يوم المؤمنة وليلتها

Cover Image for يوم المؤمنة وليلتها
نشر بتاريخ

إن أسمى ما تسعى إليه التربية الإحسانية التي تتلقاها المؤمنة في ظل الصحبة في جماعة العدل الإحسان، هو إخراجها من عالم الغفلة والتيه والشتات، إلى عالم الذكر والتقرب من الله والاستعداد للآخرة، ففي أحضان هذه التربية تتعلم المؤمنة كيف تجعل لعمرها – وهو رأس مالها – غاية، ولوقتها هدفا ومقصدا، وكيف تخرج من دائرة العبثية والفوضى وتستجيب للوصية النبوية: “اغتنم خمسا قبل خمس”.

ومع الصحبة الطيبة المباركة في الجماعة تفقه المؤمنة معنى وصية سيدنا أبي بكر لسيدنا عمر رضي الله عنه حين استخلفه: “اعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل وعملا بالليل لا يقبله بالنهار”، فتضع لنفسها برنامجا في اليوم والليلة ينقلها من زمن العادة واللهو إلى العبادة والجهاد.

فتجتهد وتجاهد النفس والهوى وتلتزم القيام بعبادات وأعمال مفروضة ومسنونة، لينجمع قلبها على الله، وتقضي وقتها في طاعته.

هي أعمال في اليوم والليلة أوصى بها الإمام عبد السلام ياسين في كتاب المنهاج النبوي ونصح بالتزامها؛ لأنها تسعف المؤمن والمؤمنة وتعينهما في طريق السلوك إلى الله تعالى، وذلك بتطويع عقلهما وترويض نفسهما على التقوى والاستقامة والتزام شرعه وإحياء سنته.

يوم المؤمن وليلته – والمؤمنة معنية به – جهاد ومجاهدة واجتهاد، لاسيما في زمن القلق والسرعة والتهافت على الدنيا والتعلق بمغرياتها وشهواتها بسبب الخواء الروحي والانحلال الأخلاقي.

فما هي المقاصد العظمى منه؟ وما هي ملامح التجديد فيه عند الإمام عبد السلام ياسين؟

إن التزام المؤمنة بهذا البرنامج التربوي من شأنه أن يحقق غايات ومقاصد جليلة يعود نفعها على الفرد والجماعة، في الدنيا والآخرة، نذكر في ما يلي بعضا منها:

الغاية الأولى: اقتحام العقبة وتزكية النفس

اقتحام عقبة النفس الأمارة بالسوء، المتكاسلة، الميالة إلى الراحة والنوم، تجاهدها المؤمنة وتروضها وترفعها من الهموم الأرضية لتزكيها بدوام الصلة بالله تعالى، وإقامة الصلوات المفروضة في وقتها طاعة لله وفرحا به وشوقا إليه، وتستزيد من الصلوات المسنونة طمعا في محبة الله والقرب منه، وتقبل بقلبها وجوارحها على أفضل صلاة بعد المكتوبة؛ “قيام الليل” تأسيا بالحبيب المصطفى، فيحيى قلبها وتتحرك إرادتها وترتقي همتها إلى همة الصالحات القانتات اللائي سكنت قلوبهن لسكون الليل وهدوئه..

تقف المؤمنة بين يدي الله ليلا، فمنه يأتي الزاد والمدد، وتكابد النوم والراحة والكسل والعجز والمرض، لتغنم ساعة من الله تتهجد فيها وتستغفر ربها وتستمطر رحماته وتظهر افتقارها وحاجتها إليه سبحانه، فيشع نورها وخيرها على أمة رسول الله نهارا. وهذا هو الفهم التجديدي الذي فهمته عن مرشدها ومربيها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، فهمت بعمق أن سلوكها إلى الله لا يفصل بين جندية الليل وجندية النهار، وأن خلاصها الفردي لا ينفصل عن خلاص الأمة ومصيرها؛ “فاقتحام العقبة بالنسبة للفرد المؤمن جهاد لنفسه كي تستقيم على طاعة الله، وجهاد مع المؤمنين المتواصين الصابرين المتراحمين لإقامة دين الله في الأرض. وبالنسبة لجند الله المنظمين فإن اقتحام العقبة جهاد تربوي وتنظيمي وميداني ومالي وقتالي وسياسي حتى تقوم دولة الإسلام الخلافة على منهاج النبوة” ref]المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا، عبد السلام ياسين،  الطبعة 5، ص 32.[/ref].

الغاية الثانية: حياة القلوب وإحياء الربانية

بالذكر الكثير والمداومة على الأوراد والقرآن يحيى قلب المؤمنة ويطمئن فؤادها وتسكن جوارحها، وبه تصبح مؤهلة للتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالاطمئنان بالذكر وللذكر يستكمل إيمان المؤمنة 1.

تواظب المؤمنة على الذكر في يومها وليلها، وتخصص جلسات من اليوم لذكر لا إله إلا الله والصلاة على رسول الله ليبقى قلبها حاضرا مع الله، مستحضرا مراقبته وعظمته في السر والعلن حتى يحصل لها الأنس والمحبة. و بالذكر أيضا تتخلص المؤمنة من أمراض القلوب وتترفع عن صغائر الأمور التي تعوق طريق سلوكها إلى الله، وترتقي بعد ذلك بطموحها مع ربها ليلتقي مع طموح الملائكة الذين أخبرنا عن حالهم ووظيفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر 2.

تتعلم المؤمنة بالصحبة في الجماعة كيف تلتزم بأورادها في الذكر وتداوم عليها. ولا تتهاون فيها في كل أحوالها وحركاتها وسكناتها لتكون لها أوتادا متينة تحفظ خيمة حياتها من الغفلة والنفاق والضعف والوهن. وتتعلم في مجالس الذكر والإيمان بصحبة الذاكرات أنها في ذكر جهادي على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام. لا ذكر عزلة وخلوة وانزواء وهروب عن الناس، إنها في ذكر يجعل قلبها حيا وإرادتها عالية وعزيمتها قوية لتستقوي بذلك على الجهاد في سبيل الله ونصرة دينه والدعوة إلى الحق والثبات عليه، وتقديم النفع لأمة الإسلام. فذاك هو الذكر بمعناه التجديدي، وبه يتقدس الكيان القلبي للمؤمنة، وعنه يقول المرشد رحمه الله: “ذكر الله به يتقدس الكيان القلبي للمومن، ويكون التقديس أعظم إن كان ذكر الله أدوم. ويكون ذكر الله أعظم إن كانت دواعي الغفلة وأزمة الموقف أشد. وبهذا يكون الذكر في الجهاد، الذكر عندما يخاف الناس ويزدحمون على مخارج الأمان ومهارب الجبن، أكبر الذكر” 3.

الغاية الثالثة: الثبات على الصحبة في الجماعة

وضع الإمام عبد السلام ياسين رحمة الله عليه دعاء الرابطة ضمن برنامج يوم المؤمنة وليلتها ليوضح أن السلوك إلى الله تعالى يتعدى الأثر الفردي إلى الجماعي، إذ هو تجسيد وتطبيق عملي لعقد الأخوة بين المؤمنين، فهو يجده رحمه الله ضروريا لربط المؤمنين في جماعة، ويرى أنه بسريان معنى الربط بينهم تلتقي الصحبة بالجماعة.

فعندما تواظب المؤمنة على دعاء الرابطة تستشعر انتماءها إلى الموكب النوراني، الذي جمع بين الإيمان والجهاد، وتدرك أن سلوكها إلى الله في ظل الصحبة في الجماعة سلوكا جهاديا يجمع بين مطلبي العدل والإحسان. وفي دعاء الرابطة أيضا تستحضر المؤمنة قلبيا أنها التحقت بركب مجاهدات الخلافة الأولى اللائي بعن أنفسهن لله، وصدقن في طلب وجه الله. وبه أيضا تستشرف لبناء الخلافة الثانية إن شاء الله تعالى، بدوام الوقوف بباب الله ليلا ونهارا وبدوام الذكر وبمعية الذاكرين، وهذا هو أمل ورجاء المرشد الحبيب من تربية نساء ورجال الجماعة تربية إحسانية جهادية. وإلى هذا يشير الأستاذ عبد الكريم العلمي في كتابه “السلوك إلى الله عند الإمام عبد السلام ياسين”، فيقول: “ما تنتظره الأمة وما يرجوه لها الإمام رحمه الله هم هؤلاء الربانيين بهذه الصفات وهذه الكفايات، ربانيون سالمون يخرجون من مشروع فردي وخلاص فردي إلى عمل جماعي وسلوك جهادي، بسمو الأرواح، واتقاد العقول، ورفق في الحركة” 4.


[1] الإحسان، عبد السلام ياسين، الجزء 1، ص258 بتصرف.
[2] تنوير المومنات، عبد السلام ياسين، الجزء 1، ص369.
[3] الإحسان، عبد السلام ياسين، الجزء 1، الطبعة 1، ص 260.
[4] السلوك إلى الله عند الإمام عبد السلام ياسين، عبد الكريم العلمي، طبعة أولى، ص31.