الاستبداد بين الكواكبي وإيتان دو لابويسي

Cover Image for  الاستبداد بين الكواكبي وإيتان دو لابويسي
نشر بتاريخ

لا شك أن شح الكتابة عن الاستبداد يجعلها أكثر دقة وأعمق نظرة في استكناه جذرو الاستبداد وأساليبه، وهذا ما حملني على سرد توصيفين بارعين لهذا الداء العضال، انطلاقا من كتابين أو بالأحرى كتاب ومقالة، لكاتبين تفرقا في المشرب والمرجعية زمانا ومكانا، لكنهما اتفقا في جمالية ودقة وصف العلاقة بين الحاكم و”الرعية”، ودور الشعوب في صنع الطغاة، وكذلك في تشقيق النظر عند تشخيص مرض الاستبداد وطبائعه، وانتهاءً بتوصيف الدواء لمناهضة الاستعباد ووسائله الرامية إلى تخدير وإذلال شعوبهم، ونظرا لوضوح عباراتهم ثم طلبا للإيجاز، أجدني ملزما على اقتباس كلماتهم المعبرة دون تعليق.

أما الكتاب الأول «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، لصاحبه عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله (1855 – 1903م) 1، وأما المقالة للفرنسي إتيان دو لا بويسي (1530, 1563م) كاتب وقاض فرنسي.

1.    الاستبداد أصل الانحطاط “وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ”

لم يكن (ولم يعد الآن خاصة في زمننا) أدنى شك أو ارتياب في كون الاستبداد أصل الانحطاط، يقول الكواكبي: “قد تمحّص عندي أنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي” 2، وأشدّ مراتب الاستبداد عند الكواكبي “هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية” 3.

كذلك صنف دو لا بويسي أنواع الطغاة إلى ثلاثة أصناف: “صنف يحكم لأن الشعب قد انتخبه، وصنف انتزع الملك بقوة السلاح؛ وصنف ثالث جاءه الملك بالوراثة. والذين ولدوا ملوكا فليسوا أفضل من هؤلاء بوجه عام، نشأوا في حضن الطغيان إنما يرضعون مع الحليب طبيعة الطاغية، ويعاملون الشعوب التي يحكمونها كما لو أنهم عبيد لهم بالوراثة” 4.

2.    الاستبداد وتوظيف الدين أو الخرافة لإلهاء الرعية

لا غرو في أن الاستبداد السّياسي يسخر الاستبداد الدِّيني، ولنا في واقعنا أمثلة بل حقائق، جعل الكواكبي هذه العلاقة على صورة تشاكل وتكامل، يقول “إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله. ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد” 5.

فالغاية واحدة ولكن تتكامل الوسائل، يفصِّل دو لابوسي في استغلال الطاغية المستبد للخرافة والأساطير لتقديس شخصه وتنويم شعبه، فيذكر أمثالا وبها يفهم المقال، عن ملوك “لا يظهرون أمام الملأ إلا بعد مرور بعض الوقت لكي يبعثوا الشك في أذهان العوام إن كان هؤلاء الملوك بشرا أم شيئا آخر فوق البشر، ويتركوا الناس يتخبطون في هذه التخيلات التي يمكنهم الحكم عليها عيانا” 6، في حين أن ملوكا آخرين أقنعوا شعوبهم أن “إبهام ملكهم يصنع العجائب ويشفي أمراض الطحال، وبالغوا في الأمر حتى رووا أن هذا الإصبع وجد سليما في الرماد بعد احتراق جثمان الملك كله، وهكذا يفعل الشعب الغبي على الدوام فيخترع الأكاذيب ثم يصدقها 7.

3.    وسيلة نشر الرذيلة “أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون”

وسيلة أخرى يستعملها المستبدون للنيل من الرأسمال الأخلاقي لشعبهم ومعارضيهم، وهي إغراق المجتمع في مستنقع الرذيلة، يقول الكواكبي “من طبيعة الاستبداد ألفة الناس بعض الأخلاق الرديئة” 8 ويترك الإنسان الدين والحياء جانباً وينحطّ في أخلاقه إلى ملاءمة المستبد الأعظم أو أحد أعوانه وعماله” 9. ولأن الاستبداد يشيع الفساد الخلقي، من أكبر الهرم إلى أسفله، فإن ذلك يجعل الناس خائفين من المواجهة فيغضون الطرف عن أي شكل من الانحراف الإداري والخلقي. «أقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس، أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، وأنه يعين الأشرار على إجراء غيّ نفوسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح” 10، كما أن «الاستبداد يضطر الناس إلى استباحة الكذب والتحايل والخداع والنفاق والتذلل، ومراغمة الحس وإماتة النفس ونبذ الجد” 11.

ونفس الوسيلة يذكرها إتيان دو لابوسي، ويسميها “الحيلة الماكرة” وهي “بفتح مواخير وحانات للدعارة وشرب الخمور وملاه للألعاب الشعبية، فيحض السكان على ارتياد تلك الأماكن الموبوءة” 12، ثم يقر بأن “المسارح، والألعاب، والمساخر، والمشاهد، والبهائم الغريبة، والأوسمة، واللوحات وأشياء أخرى من هذا القبيل كانت أشكالا من الطعوم لإبقاء الشعوب القديمة في فخ العبودية، وثمن حريتها، وأدوات الطغيان. وكان الطغاة القدامى يمتلكون هذه الوسيلة، وهذه الممارسة، وهذه المغريات، لتنويم رعاياهم تحت النير، وكانت الشعوب المخبلة، وقد أعجبتها هذه التسالي” 13.

4.    الغاية اقتلاع جذور الاستبداد وليس إزاحة المستبدين

حكمة بالغة قرَّرها الحكماء “أنَّ الحرية التي تنفع الأمَّة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأمَّا التي تحصل على أثر ثورةٍ حمقاء فقلّما تفيد شيئاً؛ لأنَّ الثورة -غالباً- تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولاً” 14.

نجد كذلك دو لابوسي يتأسف عن محاولات تحررية فاشلة بنِيّات دونية، فيقول “لم تكن غايتهم خلع التاج بل تغییر حامله مدعين طرد الطاغية مع الإبقاء على الطغيان. هؤلاء ما كنت لأرغب في نجاحهم، ويسرني أنهم ضربوا بصنيعهم المثل على أنه لا ينبغي استخدام اسم الحرية المقدس لتحقيق غاية سيئة.”

5.    نهاية المستبد “وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون”

يرى الكواكبي بأن بداية نهاية المستبد تكون بشعور الأمة كلها بآلام الاستبداد وضرورة استعادة حريتها، فيقول في ذلك: “إن الأمَّة التي لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة” 15. لذلك فهو يقترح مبدأ التدرج واللين، فإن الاستبداد لا يقاوَم بالشِّدة، إنما يُقاوم باللين والتدرُّج. ويشترط الكواكبي على أنه “يجب على الأمة قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ما يُستَبدَل به الاستبداد” 16.

وعلى نفس النهج يقترح دو لابوسي أسلوب الممانعة والمعارضة الجماعية، فيقول: “إنّ بوسعكم التخلص من تلك الموبقات الكثيرة التي لا تقوى البهائم على تحملها لو كانت تحس بها، إنّ بوسعكم التخلص منه إذا سعيتم… لاتسعوا إلى التخلص منه، بل أعربوا عن الرغبة في ذلك فقط، احزموا أمركم على التخلص نهائيًا من الخنوع وها أنتم أحرار. أنا لا أريد منكم الإقدام على دفعه أو زحزحته، وإنما الكف عن دعمه فقط، ولسوف ترونه مثل تمثال عملاق نزعت قاعدته من تحته، كيف يهوي بتأثير وزنه فيتحطم” 17، كأنه يتمثل قوله تعالى “كلا لا تطعه”.

6.    عين الله لا تنام

يُذَكِر الكواكبي المستبدّين منذرا ناصحا فيقول: “لا يفرحنَّ المستبدُّ بعظيم قوَّته ومزيد احتياطه، فكم جبّارٍ عنيدٍ جُنِّد له مظلومٌ صغير، فكم من جبّار قهّار أخذه الله أخذ عزيزٍ منتقم” 18.

كذلك ختم دو لابوسي مقالته مستحضرا عظمة عدل خالقه “ولنرفع أعيننا نحو السماء صونا لكرامتنا، أو حبا بالفضيلة ذاتها، أو إذا تكلمنا عن علم، وعلى وجه اليقين، حبا بالله الكلي القدرة وإجلالا له، وهو الشاهد الذي لا يغفل عن أفعالنا، والقاضي الذي يحكم بالعدل على أخطائنا. أما أنا فأعتقد، ولست بمخدوع، أن الله الغفور الرحيم، لما كان الطغيان أبغض شيء إليه، قد أعد للطغاة وشركائهم عقابا خاصا في الدار الآخرة 19.

7.    لفتة

أختم بلفتة عابرة لدو لابوسي عن قوم ألفوا العيش تحت ظل الطغاة فيقول: “هؤلاء هم بنو إسرائيل الذين أقاموا عليهم طاغية من دون أن يكونوا مكرهين على ذلك أو محتاجين إليه – إن هذا الشعب لا أقرأ تاريخه إلا تملكني غيظ شديد حتى لأوشك أن أتجرد من إنسانيتي فافرح بما حاق به من ويلات” 20.


[1] قتل مسموما في مصر، نقش على قبره نقش بيتان لحافظ إبراهيم؛

هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى.. هنا خير مظلوم هنا خير كاتب

قفوا واقرؤوا أمّ الكتاب وسلموا عليه، فهذا القبر قبر الكواكبي


[2] عبد الرحمن الكَوَاكِبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، المطبعة العصرية حلب، 1959، ج1 ص8.
[3] الكَوَاكِبي، طبائع الاستبداد، ج1 ص18.
[4] إتيان دو لا بويسي، العبودية المختارة Discours de la servitude volontaire، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، ط 1، 2016، ص 40.
[5] الكَوَاكِبي، طبائع الاستبداد، ج1 ص29.
[6] العبودية المختارة، ص 69.
[7] العبودية المختارة، ص 71.
[8] الكَوَاكِبي، طبائع الاستبداد، ج1 ص 104.
[9] الكَوَاكِبي، طبائع الاستبداد، ج1 ص88.
[10] الكَوَاكِبي، طبائع الاستبداد، ج1 ص100.
[11] الكَوَاكِبي، طبائع الاستبداد، ج1 ص122.
[12] العبودية المختارة، ص 63.
[13] العبودية المختارة، ص65.
[14] الكَوَاكِبي، طبائع الاستبداد، ج1 ص 176.
[15] الكَوَاكِبي، طبائع الاستبداد، ج1 ص 174.
[16] الكَوَاكِبي، طبائع الاستبداد، ج1 ص175.
[17] العبودية المختارة، ص 37.
[18] الكَوَاكِبي، طبائع الاستبداد، ج1 ص 175.
[19] العبودية المختارة، ص89.
[20] العبودية المختارة، ص 43.