“وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا”

Cover Image for “وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا”
نشر بتاريخ

من تمام رحمته تعالى أن عدّد للمؤمن والمؤمنة أنواع عبادته، فبعد إتيان الفرائض التي تفتح باب القرب منه سبحانه، كما فـي الحديث القدسي، “وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه” [أخرجه البخاري، 6502.]، تأتي نوافل العبادات، وما أكثرها، لترشح المؤمن والمؤمنة لمقام حب الله. وتبقى عبادةُ ذكْرِ نِعم الله من أرق العبادات؛ عبادة ندب القرآن الكريم والسنة النبوية وحثا عليها، ومن ذلك قوله جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران، من الآية 203]، وقوله: وَٱذْكُرُوٓاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِـى ٱلْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم من ٱلطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال، 26]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فـي سربِهِ، مُعَافَـىً فـي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا” [رواه الترمذي وابن ماجه].

فـي هذا السياق، سياق عبادة الله بذكر نِعمه وأفضاله، أتفيأ والقارئ الكريم ظلال خاتمة آية كريمة من سورة النساء: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا، محاولا تذكر نعم وأفضال الله تعالى، عسـى أن تستحيي النفوس الغافلة الشاردة – وإياك نُفيستـي أعني – وتستفيق لتُقبل على الله بما يتناسب ومنسوب النعم عرفانا بالكرم الإلهي، وتقييدا للنعم بالشكر ضمانا للاستزادة تحقيقا لقوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم، الآية 7]، وإلا فالأصل هو الإقبال على الله تعالى بما يليق بجلاله وسلطانه.

وحيث إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أجدنـي مخاطَبا بها، بصرف النظر عن سياقها العام الذي يُذكّر النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه بأفضال الله عليه: تثبيته صلى الله عليه وسلم وتحصينه من غواية ضلالة قومه، وتكريمه بنزول الوحي والحكمة وتعليمه، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء، 113.]؛ كيف لا تستوقف الآية كل قارئ ونِعَمُ الله تغمرنا من كل جانب، فأعود إلى نفسـي مؤنبا إياها على سوء الأدب مع الكريم الرحيم اللطيف الذي لا يؤاخذ علـى الغفلات. نسأل الله العافية.

تتزاحم النعم والأفضال الإلهية، وأنا أقرأ متدبرا هذه الآية بصيغة المتكلم: “أجل فضل الله علـي عظيم”، ومن أفضاله علـى سبيل الذكر، لا الحصر:

1. نِعمة الإيجاد أو الكُنِّية، ومن حديث الخلق لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قوله صلى الله عليه وسلم: “… ثم يرسِلُ الله إليه الملَك فينفخ فيه الروح…”. فالخلق هو أول نعم الله تعالى، ومن لطائف علم البيولوجيا، أنه وليتم بمشيئة الله الحمل يجب تلقيح البُويضة الأنثوية بحيوان منويٍّ واحد سليم عند نزولها، ولكـي يصل هذا الحيوان المنوي إلى البويضة في نهاية الرحم، يتطلب الأمر وجود أعداد بالملايين (20 مليون حيوان منوي فـي كل مللتر من السائل المنوي) من الحيوانات المنوية السليمة تتسابق ليتمكن فـي النهاية حيوان منوي واحد من الوصول إلـى البويضة/الهدف. إنه الاختيار الإلهي أن يصطفـينـي الله تعالى من خلال حيوان منوي واحد من ملايين لمتوسط سكاني لبلد، وليس غيري. فالحمد لله علـى نعمة الخلْق إنسانا من ذرية آدم سبق التكريم الإلهي خلقَها: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء، من الآية 70].

وبعد نعمة الخلق الآدمــي، جاء الاختيار لأكون مسلما، بل ومن خير أمة أخرجت للناس، ثم جـيء بي وبك أيها القارئ فـي زمان مبارك، زمان إخوان رسول الله الذين ودّ نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم لو يرانا، كما فـي حديث البقيع: “… وَدِدْتُ أنِّي قد رَأيتُ إخوانَنا. قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ألَسنا إخوانَكَ؟ قالَ: بل أنتُمْ أصحابي وإخواني الَّذينَ لم يَأتوا بعدُ، وأَنا فرَطُهُم على الحَوض…” [أخرجه النسائي، 150].
 
2. نعمة العافية، وفـي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: قُلتُ يا رسولَ اللهِ: عَلِّمْني شيئًا أسأَلُهُ اللهَ تعالى، قال: “سَلوا اللهَ العافيةَ”. فمكثْتُ أيامًا، ثم جِئتُ فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ: عَلِّمْنـي شيئًا أسأَلُهُ اللهَ تعالى، قال لي: “يا عباسُ يا عَمَّ رسولِ اللهِ، سَلوا اللهَ العافيةَ فـي الدُّنيا والآخِرَة” [أخرجه الترمذي (3514) وأحمد (1783)]. وفـي صحيح الترمذي أن أبا بَكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه قام على المنبرِ ثمَّ بَكـى، فقالَ: قامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلم عامَ الأوَّلِ على المنبرِ ثمَّ بَكـى، فقالَ: “سلوا اللَّهَ العفوَ والعافيةَ، فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بعدَ اليقينِ خيراً منَ العافيةِ”.

نعمة عافية تاجٌ على رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المبتلُون، فكيف كان سيكون الحال لو أصبح هذا المعافـى – لا قدر الله – فـي غرفة العناية المركزة، أو أصبح تحت الأنقاض يتوسل فرصة إنقاذ تتوقف على نجاعة حاسة شم كلب كان ربما يشمئز من سيلان لعابه؟

3. نعمة الستر، فكم أذنبت فـي جنب الله، وفـي حق الناس، وفـي حق نفسـي، لكن اللطيف الرحيم تجاوز وستر. وفـي الحديث: “والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما مِن خَدْشِ عُودٍ ولا اخْتِلاجِ عِرْقٍ ولا نَكْبَةِ حَجَرٍ ولا عَثْرَةِ قَدَمٍ إلّا بِذَنْبٍ، وما يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أكْثَرُ” [رواه الطبري في ” التفسير ” (5 / 175) والبيهقي في “شعب الإيمان” (7 / 153)]. قال أحد الظرفاء تعليقا علـى الحديث: لو أحال الله ذنوب الناس عثرات ما قام ولا استوى أغلب الناس فـي سيرهم، ولكنه ستره الكريم. نعمة الستر إنما تستدام بالتوبة والاستغفار وبهما يُعبأ رصيدها.

4. نعمة الولد التـي صنفها الذكر الحكيم وهْبا وعطاء. يقول الحق سبحانه علـى لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم، 39]؛ نعمة يقدرها من حُرمها، وهـي نعمة جُبل عليها الناس، كل الناس، وليس المسلمين فقط. ولد يحفظ النسل، ويكون إن يسر الله له تنشئة سليمة تحفظ فطرته، وتصون إيمانه ولدا صالحا يفرح الوالدان أمّاً وأبا بدعائه وخراج استقامته وصلاحه، يوم ينقطع بالموت عمل الأحياء.

5. نعمة الهداية الإلهية التـي تداركتني وتداركتك أيها القارئ اللبيب، فغمر الإيمان قلبي وقلبك، وإلا فأذكـى الناس تائهون فـي دياجير البعد عن الله، تزين شياطين الإنس قبل الجن ضلالهم زيادة فـي الإغواء، بل وتسوقهم “أئمة” التحرر والتجرؤ علـى دين الله.

نعمة عامة أتمها الكريم فيسر لـي صحبة الأخيار من عباده الراجين وجه الله، فأخذوا بتلابيب نفسـي وصبروا علـى طفولتي الإيمانية – وما يزالون – وانتشلونـي بتوفيق من الرحيم اللطيف من غفلاتي، ودلوني بالحال قبل المقال، من هنا الطريق، وهذا زاد الطريق، فإذا بي فضلا من الله ونعمةً، فـي موكب نوراني يصلنـي بمنبع الهداية والأنوار النبوية. أليس فضل الله علي عظيما؟

وختاما، وجب التنبيه أن من دواعـي الغفلة الجالبة لقسوة القلب – نسأل الله العافية – تعوّدُ النعم واعتبارها مألوفة لا تستوجب الشكر. ويبقـى من أعظم سوء الأدب مع الله الجحود بنعمه، وهو ما قد يكون سببا لسحبها وحجبها، مصداقا لقوله تعالى فـي سورة الرعد [11]: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. صدق الله العظيم. والحمد لله رب العالمين.