نستشف من خلال التراجم المحتشمة للقامات النسائية العلمية، الكثير من الإشارات التي أبت إلا أن تترك بصمتها، على الرغم من تغافل بعض التراجم من التفصيل في سيرهن وإقصاء أخرى من إدراجها بجانب سير الأعلام الذكورية.
لا يسعنا ونحن نجول بين سير تلك القامات النسائية إلا أن نقف على الإشارات المضمرة، التي ما برحت إلا أن تظهر بجلاء نقرأ ما بين ثنايا أسطرها وكلماتها الوجيزة.
لا سبيل للشك في فاعلية تلك القامات من النساء في الحياة العامة، لكن الغريب هو أن يطول سيرهن الإهمال، ويتم طمس ذكراهن فيما بعد، وهنا يحق لنا أن نسائل تلك المتون عن إجحافها، هل كان ذلك مقصودا لكي لا يكون للنساء مكان خارج مجالهن الخاص؟
لقد حُدّد لهن نمطا حياتيا معينا لا يخرجن من دائرته، لهذا نجد نبذة مقتضبة عن حياتهن لا تشفي معطياتها غليل الباحث لسد ثغرات فترات تاريخية معينة، فلبنى القرطبية، والشاعرة الشلبية، وأم الحسن الطنجالي، وخديجة الحضرمية، ومريم الاسطرلابي، ومثيلاتهن كثير، تركن بصمات لن توفيهن أسطر ما قيل في سيرهن حقهن، وهي على ندرة معطياتها تحمل دلالة بينة على حضورهن المؤثر.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، إن أخذنا مثال لبنى القرطبية، التي ظلت مجهولة الكنية والنسب، وهذا في حد ذاته يدعو للكثير من القراءات، من ضمنها: هل كانت لبنى العالمة من الحرائر أم من الإماء؟ مما يستدعي تفسيرا آخر؛ فالإماء كن يتمتعن بحرية أكبر، وانفتحن بكل يسر على مجالس المعرفة، لكنها حرية بطعم مر كبلتها أغلال الرق، أما الحرائر فلم يكن بأفضل حال؛ فقد قيدت حركتهن أكثر بأحكام وفتاوى وتأويلات تماشت مع فقه سد الذرائع.
فلبنى القرطبية بزغت شمسها في حقبة تاريخية اتسمت بالانفتاح الفكري؛ فالأندلس شكلت بوثقة حضارية اندمجت فيها رؤى وأعراف لإثنيات تقبلت الاختلاف، فتغيرت معها ذهنية المجتمع الذي طرأت عليه نوازل مستجدة من عمق الواقع تستدعي إيجاد أجود الحلول لبناء الإنسان، فهذه البيئة صاغت نماذج نسائية على قدر كبير من المعرفة، فصاحبة ترجمتنا هذه تيسرت لها الحركة والتنقل بين ضفتي المتوسط من الأندلس إلى المشرق، من أجل الاستزادة من العلم والمعرفة، واقتناء نفائس المصادر، فلم يمنعها مانع ولم يحل دون تحقيق طموحها حائل، لذا برعت في العلوم الرياضية والترجمة وما تقتضيه من آليات التمكن من اللغات…
أما الإشارة الثانية تكمن في أن البيئة الاجتماعية هي من تصيغ قوالب نسائية وتحدد أي نوع من النساء تبغي: خانعات خلف أسوار الحجب والتجهيل والتبخيس، أم مجرد أيقونات جسدية مغرية تزين بهن مجالس أصحاب القرار و الغنى. غير أن هناك من شكلن الفرق وخرجن عن المألوف، وعن تلكم الصورة النمطية التي كرست لهن. فالبيئة الاجتماعية أسهمت إيجابا في مسار لبنى ومثيلاتها، لهذا شكلن استثناء وعشن حياة تبعث على الفخر والاعتزاز، بتقديم نسخة نسائية فاعلة أسهمت في تطور المجتمع من خلال الإنجازات التي صاغتها عبقرية النساء.
ويبقى ما يعتلج في نفوس النساء المتأخرات زمنيا أن لبنى القرطبية لم تكن استثناء، بل جاد التاريخ بالكثير من مثيلاتها، للأسف همشت سيرهن لكي لا يكون للنساء تاريخ يذكر، وكأنهن عشن خارج سياق الحياة، كن أمواتا يلبسن لبوس الأحياء.