ابن عرضون: فقيه أنصف المرأة المغربية (2)

Cover Image for ابن عرضون: فقيه أنصف المرأة المغربية (2)
نشر بتاريخ

إن تأهب بعض فقهاء المغرب الحديث لإنصاف المرأة، لا ينفي ما لمحت له بعض الأجناس المصدرية، حول ما كانت تعانيه من تهميش وإقصاء، بل تؤكد  قتامة الوضع الذي استدعى استنفار ثلة من الأعلام ليدافعوا بجرأة عن حقوق اغتصبت منها، بحكم أعراف وتمثلات كرست النظرة التشكيكية، التي ما زلنا نتلمس آثارها لحدود يومنا هذا، باعتبار ما تثيره قضية المرأة في التاريخ الراهن من نقاشات حقوقية صرفة تحتاج إلى قراءة تشريحية لتاريخ انتكاستها، بكل أبعاده التي تفيد في فهم المتحكم في الثابت والمتغير من أوضاعها الاجتماعية.

ويعتبر الفقيه ابن عرضون أحد الأعلام الذي وقف موقفا رائدا في قضية المرأة، من خلال اجتهاداته التي اعتبرت سابقة لأوانها، تنم عن وعي قلما وجد في فقهاء عصره، الذين ثاروا ضد أفكاره الإصلاحية وشنعوا عليها؛ باعتبار ما ترسخ في ذهنيتهم حول فتنة المرأة التي لا يصلح لها إلا الإقبار في البيت، لا تخرج منه إلا لبيت زوجها أو لقبرها.

في ظل هذه الأوضاع استطاع فقيهنا، أن يصوغ مشروعه الإصلاحي مشددا على أهمية دور الأسرة في بناء المجتمع السوي، فدعا إلى إنصاف المرأة من خلال عدة صور.

أولا: التعليم

 اعتبر ابن عرضون سبب ما آلت إليه وضعية المرأة؛ جهلها بفقه دينها وفقه واقعها. لذلك دافع عن حقها في التعليم، ورأى أن «المرأة إذا كان لها زوج يجب عليه أن يعلمها، فإن لم يفعل طالبته بذلك، فإن لم يفعل طالبته بالخروج إلى التعليم، فإن لم يأذن لها في الخروج، خرجت من غير إذنه» (1).

ثانيا: الإرث

اللافت للانتباه في تاريخ المغرب الحديث إسهاب النوازل حول موضوع اغتصاب حق المرأة في الإرث، الذي تحكمت فيه العادات والتقاليد بشكل ملفت للأنظار، إذ أن أكثر العائلات كانت تحرم بناتها من الإرث، خشية خروج ممتلكاتها من النسب الأسري إثر الزواج من الغريب (2)، وقد ثبت عن بعض العائلات تحبيس أملاكها للأبناء الذكور دون البنات، وتفاديا للوقوع فيما يحرمه الشرع من الوصية للورثة، تم توثيق هذا التحبيس بغطاء قانوني (3)، وهو ما يعني أن بعض الفقهاء كانوا لا يجدون غضاضة في تمويه النصوص. فالوثائق التي استهدفت إقصاء المرأة من الإرث، لم تعلن ذلك صراحة بل تم التحايل فيها؛ من مثيل هبة الأم لكل ما تملك لابنها الأكبر (4)، وإعلان الأب عند زواج ابنته أن ما جهزه بها هو حقها في الميراث (5)، بل بلغ الأمر ببعض الآباء بيع بناته في الأسواق قصد إبعادهن عن حق الميراث، باعتبار خروج أصوله للغريب يلحق العار بالعائلة (6).

تفاقم هذا الوضع دفع فقيهنا للقيام بثورة على التقاليد التي استعبدت المرأة، وحرمتها من حق منحها إياه الله تعالى، فدعا إلى الإقرار بمبدأ تمتيع الجنسين بالحقوق والواجبات في كل ما أقره الشرع.

ثالثا: الكد والسعاية

شكلت الأزمات في كثير من الأحيان قوة دفاعية للمرأة، وحافزا جددت من خلاله أشكال المقاومة، فخرجت للأسواق لبيع منتوجاتها، وعملت مزارعة وراعية رفقة زوجها. وقد أحدث هذا المستجد رجة في البيوت، التي لم تألف بعد استقلالية المرأة ماديا وحقها في امتلاك أجرة جهدها واشتغالها، وقد كان بديهيا أن تحرم منها مقابل امتلاك الزوج حق التصرف فيها، الشيء الذي دفع البعض إلى اللجوء إلى التحكيم الشرعي (7)، الذي أدلى فيه الفقيه ابن عرضون بآراء تحسب له، أنصف بها المرأة من خلال فتواه “الكد والسعاية” في حق المطلقة والأرملة (8)، ومفاده حق المرأة في «أن تقاسم الزوج فيما نتج بينهما، من زرع أو ضرع، وبنى رأيه هذا على أن المرأة تشارك زوجها في حق الخدمة من حصاد وزرع ودرس ورعي وغيرها… فالناتج هو حصيلة جهد مشترك بينهما، وليس ملكا خالصا للرجل» (9). وهو بذلك خلص إلى حل يعتق المرأة من تسلط الزوج وظلم الأب، فحرمانها من الإرث، علاوة على احتمال حدوث طلاق أو ترمل في حياتها، حتما سيؤدي إلى ضياع أبنائها، وهدم بيتها الذي سهرت على الاعتناء به والكد من أجله. ولا مراء أن ما رآه ابن عرضون كان حلا مثاليا لإنقاذ الأسر من التشرد.

أثارت هذه الفتوى حفيظة بعض الفقهاء ممن عاصروا ابن عرضون ومن أتوا بعده، واعتبروها شاذة لا يمكن الأخذ بها (10)، إذ أبدوا معارضتهم من خلال فتاوى تعكس بشكل جلي نظرة المجتمع الدونية للمرأة، من مثيل الفقيه يحيى السراج الذي أفتى في حق المرأة في الدرس والحصاد بما مفاده؛ أن لا حق لها باعتباره عرفا يوافق الأحكام (11).

وتبقى نازلة ابن خويز منداد؛ أصدق مثال يعكس صورة المرأة العامية ومرتبتها الدونية في مغرب هذه المرحلة. حيث اشترط المكانة الاجتماعية في وجوب امتلاك المرأة حق خدمة البيت وغيرها من الأشغال (12)، فلا يفرض على الموسرة ما هو واجب على الفقيرة التي شبهها بالدنيئة (13)، وقال في ذلك: «أن على المرأة خدمة أمثالها، وأن على الدنيئة الفرش والكنس وطبخ القدور، وسقاء الماء» (14).

 أما المؤيدون فقد رأوا اجتهاد ابن عرضون موافقا لواقع كان لابد أن يتفاعل معه، بل ويعد سابقة يمكن القياس عليها في استنباط حكم جديد يحقق العدل والإنصاف بما يوافق المتغيرات الواقعية، استنادا للنازلة التي حدثت أثناء خلافة سيدنا عمر بن الخطاب، وهي قضية عمرو بن الحارث إبن أخ عبد الله بن الأرقم وزوجته حبيبه بنت زريق، التي كانت  نساجة ترقم الأثواب، وكان زوجها يتاجر فيما تنتجه وتصلحه، حتى اكتسبوا من جراء ذلك مالا وفيرا، ولما مات الزوج وترك المال والعقار تسلموا أهله مفاتيح الخزائن واقتسموها بينهم، فنازعتهم الزوجة في ذلك أمام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقضى لها بنصف المال وبالإرث الشرعي في الباقي.

مواقف سجلها التاريخ بمداد من ذهب، تستوجب منا التقدير والإجلال، وإنصاف من أنصف المرأة في عهد اعتبرت الأفكار التجديدية نشازا، قدر لها أن تعيش غريبة وسط فقه انحبس في دهاليز الموروث التاريخي.


(1) أحمد بن عرضون، مقنع المحتاج في آداب الزواج، مخطوط، ص 78.

(2) ابن أبي محلي، الإصليت الخريت، تحقيق عبد المجيد القدوري، مطابع منشورات عكاظ، الرباط، 1991، ص 58.

(3) محمد بن علي الدكالي، الإتحاف الوجيز، تاريخ العدوتين، تحقيق مصطفى بوشعراء، منشورات الخزانة العامية الصبيحية بسلا، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1996، ط2، ص ص272-273.

(4) محمد بن عبد الله الكيكي، مواهب ذي الجلال في نوازل البلاد السائبة والجبال، تحقيق أحمد التوفيق، دار الغرب الإسلامي، 1997، ص 67.

(5) العلمي، النوازل، ج1، ص 180.

(6) محمد بن عبد الله الكيكي، مواهب ذي الجلال في نوازل البلاد السائبة والحبال، م-س، ص 73.

(7) أبو الحسن العلمي، النوازل، ج1، ص 187.

(8) هو حق يضمن للزوجة إذا ما انتهت العلاقة الزوجية، إما بالطلاق أو الوفاة، بأن يتم تحديد حساب مجموع الثروة التي تم تكوينها لتحصل على جزء منها مقابل ما بدلته من كد، والفكرة تجد أساسها في مبادئ الشريعة وقواعدها، كما أنه حق يقرره العرف باعتباره مصدر من مصادر القانون، وقد اصطلح عليه بحق “الكد والسعاية”، و”حق الشقاء”، و”حق الجرية”، و”حريق اليد”، أو “تمازولت” للزوجة عند الطلاق أو الوفاة.

(9) عمر الجيدي، المرأة في تفكير ابن عرضون، ضمن مجلة المناهل، ع 44، 1974، ص 131.

(10) المرجع نفسه،  ص 135.

(11) العلمي، النوازل، ج 1، م س، ص 188.

(12) عمر الجيدي، المناهل، م س، ص 135.

(13) العلمي، النوازل، م س، ص 187.

(14) المصدر نفسه.