إضاءات حول مفهوم القومة عند الإمام عبد السلام ياسين (6)

Cover Image for إضاءات حول مفهوم القومة عند الإمام عبد السلام ياسين (6)
نشر بتاريخ

من يقوم القومة؟

كان الإمام رحمه الله حصيف الرأي دقيق العبارة في مقاربته الإجابة عن هذا السؤال المحير لألباب مريدي التغيير الشاغل لعقولهم المخيم على تفكيرهم منذ عقود، بل قرون، وبنظرة جمعت بين المثالية والواقعية في آن واحد، يذهب إلى إمكان القومة على الاستبداد وعدم استحالتها إن وجدت كتلة قيادية مجندة واعية بما تعنيه القومة من صعاب. ألا وهي الجماعة الإسلامية المتصدية أو رابطة الجماعات المتحالفة، ومن حولها الشعب ملتفا واثقا باذلا الثمن من تضحيات يومه ليؤمن بعد محنة الشدة رخاء الغد) 1 ، وفي موضع آخر يقول رحمه الله موضحا القائم بالقومة ومؤكدا محورية الشعب فيها اتقاء الفشل: قد تكون الخطوة الأولى في القومة من عمل جماعة محدودة. لكن إن لم تجعل هذه الجماعة هدفها الأول إخراج عامة الأمة من دين الانقياد، وخمول الاستسلام، ولم تحارب ذهنية الرعوية القطيعية فستكون حركتها مغامرة فاشلة) 2 .

لم يجازف الإمام بالدعوة في عملية التغيير، بدليل شرطه قيام جماعة محدودة بالقومة على الاستبداد بالقدرة على النجاح، حتى لا تكون حركتها مغامرة فاشلة) وسقطة نهائية) تذهب ريح الدعوة، إلى جانب ذلك شدد في مسألة في غاية الأهمية تتمثل في تقدير الظروف المحلية والإقليمية والعالمية، وتشكيل تحالفات ترفض الظلم وتقاومه، وتطلب العدل وتسانده، فيتنادى مريدو التغيير من مختلف الأطياف، ويجتمعوا على كلمة سواء مشكلين الكتلة القيادية) القادرة على القيام الجماعي الصلب) في وجه الاستبداد. وهنا يمكن تسجيل ملاحظة مهمة تميز الأفق التنظيري للرجل رحمه الله، وهي كونه يفكر لأقطار الأمة ولا يحبس تفكيره في القطر الذي ينتمي إليه، وعليه فإنه يرى رؤية القارئ لواقع الأمة بنباهة وعينه على مستقبلها:

– استحالة قومة متزامنة في كل الأقطار 3 .

– اختلاف صور القومة ومراحل الانتقال من قطر لقطر 4 ، فلا نحصر أسلوب الإزالة ولا مسار المناورة السياسية في صورة واحدة لاختلاف الأحوال في الأقطار، وتقلبها في الأزمان) 5 .

تذكير بماهية القومة

من الوجيه قبل الحديث عن مرحلة القومة على الاستبداد التنبيه إلى أن كثيرا من الكتاب والمحللين يجانبون الصواب لما يختزلون معنى كلمة قومة في إسقاط الاستبداد، ويغفلون تتبع استعمالها ودلالاتها في كتابات الإمام رحمه الله. لذلك – تأكيدا لما سبق عرضه من تعاريفها في الحلقة الأولى من السلسلة – نورد تعريفا آخر لها، جامع لمعانيها محدد للقائمين بها راسم لخطها الزمني ملمح لعقباتها، قال بأنها قيام من السقطة الكبيرة التي انحدرت فيها الأمة عدة قرون، فهي عملية طويلة المدى، معقدة، تريد الصبر والمصابرة. إنها قضية أجيال، وعلى الجيل البادئ في التحويل مسؤولية الدلالة على الخط القويم ومسؤولية توجيه الجهود وجهة البناء العميق لعقود من السنين قبل أن تقطف الثمار) 6 ، والقومة على الاستبداد وأخذ مقاليد الحكم) ما هي في نظره إلا لحظة من لحظات) القومة وخطوة لازمة من خطواتها) 7 ، وعليه، يجد القارئ لكتاباته استعماله لكلمة القومة) وتعبيره عنها في الأزمنة الثلاثة: الماضي قبل القومة) أي مرحلة الإعداد، والحاضر أثناء القومة) يقصد بها مرحلة تقويض الاستبداد، والمستقبل بعد القومة) يعني به مراحل البناء والإصلاح في أفق تحقيق وحدة الأمة.

القومة على الاستبداد

بناء على ما سبق يعتبر الإمام القومة مراحل) ومهمة أجيال)، وينيط بالجيل البادئ في التحويل) مسؤولية كبيرة في إنجاح مرحلة إسقاط الاستبداد، والتهييء لمراحل البناء العميق المتدرج للأمة في شتى المجالات. ويربط نجاح القومة الإسلامية ببلوغ مريدي التغيير إسلاميين وغيرهم درجة اليقظة والتجند الواسع) وبلوغ السخطة الشعبية عرامتها) بتألف الموجة العارمة)، في مقابل بلوغ الأنظمة غاية الفشل)، حينئذ يمكن إيقاف الفساد بالعصيان الشامل، والإضراب العام، والنزول للشارع) 8 .

أعطى الإمام حرية اختيار أسلوب القومة في حدود مرسومة: 9

حد مبدئي: هو وجوب عصيان من لا يطيع الله من الحكام.

وحد عملي تطبيقي: هو الرفق ونبذ العنف وتحاشي سفك دماء المسلمين بوصفه مبدأ قرآنيا نبويا.

بين القومة السلمية والمسلحة

يذكر الإمام ياسين في كتابه “رجال القومة والإصلاح” الصيغة المثلى للقومة) المتمثلة في أمرين: أولهما: مقاومة الظلم، وثانيهما: مقاطعة الظالمين: لا نواكلهم ولا نشاربهم ولا نجالسهم، قال رحمه الله وهمه التنظير لأقطار الأمة: فلو قدرنا أن نتجنب استعمال السلاح ضد الأنظمة الفاسدة، ونقاطعها حتى تشل حركتها، ويسقط سلطانها، وترذل كلمتها كما فعل إخواننا في إيران، لكان ذلك أشبه بروح الإسلام الذي يوصي ألا تسفك دماء المسلمين بينهم)، ثم استطرد قائلا: على أن المقاطعة والمقاومة الصابرة، متعانقين، قد لا تتأتى ظروفهما في كل قطر من أقطار الإسلام. وقد لا يناسب هذا الأسلوب حالات يكون فيها الحاكم الباطش متمثلا في شرذمة ثعلبية مستأسدة كما هو الحال اليوم في سوريا) 10 ، صدقت – رحمك الله- فما فعل بشار وزبانيته بشعبه يؤكد ما قلته شرذمة ثعلبية مستأسدة) لا ترقب في طفل ولا امرأة ولا مسن ولا شاب وشابة ولا دار إلا ولا ذمة.

في غير موضع من كتاباته رحمه الله تعالى، يثبت رفضه للعنف وكرهه له، ففي معرض حواره مع الفضلاء الديمقراطيين وتحذيره من العنف الذي يبسط جناحيه في أفق الفشل الذريع الذي جره على الأمة التنازع ما بين لبراليين يمينيين وقوميين يساريين اشتراكيين وحدويين، يقول: ولا نحب العنف ولا نقول به. ونعوذ بالله العلي العظيم من خصلة العنف وهي ملمح من ملامح الجاهلية، ولازمة من لوازمها، ومعنى من معانيها) 11 ، بل إنه عد انفلات الغرائز وتحول الغضب الجماهيري الثوري الأهوج إلى عنف بلا قيود ثورة – بالمعنى الإسلامي للكلمة -، واعتبرها أختا للانقلاب من أعلى)، مثلما اعتبر في صور القومة العمل المسلح والحرب الأهلية بين المسلمين أبعد هذه الصور عن المنهاج النبوي) 12 .

إن الرفق والسلمية أصل من أصول الإسلام، وسلوك نبوي أصيل، بنى عليه الإمام ياسين رحمه الله نظريته المنهاجية في التغيير، فكرا وممارسة، لذلك حيرت جماعة العدل والإحسان التي أسسها أولي النهى والألباب في نموذجيتها السلمية النابذة للعنف المتبرئة منه، وقد نصح الإمام مريدي التغيير دعاة وغيرهم بأن لا يكون “غاندي” الذي شغل العالم بحكمته في تدبير الثورة وتنظيم العصيان المدني أكثر من ثلاثين عاما أذكى منهم، فقال: فلنحن أولى بنبذ العنف والمسلمون خليط، حكامهم ومحكوموهم، ما بين بر يجب صونه، وفاجر داعر لا يهتدي سبيلا هو أولى بكلمتنا وتوجيهنا، ومومن يجب الولاء له والمواداة، والرايات العمية المضببة كثير، وجماعة المسلمين التي من فارقها فمات فميتة جاهلية أين هي؟) 13 .

يتبع..


[1] في الاقتصاد، البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية، عبد السلام ياسين، ص 203.\
[2] رجال القومة والإصلاح، عبد السلام ياسين، ص 32.\
[3] المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا، عبد السلام ياسين، ص 96.\
[4] المرجع نفسه، ص 308.\
[5] سنة الله، عبد السلام ياسين، ص 292.\
[6] المرجع نفسه، ص 292.\
[7] المرجع نفسه، ص 292.\
[8] ينظر المنهاج النبوي، ص 230- 21- 11.\
[9] سنة الله، مرجع سابق، ص 296.\
[10] رجال القومة والإصلاح، مرجع سابق، ص 36.\
[11] العدل، الإسلاميون والحكم، ص 582.\
[12] سنة الله، ص 292.\
[13] المرجع نفسه، ص 296-297.\