8 ماي المجيدة: السياق والدلالات

Cover Image for 8 ماي المجيدة: السياق والدلالات
نشر بتاريخ

يأتي الحديث عن اعتصام 8 ماي 1990 بمناسبة مرور أزيد من ربع قرن عن ذكراه، يعده أبناء جماعة العدل والإحسان حدثا تاريخيا خلدوه في شعارهم الذي يرفعونه في كل مناسبة مواتية (8 ماي المجيدة في التاريخ خالدة). فما هو حدث 8 ماي؟ وما هو سياقه ودلالاته؟ خاصة وأن الحصار على جماعة العدل والإحسان تتجدد أشكاله، فما هي أوجه تطابق الحصار وما هي مآلاته؟

الحدث

في 8 ماي 1990 كانت العاصمة الإدارية الرباط قبلة حج إليها الآلاف من أعضاء جماعة العدل والإحسان لمتابعة أطوار المحاكمة الاستئنافية التي تستهدف قيادتهم، ممثلة في أعضاء مجلس الإرشاد والأستاذ عبد الله الشيباني الذي آثر صحبتهم في محنتهم.

غير أن المنع المخزني حول يوم 8 ماي إلى اعتصام حاشد أمام باب محكمة الاستئناف الذي يجاور مبنى البرلمان، وهي منطقة حمراء لا تطؤها الأقدام المحتجة، كما هو الحال اليوم، ثمرة لذلك التدشين.

لم تتحمل حويصلة المخزن هذا التحدي وهذا الافتتاح والدرس الاحتجاجي الذي تقدمه جماعة العدل والإحسان في قلب العاصمة وأمام قبة البرلمان، فسارعت أجهزة القمع بحجز المعتصمين بالقوة عبر جر بعضهم أرضا وحمل آخرين عنوة، في مشاهد أكدت وحشية المخزن والطابع السلمي لاحتجاجات الجماعة، حيث تناقلت وسائل الإعلام صور المعتصمين وهم يهدون الورود التي يحملونها في أيديهم لجلاديهم الذين يسحبونهم أرضا. ومما زاد المشهد درامية تزامن هذه الأحداث مع الافتتاح التأسيسي للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان من طرف الراحل الحسن الثاني، في ازدواجية وتناقض صارخين.

زج بالجميع في بهو المحكمة ومختلف مخافر الرباط، التي ضاقت جنباتها بالمحتجزين من أبناء العدل والإحسان، الذين حولوها إلى أماكن اعتصامات احتجاجية ورباطات للذكر والدعاء.

تحول بهو المحكمة الذي احتضن المئات من المحتجزين إلى تظاهرة احتجاجية وتضامنية؛ رفعت فيها الأصوات بالتكبير والتهليل والحسبلة وتلاوة آيات قرآنية في الظلم والظالمين، ليصبح الجمع أكثر حميمية وعاطفية حين مرور القيادة المتابعة من الممر الفوقي المطل على بهو الاعتصام وهم في طريقهم لجلسة الحكم، حيث فاضت المشاعر وارتفعت الأصوات بالشعارات والأيادي بشارات النصر والتضامن، واشرأبت الأعناق ولاحت الأبصار لتفسح المجال للغة يعجز اللسان عن التعبير عنها، تؤكد  صدق الوفاء، وعمق روابط الإخاء، والعهد على إتمام المشوار، مما استفز الجلادين فسعوا لوضع حد لهذا اللقاء وكأنهم يسدلون الستار ظانين أنهم قادرون على قطع أواصر الود والوصال.

دامت الاعتصامات طيلة اليوم، ولم يفرج عن الإخوة المحتجزين إلا في ساعات متأخرة من الليل بعد إنجاز المحاضر والتحقيق في الهوية.

السياق

يعتبر حدث 8 ماي أول فعل للجماعة بعد حصار المرشد واعتقال مجلس الإرشاد، فعل دشن لمرحلة جديدة من تاريخ الجماعة، فعل يتعاطى مع الأحداث من منطلق مبادئ وخصائص الجماعة الموصوفة بالحركة الهادئة والمقتحمة.

الجماعة تكثف من أنشطتها

جاء قرار الحصار ليحد من نمو الجماعة التي عرفت تطورا ملحوظا على مستوى الأعداد بحيث تضاعفت أعدادها مرات، وعجزت هياكلها عن استيعاب الوافدين، وكمؤشر على ذلك ظهرت حلقات هيكلية جديدة في بعض المناطق بين الشعبة والجهة سميت بالناحية كأسلوب للحفاظ على فاعلية البناء التنظيمي، وحتى لا تؤثر الكثرة العددية على القوة النوعية والوظيفة التربوية.

عرف سير الجماعة، بجانب النمو العددي، تنوعا في مجالات الفعل كثمرة لعمل مؤسسات التنفيذ حيث تقوى العمل القطاعي في صفوف الأطر ورجال التعليم والتلاميذ والطلبة وباقي الشرائح، كما تم كسب مواقع عمل جديدة وفضاءات حساسة كانت حكرا على بعض القوى مثل الساحة الجامعية التي كانت معقلا لليسار يحميها بالحديد والنار.

شكل ولوج طلبة الجماعة للساحة الجامعية منعطفا وتحولا خاصة بعد الإعلان عن لائحة الطلبة المستقلين في شتنبر 1989، في إشارة لتشكيل جبهة طلابية في مقابل الفصائل اليسارية التي لم ترد الاعتراف بحق هؤلاء في العمل الطلابي على اعتبار أنهم عناصر ظلامية طوباوية رجعية إلى آخر ما في قاموسهم المعهود في نعت الإسلاميين. توج هذا الإعلان بنجاح مبادرة طلبة الجماعة في السابع من دجنبر 1989 في إحياء ذكرى الانتفاضة الفلسطينية في مختلف الجامعات تضامنا مع الشعب الفلسطيني، وقد كانت هذه المبادرة أول فعل قطري لطلبة جماعة العدل والإحسان، ومؤشرا خطيرا بالنسبة لخصوم الجماعة على ولوجها مرحلة جديدة وتجاوزها للدائرة المسموح بها. وكأن لسان حالهم بالأمس يعبر عما نطق به وزير الداخلية عن “جريمة تكثيف الأنشطة”. فبمجرد مرور أيام يجمع المخزن أمره ويقضي بمحاصرة الأستاذ عبد السلام ياسين في 30 دجنبرمن نفس السنة، واعتقال مجلس الإرشاد بعد ثلاثة عشر يوما من الحصار.

رهانات الحصار

لم يكن قرار الحصار يرمي فقط إلى الحد من تطور الجماعة بل كان يهدف لما هو أبعد من ذلك وهو إضعاف قوتها واختراق صفها، وذلك من خلال تقويض عنصر قوتها وهي الصحبة، اعتقادا منهم أن محاصرة المرشد واعتقال مجلس الإرشاد سيصيب الجماعة بالشلل وبالتالي سينفرط عقدها.

فحصار المرشد في اعتقادهم هو أخف تكلفة من اعتقاله خاصة وأن الرجل أنهكته الأمراض فالمسألة مسألة وقت وقد جرب المخزن هذا الأسلوب مع من سلف من الخصوم فأفاد. لكن يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، فالذين كانوا ينتظرون موته بالأمس كانوا هم السابقين تباعا إما موتا طبيعيا أو موتا سياسيا وهو أنكى، وأطال الله عمر المرشد وبارك فيه وتحسنت صحته فعلم وربى وبنى وهو من وراء جدران تحاصر الجسم لكنها أعجز عن محاصرة الروح والمعاني والأنوار والأفكار.

أما اعتقال مجلس الإرشاد فيأتي في إطار رهانات مخزنية متعددة، فسنتان سجنا كافية ليتحول المجلس إلى جماعات بدل جماعة واحدة موحدة، وهم الخبراء في تقسيم وتفريخ الأحزاب فكم من تنظيم سياسي دخل السجن موحدا فخرج عبارة عن تنظيمات وتيارات، لكن خاب ظنهم وبقيت الجماعة موحدة بفضل الله سبحانه وتعالى ورحمته بها، وبرهنت الجماعة على امتلاكها لآليات تدبير الاختلاف وحفظ الصف من الانقسام.

كما راهن المخزن على دخول تنظيم الجماعة في فوضى تنظيمية مادامت القيادة في السجن والرأس مفصولة عن الجسد. وغاب عن مهندسي المخزن وأعوانه أن الجماعة، عكس ما يروج خصومها، مبنية على الشورى وعمل المؤسسات، وأن السنوات الخوالي أثمرت رجالا وقيادات ولم تثمر قطيعا وإمعات. فخسر المخزن الرهان وخرجت القيادة من السجن لترى فضل الله وعطاءه بأن حفظ الجماعة وباركها فهي اليوم أصلب عودا وأحكم تنظيما وأعمق حركة وأقوى فعلا وأكثر عددا وأرص صفا.

أما الرهان الآخر فهو تهييء القيادة للمساومة بعد أن تؤتي أيام السجن والحصار أكلها. فما كادت مدة السجن تنقضي حتى تحركت الآلة المخزنية من أجل المساومة بعروض سخية لكنها بخسة أمام جود الله وعطائه لمن حافظ على العهد مع الله ورسوله، وأمام خزي الدنيا والآخرة لمن باع دينه بعرض من الدنيا قليل. فبقولهم: لا، وحفاظهم على الأمانة ورفض السكوت عن الحق أو التفوه بكلمة باطل مهما كان الثمن، كبروا في عيون إخوانهم وتربعوا على عروش قلوبهم.

فالثامن من ماي جاء في سياق الحصار، وكان مدخلا للتعاطي مع مفردات الحصار، ولتدشين أسلوب في العمل كفيل بتقويض مؤامرة خطيرة تحاك ضد الجماعة وتستهدفها في وجودها، فأي دلالات كانت لهذا الحدث التاريخي؟

دلالات 8 ماي

التحام القاعدة بالقيادة

إن في خروج الجماعة عن بكرة أبيها للتضامن ومناصرة مجلس الإرشاد المعتقل دلالة على الارتباط العضوي بين القيادة والقاعدة، ونستعمل هذه المفردات مجازا وإن كانت لا تستسيغها مفاهيمنا التربوية، لأن جسم الجماعة كما شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا ‏اشتكى ‏ ‏منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. هذا الارتباط تقوي أواصره روابط سامية لسمو المتحاب فيه وهو الله سبحانه وتعالى، روابط قلبية تغذيها سيرتهم وسلوكهم على المنهاج النبوي، فبتحملهم للأذى والابتلاء وثباتهم يزداد الصف ثقة فيهم وفي الطريق ويصبح متطلعا لأن يفديهم بالروح والمهج. وبحبهم لله يزداد المرء حبا لله وحبا لهم، وبثباتهم وصبرهم يثبت ويصبر، وباقتحامهم يقتحم، وبتواضعهم يرتفعون في قلبه وعينيه منزلة.

هذا التضامن متبادل، فأي عضو في الجماعة يصاب إلا وتهب الجماعة لمناصرته ومواساته، فهؤلاء أبناء الجماعة بالبيضاء تحاك لهم مؤامرة تنصب على إثرها محاكمة جنائية صورية في ملف أحداث الطب فتخرج الجماعة قيادة وقاعدة، في مسيرة 19 غشت بشارع الجيش الملكي بالدار البيضاء والتي شارك فيها الآلاف، وفضحت المؤامرة.

كشف زيف الشعارات

كشفت 8 ماي زيف الشعارات المرفوعة وحقيقة المبادرات المخزنية، فالملك يؤسس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في يوم محاكمة مجلس الإرشاد للتمويه على الرأي العام الوطني والدولي، وللتغطية عن الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان في حصار الأستاذ عبد السلام ياسين وتقديم أعضاء مجلس الإرشاد لمحاكمة صورية في ظل قضاء غير نزيه. فالمبادرة تهدف للترويج أن المغرب بلد الحريات والحقوق، وهؤلاء المحاكمون شرذمة ضالون سيقول فيها القضاء كلمة الفصل. غير أن الاعتصام أرسل رسائل كشفت زيف الادعاءات، فهؤلاء المحاكمون يمثلون قوة سياسية معارضة داخل البلد تملك مشروعا تغييريا وأنصارا للمشروع يمثلون مختلف شرائح المجتمع، وأن المحاكمة صورية تفتقد لمبادئ المحاكمة العادلة وفي مقدمتها علنية الجلسات، حيث أوصدت الأبواب في وجه العموم، وامتلأت القاعة بأعوان المخزن، وأن دولة حقوق الإنسان لا تقوم بتأسيس المجالس الشكلية في الوقت الذي يمنع المظلومون من الاعتصام والاحتجاج في الشارع العام ويزج بهم في مخافر الشرطة، ويحرم المواطنون من التنظيم والعمل السياسي خارج اللعبة المخزنية، وتنصب لهم المحاكم وتفتح لهم المعتقلات.

فـ8 ماي تنتمي لسلسلة مبادرات الجماعة لكشف وفضح ألاعيب المخزن في الضحك على الذقون، فهي تنتمي لـ(رسالة القرن الملكية في ميزان الإسلام)، والتي رد فيها الأستاذ عبد السلام ياسين على رسالة الملك (رسالة القرن)، ليسائله: هذا قول الملك.. فأين فعله من قوله، وقد أدّى عنها ضريبة سنتين سجنا بسجن لعلو. كما تنتمي لـ(مذكرة إلى من يهمه الأمر) والتي تبين أن لقب ملك الفقراء أول ما يقتضي إرجاع الأموال، التي جمعت وكدست على حساب جوع وفقر الشعب، إلى الشعب حتى يتحرر من قيود الديون الخارجية ويتحقق النمو والازدهار، ولكن هيهات، قيلت في الرسالة ونقولها اليوم كذلك. كما تنتمي 8 ماي إلى وقفات 10 دجنبر التي كشفت الوجه الخفي للنظام في احتفاله باليوم العالمي لحقوق الإنسان، حيث تحول ليوم المجزرة الوطنية في حق أعضاء العدل والإحسان.

تحرير الشارع المغربي

لقد ظل القمع المخزني يلقي بظلاله على الشعب وعلى نخبه بالتخويف والترويع، وقد كانت قيادة الجماعة حريصة على تكسير هذا الخوف المخزني في نفوس الناس، إذ بدونه لا يمكن أن تتحرر الإرادات ويتغير المجتمع نحو الحرية والكرامة والعدل. وقد ظل الشارع المغربي حلبة محرمة إلا على الاستعراضات المخزنية، فـ8 ماي هي اقتحام إلى قلب هذا الحمى، وافتتاح لثقافة الاحتجاج السلمي في الساحة التي ستصبح محجّا للأجيال المظلومة، من حقوقيين وسياسيين ومعطلين ومكفوفين…

إن تحرير الشارع المغربي من قبضة المخزن هي التي ستفرض على الجماعة عدم الاستجابة لمنع السلطات لأول مسيرة تضامنية مع الشعب الفلسطيني، بعد تراجع بعض المكونات، فالقضية الفلسطينية التي افتقدت لسند ودعم رسمي لابد أن تحظى بتضامن ودعم شعبي وهذا لا يتأتى ما لم يتحرر الشارع المغربي من قبضة المخزن المرتهن لحسابات أعداء الأمة.

انقلاب السحر على الساحر

لقد افتتحت 8 ماي الخطوة الأولى في فعل الجماعة إزاء مقاصد ورهانات المخزن من الحصار واعتقال مجلس الإرشاد، فخرجت الجماعة إلى الشارع بشكل قوي ومنظم في مناسبات متتالية مستجيبة لنداء الأمة والشعب، مما جعل السلطة في موقف حرج، فالقيادة في الحصار والسجن والأعضاء في الشارع يناصرون ويتضامنون، وتزايد التعاطف مع الجماعة وارتفع رصيدها من المصداقية في برصة التدافع، فخابت كل الرهانات وانقلب السحر على الساحر، وصدق الله العظيم إذ يقول ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، فأصبح المخزن يبحث عن أي مخرج يحافظ به على ماء الوجه.

فالله خير حافظا

إن مؤامرة الحصار كللت بالفشل بفضل الله تعالى وحفظه لهذه الجماعة المباركة، ولقد بينت الأيام أن المخزن جرب كل وسائل القمع والترهيب وسلك كل سبل الاحتواء والإغراء فما أفلح. حاصر المرشد العام واعتقل مجلس الإرشاد وزج بالعديد من أبناء الجماعة في المعتقلات، وحبك المؤامرات رفقة أعوانه لينسب العنف للجماعة وهي منه براء وليحكم على خيرة أبنائها بعقود من السنين حبسا، واختطف وعذب الكثير من أبناء الجماعة في المعتقلات السرية، وهشم جماجم الطلبة وكسر عظامهم وطردهم من الجامعات وشردهم من الأحياء الجامعية، وسعى لقطع أرزاق المؤمنين فضيق على البعض وطرد البعض من عمله وفي مقدمتهم مجلس الإرشاد، والقائمة طويلة لسجله الإجرامي في حق الجماعة.

فما هي نتيجة هذا المسلسل الجهنمي؟ وماذا جنى المخزن منه طيلة هذه السنين؟ الجواب لا شيء إلا الخزي والعار داخليا وخارجيا، والجماعة والحمد لله تسير من حسن لأحسن. فهل الحصار الجديد يكون أكثر نجاعة ووحشية مما سبق؟ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(64)، والعاقل يدرك أن القمع ليس بالأسلوب الأمثل للتعامل مع جماعة العدل والإحسان وقد جربتموه فما أجزع، وأن المساومات وشراء الذمم لم ولن ينجح في التعاطي مع رجال الجماعة ونسائها وقد اختبرتموه فما أركع، إنما الذي يفلح هو الاستجابة للمطلب الوحيد للجماعة الذي ظلت تطالب به منذ سنين، وهو الحرية لهذا الشعب، فهل من مستجيب؟ هيهات.