الإنسان بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة (8).. أوجه الاختلاف بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي

Cover Image for الإنسان بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة (8).. أوجه الاختلاف بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي
نشر بتاريخ

بالرغم من وجود بعض المشتركات بين المنهجين، إلا أننا نلمس التباين واضحا حينما ندخل في الجزئيات والتفاصيل وكذا في الغايات، وتتجلى مظاهر هذا الاختلاف في:

المرجعية الفكرية

نشأ مفهوم التنمية وترعرع في الغرب سواء عن طريق سوسيولوجيا الغرب أو عن طريق الهيآت الدولية. ولا تخلو هذه النشأة من إيديولوجيات، فجميع المصطلحات المستعملة ونوعية ميادين التنمية لها منحى خاص، إذ نجد من ورائها أغراض إيديولوجية تحركها، ولعل هذا هو السبب في محدودية مضامين التنمية البشرية وقصورها، حيث إنها من صنع الناس.  في حين نجد المنهج الإسلامي يدعو إلى ضرورة انطلاق أي مبادرة من الكتاب والسنة، محافظا على القيم الإسلامية، ملتزما بقطعيات الشريعة، وساعيا إلى تحقيق المقاصد والمصالح المعتبرة في ديننا. وتتجلى مظاهر هذا الاختلاف في:

1. المصدر

ارتبط مفهوم التنمية البشرية بمجموعة من الإيديولوجيات والنظم التي اختفت وتراجعت لتفسح المجال أمام نظم وتجارب وإيديولوجيات مخالفة اعتمدت على الحرية الاقتصادية والنمو التلقائي للأنشطة، وترك الأمور للآليات الطبيعية، ولقوى السوق، ولحركة الأفراد. وقد أضحت لدينا اليوم قاعدة نظرية، عريضة وثرية، حول التنمية البشرية، التي ارتبطت بنمط الخلفيات الأيديولوجية والفكرية لمؤسسات ودوائر البحث العلمي، والجهات الراعية لها، مما أدى إلى بروز عدة تناقضات. وهذا ما لا نجده في الشريعة الإسلامية التي تعتمد على الوحي المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، قرآنا وسنة. والمقصود بها أن المنهج الذي رسمه الإسلام للوصول إلى غاياته وأهدافه، منهج رباني خالص لأن مصدره وحي الله تعالى إلى خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم 1. فكان الإسلام هو المنهج الفذ الذي سلم مصدره من تدخل البشر، وتحريف البشر، ذلك أن الله تعالى تولى حفظ كتابه ودستوره الأساسي بنفسه وهو القرآن المجيد، وأعلن ذلك لنبيه ولأمته.

2. الصلاحية

أصدر فريق التنمية البشرية التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريره العاشر 2021-2022 بعنوان “زمن بلا يقين، حياة بلا استقرار”، رسم مستقبلنا في عالم يتحول، والذي بدأت فيه الأنشطة البشرية تمارس تغييرات جذرية، الأمر الذي أدّى إلى اللايقين وغياب الأمن. وانطلق محرر التقرير من اعتبار أن النظام العالمي الجديد، الذي جرى تصميمه لمواجهة تحديات ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد بإمكانه، في ضوء ما يجري في العالم اليوم من تحولات، أن يواجه تحديات ما بعد الألفية. وهذا دليل قوي على محدودية صلاحية خطط التنمية البشرية. في حين نجد أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، فهي شريعة حية قابلة للتطور حسب الظروف الزمانية والمكانية، بما احتوته من مبادئ عامة وقواعد كلية، كفيلة بأن تلبي مطالب الإنسان، وقد أثبتت ذلك من خلال تاريخها الطويل، وقد رأينا أن الفقهاء المسلمين كانوا دائما يستنبطون الأحكام الملائمة للحوادث والنوازل الطارئة مستنبطينها من المصادر الأصلية لهذا التشريع، وقياسا عليها مما لم يرد فيها منصوصا.

3. الاستمرارية

يتجه التقرير السابق إلى تشخيص أحوال البشر ومجتمعاتهم، وأنظمتهم التنموية في ضوء الملامح الجديدة لعصرنا، حيث تؤدي التغيرات المناخية وما يترتب عنها من تقليص في التنوع البيولوجي، إلى نتائج لا نستطيع اليوم توقع ما سيترتب عنها في كوكبنا. لذا يدعو الفريق الذي أعد مفاصل التقرير وخلاصاته إلى بناء التصورات المساعدة في عمليات تطوير مبادئ وإجراءات التنمية البشرية وتكييفها، لتصبح قادرة على مواصلة مشروع التنمية البشرية في عالم متغير. وفي المقابل نجد أن الشريعة الإسلامية ثابتة ومستمرة إلى اليوم الآخر، دون تغيير أو تبديل، ودليل ذلك قول الله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 2. ومع كون الشريعة الإسلامية ثابتة لا تبديل لها، إلا أنها شريعة مرنة تحقق مصلحة الأفراد مهما اختلفت أحوالهم وظروفهم، ومما يدل على ذلك إتيانها في بعض الأبواب بأحكام عامة، دون أن تتعرض للتفاصيل والجزئيات، وإنما تركت الأمر لاجتهاد العلماء بما يحقق المصلحة العامة.

المعتقدات والمسلمات

سيتم مناقشة مجموعة من المسلمات التي تعد من البديهيات، التي تسود حقل التنمية البشرية في العالم الغربي، وبالتبعية في عالمنا الإسلامي، ولا يقصد باختيار هذه المسلمات أنها الوحيدة، بل يمكن اعتبارها الأهم:

1. النظرة المادية

تظهر النظرة المادية للإنسان جلية من خلال كتابات رواد التنمية البشرية، فها هو نابوليون هيل مؤسس علم التنمية البشرية يطرح قانون النجاح فيقول: “الأفكار هي أشياء ملموسة حقا، وتصبح قوية عند تحقيقها خصوصا عندما يتم مزجها بوضوح الهدف والمثابرة والرغبة المشتعلة لترجمتها إلى ثروة أو أي أمور مادية أخرى” 3. عند التأمل في هذه القولة تظهر لنا النزعة المادية جلية، فلا أثر للغيبيات ولا وجود للتوكل على الله والاستعانة به سبحانه. بينما يختلف الأمر في الشريعة الإسلامية، حيث تحث نصوصها على التحلي بروح الإيمان بالله ورسوله، الروح المحرِّكة التي بها تتحقق التنمية، وتتأتّى العدالة، وتتألق الحضارة، وتتميز الهوية، ومنها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ” 4.

2. تعظيم القدرات البشرية

يعتبر فهم الطبيعة البشرية في المنهج الإسلامي ضرورة لا غنى عنها من أجل تحقيق التنمية البشرية، لأن ذلك يساعد على تقدير القدرات الأصلية للإنسان من جهة وفهم الاحتياجات الإنسانية من جهة أخرى. كما أن الله تعالى منحه قدرات فطرية، بالإضافة إلى القدرات المكتسبة، وجعله مسيرا في أمور ومخيرا في أخرى، وبهذا يسهل تحديد مسؤوليات الناس ونطاق تفاعلهم وخياراتهم. بينما يختلف الأمر في المنهج الوضعي حيث يعتبر أن نطاق قدرات البشر لا نهائي، وأن القيمة التي يوليها كل فرد لكل قدرة قد تختلف من شخص إلى آخر، فالتقدير يؤول للفرد وهو حر تماما في الاختيار بين ظروف المعيشة المختلفة.

3. وحدة المصدر في التراكم المعرفي

تنطلق نظريات التنمية البشرية من مسلمة مفادها؛ أن المعرفة تنبني على الواقع الملموس، وبذلك فهي تنفي وجود أي مصدر معرفي آخر مستقل عن المصدر المعرفي البشري. وبهذا أصبح الواقع مصدرا للتنظير واستمداد المعايير الحاكمة على الواقع ذاته والمحددة للمستقبل. وعلى النقيض من ذلك، نجد مفهوم الاستخلاف كأساس للحركة البشرية في إعمار الأرض يقوم على مسلمة أساسها التوحيد كمفهوم ومنهج صادر عن الله سبحانه وتعالى. حيث يعد هذا المفهوم رباط المفاهيم الإسلامية وجوهرها. والتوحيد يعني أن مصدر المعرفة واحد، وخالق الكون واحد، وواضع الحق واحد.

الأهداف والمؤشرات والوسائل

منهج التنمية البشرية يهدف إلى تحقيق مبادئ التنمية الأساسية والتنمية البشرية، وهي دعوة إلى الإنصاف والإنتاجية والكفاءة والمشاركة والتمكين والاستدامة، أما في المنظار الإسلامي فهي شمولية اقتصادية واجتماعية وبشرية وروحية وثقافية غايتها تكريم الإنسان. وهذا يدل على سعة الشريعة الإسلامية وعظمتها وعلى محدودية التنمية البشرية وقصورها، ويظهر هذا الأمر جليا في:

الأهداف والغايات
نلاحظ من خلال التأمل في مضامين التنمية البشرية أن هناك بون شاسع بين أهدافها بعنوانها العام وبين أهداف التنمية أو أهداف تنمية الموارد أو غيرها، والتي تسعى كل منها لإيقاظ القوة الكامنة لدى الإنسان بغية الارتقاء به من مستوى إلى مستوى أعلى، وأيضا لتوسيع خياراته المشروعة لسد حاجاته الأساسية في المجالات كافة. وهذين الهدفين يعتبران ثانويين لأنهما ينضويان تحت هدف أكبر هو خدمة الإنسان. في حين نجد الشريعة الإسلامية تدعو إلى اعتبار هذين الهدفين سبيلين لتأمين الهدف الأكبر والأسمى من وجود الإنسان أصلا، التي نعني بها علة خلقه وهي عبادة الله تعالى. وتعتبر العبودية لله سبحانه وتعالى في المنهج الإسلامي، أعلى مؤشرات تقييم الأنشطة البشرية والإنجازات المحققة.

المقاييس والمؤشرات
من خلال قراءتنا لما سبق يتضح لنا أن مقاييس التنمية البشرية تتباين على قدر تباين مضامين التنمية البشرية وتباين حاجات الإنسان، لذا لا يكون هناك معيار ومقياس خاص لمؤشرات التنمية البشرية، ولعل السبب في عدم ثبوت مقاييس التنمية البشرية واستقرارها مرجعه سعة خيارات الإنسان، حيث يعد بندا غير دقيق؛ مفاده تجدد حاجات الإنسان المستمرة، وبالتالي فمقاييس التنمية البشرية لا يمكنها استيعاب العملية التنموية برمتها وتحديد مساراتها. أما المنهج الإسلامي فله رؤيته الخاصة في قراءة العملية التنموية، مما حدا أن تكون له مقاييس خاصة به، حيث اهتم بمقاييس تقدم وتخلف أي فرد وجعل لذلك مجموعة من المؤشرات تعد بمثابة مقياس لتحقيق التنمية من عدمها، فضلا عن ضرورة انسجام الجانب النظري والعملي وتماثل أحدهما مع الآخر، لذا كانت الرؤية الإسلامية في مقياس التنمية مرتكزة على خصائص من الشمول والتوازن وغيرها.

الوسائل والآليات
لتجسيد التنمیة البشرية لابد من وضع إصلاحات بنیویة عمیقة ووسائل جدیدة للعمل في كل المیادین، لكن هذا الأمر يصعب تحقيقه في الدول النامیة، لأنها بحاجة إلى تمویل، وإلى تكنولوجیا متطورة لا تتوفر علیها، وهذا یشكك في فعالية وسائل وآليات التنمية البشرية ما دامت غیر قادرة على تجسیدها میدانیا. ومن الصعب كذلك تعزیز خيارات الناس في دول لا تمنحهم القدرات ولا الفرص المناسبة لاستخدامها، ولا یمكن لهم التأثير في القرارات والعمليات التي تشكل أساس حياتهم. وهذا الأمر يختلف تماما في المنهج الإسلامي الذي يهدي إلى عقيدة واضحة سهلة لا غموض فيها ولا التواء، تحرر الروح من الأوهام والخرافات وتحرر طاقات البشر للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.


[1] يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، ص: 35.
[2] سورة الأنعام، الآية: 115.
[3] نابوليون هيل، “فكر وازدد ثراء”، ص: 9.
[4] صحيح الترمذي.