعرف التربية بقوله: “التربية تنميةُ الإيمان والطموحِ. التربية صعود إراديٌّ وتصعيدٌ مستمر. التربية اقترابٌ من الكمال وتقريب. التربية قَدْحُ زِنادٍ في القلب والعقل، إشعالُ فتيلٍ، تعبئة طاقاتٍ فرديّةٍ لتندمج في حركية اجتماعية يَعْمَل فيها العاملون بجهْدٍ مُتكامِلٍ ينفع الله به الأمة”.

وليس المقصود بالتربية ما درج عليه ولا يزال عند كثير من الاتجاهات التربوية في العصر الحديث هروبا من المجتمع وانعزالا عن الناس وشعارهم “كن حلس بيتك” و“عليك بخويصة نفسك”. بل التربية عنده سمو روحي إلى الأعلى ولا أعلى منه تعالى واندماج في المجتمع بغاية التأثير فيه والإسهام بالرفع الحضاري والنهوض العمراني.

التربية عند الإمام رحمه الله معنى يناقض الرهبنة والانكماش التربوي وينفتح على مجموع الكمالات: الروحية والفكرية والخلقية مع الإحاطة بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بغاية التأثير الإيجابي فيه وإيجاد البدائل وحل المشكلات التي تعيشها البشرية عموما.

كان ينبه رحمه الله تعالى على توازن التربية فلا يغلب جانب على جانب. “يجب ألا تكون السمة الغالبة على جند الله زهادة بدعوى الروحانية، ولا إغراقا في الفكر، ولا تقصيرا ولا إسرافا في الحركة. 

إسلام الزهادة والهروب من المجتمع، والإسلام الفكري، والحركية على حساب التقوى والعلم ثلاثة مزالق” 16.

تكون التربية تربية حقا إذا أثمرت الشخصية المؤمنة المتوازنة بين رهبانية الليل تبتلا و\كرا وإقبالا على الله تعالى وفروسية النهار: دعوة وحضورا فاعلا بين بني الإنسان وهو النموذج الذي أثمرته المدرسة النبوية. وهي المرجع الحاسم في الباب.

والتربية التي تحدث هذا التغيير العميق في النفس لها شروط.

ب‌-    شروط التغيير العميق

يحصرها رحمه الله في ثلاث: الباعث الحافز ثم الآلة الوسيلة مع المَعين المُعين.

·        البيئة الحاضنة: الصحبة والجماعة

يقول رحمه الله تعالى: “ومن الصحبة وبالصحبة وفضل الله على المؤمنين بالصحبة يبدأ التغيير” 17.

على قدر المصحوب صفاء وربانية ومجاهدة ونورانية وعلى قدر صدق الوافد وحرقته يكون الترقي والتلقي. قال صلى الله عليه وسلم: “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل” 18.

“الشرط الأول في نجاح التربية وجود صحبة وجماعة تتلقى الوارد عليها في رحاب المؤمنين المتواصين بالصبر والمرحمة. الوجه الباش، والكلمة المبشرة المشجعة، أول ما ينبغي أن يدركه الوارد من وجود مرحمة ومحبة في الأسرة التربوية حتى يحب صحبتها والسير معه” 19.

والصحبة هنا ليست صحبة فردية منكمشة صحبة تلميذ لعالم مربي، هذه الصحبة لا تنفع الأمة. ولذلك ربطها الإمام بالجماعة وجعلهما متلازمتين لأن التربية المرجوة تربية متعدية لا لازمة فقط. تبني الفرد وتبني الأمة.

يقول: “كان من قبلنَا رحمهم الله ورفع درجاتهم يتفرد منهم الطالب الراغب السائر تأخذ بيده يدُ فرد نوَّر الله قلبه من العارفين بالله مشايخ التربية. ولمستقبل دعوتنا نرجو من الله نور السماوات والأرض سبحانه أن ُيفيض رحمته على أفراد أوليائه وأن يلهمهم التعاون على البر والتقوى، برِّ هداية الخلق بصحبة تُؤلف القلوب، لا يضيرها أن كان حُبُّ زيد لعمر أرجح من حبه لخالد. الرجاء من الملك الوهاب أن تكون الصحبة والجماعة متلازمتين تلازم العدل والإحسان في كتاب الله عز وجل وفي شعارنا” 20.

وقد حرص رحمه الله على تمتين معنى نفيس له ارتباط بالصحبة والجماعة وهو الصحبة في الجماعة.

فقد قعد وسعى وحرص أن يجعل الصحبة وسر الصحبة من خير ونور وبركات ودلالة على الله تعالى في الجماعة حتى يقطع مع الأنانيات وحب الرئاسات. قال رحمه الله: “ويبقى سر الجماعة في الجماعة” 21.

لماذا الصحبة في الجماعة؟ حتى يبقى أمر التربية والجهاد مفتولا لا ينفصل، وأمر العدل والإحسان أمرا واحدا فلا ينقطع، وتبقى اللحمة مجموعة.

ثم إن الإمام يكره نظام التوريث من واحد لواحد فأراد أن يقطع معه، فإن كان كثير من أهل السنة جعلوا الأمر في الحكام وراثة متسلسة كسروية والشيعة جعلوها في الأئمة آل البيت والصوفية جعلوها في أبناء الشيخ. فإن الإمام قطع مع هذا السبيل الذي يكون للشيطان والنفس فيه سبيل.

·        الإرادة والطموح: الصدق

 لا يمكن الحديث عن الوصول والطريق إن لم يكن الباعث والحافز، فمن لا إرادة له فلا طموح له ولا وصول لغاية أبدا فكيف بغاية الغايات.

ولهذا كان الشرط في المربى أن يكون له الاستعداد الكامل والإرادة المتحررة في طلب الكمال صدقا مع الله وثباتا في الميدان وإصرارا على المضي إلى المعالي. وهو ما سماه رحمه الله بالصدق.

يعرفه الإمام الصدق ب “استعداد الوارد ليتحلى بشعب الإيمان، ويندمج في الجماعة ويكون له من قوة الإرادة وطول النفس ما يمكنه من إنجاز المهمات حتى النهاية.

لا فائدة من ضرب الحديد البارد، ولا فائدة من محاولة تربية من ليس له استعداد” 22.

·        الذكر: الوسيلة والأداة

والذكر معناه مجموع العبادات من ذكر لله وخاصة الكلمة الطيبة المطيبة لا إله إلا الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستغفار والدعاء، والصلاة والنوافل وتلاوة القرآن ومجالس الإيمان…..

“الذكر توحيد المعبود، وإفراده بالعبادة، والمواظبة على العبادة، والخشوع في العبادة. كل حركات المومنين والمومنات عبادة تقرب إلى الله إن كان لها الصدق حادياً، والصواب ضامناً، والتقوى شافـعاً. “إنما يتقبل الله من المتقين”. 23

بالذكر تحيى القلوب وتصفو وتتزكى الأرواح وتعلو، بالاستغراق في بالذكر تطمئن النفوس إلى امر الله وتتزكى وتصفى الأسرار وترقى. حياة الفرد وبه تحيى الجماعة والأمة.

“الإيمان يتجدد بالإكثار من قول لا إله إلا الله، فعندما تكون الصحبة صالحة، رجلا صالحا وجماعة صالحة، ويقبل الكل على ذكر الكلمة الطيبة النورانية حتى يخرجوا عن الغفلة، ينشأ جو إيماني مشع، ينشأ في الجماعة فيض إلهي، رحمة، نور تستمد منه القلوب بعضها ببعض. فتلك هي الطاقة الإيمانية، الجذوة الأولى التي تحرك القلوب والعقول لتلقي القرآن بنية التنفيذ كما كان يقول سيد قطب رحمه الله” 24..

ت‌-   أثره

التغيير العميق له أثر وتجلي على روح المؤمن وعقله وحركته، روح شفافة ونسمة طيبة، والعقل قد استنار حكمة ومعرفة وقصدا، والتصرفات على وزان الرشد والسداد.

أثر في النفس وهو هذا التحول الكلي الذي يعيشه المؤمن وأثر في الآفاق وهو السعي لإقامة الخير في العالمين.

“يبدأ التغيير الجدري العميق الانقلابي بتوبة المومن والمومنة. ينقلبان من الأنانية المرسلة الهائمة، ومن العقلية المنكمشة في سياق ثقافتها أو أميتها، ويتحرران من العادات الممسكة عن الخير، الساكتة عن المنكر لا تنهى عنه، وعن المعروف لا تأمر به، وعن علم الحق لا تتعلمه ولا تعلمه، وعن المعونة لا تبذلها، وعن العمل الصالح لا تتآزر عليه، وعن التميز الذي أمر المومنين أن يتميزوا ليكونوا شامة خلق وسلوك بين الناس، وعن الرفق والتؤدة، وعن الصبر والمصابرة، وعن الجهاد” 25 .

“يتغير موقف الإنسان المؤمن من نفسه ومن العالم بالتوبة إلى الله الشاملة، أو يُنشَّأ على الإيمان من صباه وشبابه، فهو على الاستقامة. والمؤمن التائب والناشئ على إيمان يضع أوامر الله عز وجل مواضعها في كل جوانب حياته. تصطبغ حياته بصبغة الله، وتنضبط بطاعة الله. ينبعث. ينبري. يسارع في الخيرات يسعى سعي الآخرة لا كدح الدنيا” 26.

خاتمة

اختم بكلمة من رسالة تذكير تكون تذكيرا برسالة من رسائل الرجل في الموضوع: “إنه عمرك! إنها قضيتك! إنه قبرك! إنه بعثك! إنها جنتك أو نارك! إنه ربك! كيف صدتك الصواد عن طلب مولاك؟ أم كيف أَصمَتتْكَ نداءات “هَوَس العالم” عن سماع منادي الله ؟ لفظ بلا معنى أنت”  27 !.

“إن أهم قضايا التجديد هي قضية إحياء الربانية في الأمة. ثم هناك بعدَ ذلك في الاعتبار القضايا الكبرى الجهادية السياسية، وموقفنا من الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وهي دين العصر، وبديلنا عن النظام الرأسمالي، ونظريتنا وبرامجنا لبناء الدولة الإسلامية، ووسائلنا وجهودنا لتوطين العلوم والصنائع في بلاد المسلمين، وخطتنا لتوحيد الأمة وجمع شتاتها. ثم مشاكلنا الداخلية التربوية التعليميّة الناتجة عن تعددية الحركة الإسلامية. كل هذا يُلح على فكرنا” 28.

“إن اكتساب الهوية الإحسانية الإيمانية الربانية هو الضمانة الوحيدة ليكون الله عز وجل معنا، ولتكون الدنيا وبروزُنا فيها وقوتنا وانتصارنا مَدْرَجةً لسعادة كل فرد منا في الآخرة، وليكون التقرب إلى الله عز وجل بالجهاد في سبيله ثمنا لمقعد الصدق الذي ينتظر المحسنين عند الله” . 29

رحمه الله رحمة واسعة ورحمنا به.


[1] عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان
[2] العدل: الإسلاميون والحكم ص: 691.
[3] إمامة الأمة: 88.
[4] المنهاج النبوي، ص 328
[5] إمامة الأمة 87.
[6] المنهاج النبوي 242.
[7] إمامة الأمة ص: 88
[8] رجال القومة والإصلاح 7.
[9] رجال القومة والإصلاح ص: 7
[10] إمامة الأمة ص: 88
[11] تنوير المؤمنات، ج1،ص: 10
[12] الإحسان 1 / ص 26
[13] إمامة الأمة ص: 86
[14] حوار مع الفضلاء الديمقراطيين ص: 216
[15] الإسلام والحداثة
[16] المنهاج النبوي
[17] حوار الفضلاء ص: 98- 99
[18] رواه الإمام أحمد رحمه الله
[19] المنهاج النبوي
[20] وصيتي
[21] حوار الإمام رحمه الله مع محمد منار حول موضوع الصحبة في الجماعة
[22] المنهاج النبوي
[23] رسالة تذكير
[24] المنهاج النبوي
[25] حوار مع الفضلاء الديموقراطيين: 98- 99
[26] حوار مع الفضلاء الديموقراطيين: 98- 99
[27] رسالة تذكير
[28] تنوير المؤمنات 1/ 388
[29] الإحسان