يعلم خائنة الأعين

Cover Image for يعلم خائنة الأعين
نشر بتاريخ

كم يكون الإنسان منضبطا مستقيما لو علم أن المكان المتواجد به تحرسه كاميرات المراقبة، فتجده يتكلم بأدب ويبتسم بميزان دقيق، ولا يجرؤ على خرق قوانين تلك الجهة التي يتواجد فيها، بل لا تسول له نفسه حتى فعل ما يشتهي ولو كان أمرا عاديا إن كان مناقضا لمبادئ المكان؛ خاصة إن علم أن عقابا شديدا قد يطوله عند المخالفة…

ولا أشد ولا أقسى من عقاب الله وخلود في جهنم، ولا أخزى من غضب الملك الديان، ولا أشهد على سلوك الإنسان من أعضائه التي سينطقها الحق سبحانه يوم يقوم الأشهاد، قال تعالى: حَتَّىٰٓ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ (فصلت 20 – 21)، حينها كل عضو سيقول: أنا فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا.

فكيف لا يأبه الإنسان لهذه الرقابة الإلهية، ولا يكترث لحضور الكرام الكتبة الذين يحصون عليه أعماله كلها؛ دقها وجلها، ويسجلونها في صحيفته، ويطلق العنان لنفسه الأمارة بالسوء ويبيح لعينه الخائنة المتلصصة أن تسرح  في مستنقعات الحرام، فلا تنكر منكرا ولا تحرم حراما. بل تجده غارقا في أوحال شهواته، فاغرا فاه أمام هاتفه أو حاسوبه الذي ييسر له الموبقات كلها.

وكأن هذه الوسائل الحديثة قد رفعت التكليف عن العين التي أوجب الله عليها حكما شرعيا تنص عليه الآية الكريمة التي يقول فيها المولى عز وجل: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (النور، 30)، فالأمر واضح في الآية للوجوب إلا من أراد أن يعطل الحكم الشرعي، وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم التطبيق العملي لذلك، لأن مطلق الغض قد يتعذر، فالحق سبحانه قال: «من أبصارهم»، ومن للتبعيض كما قال المفسرون لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تُتبعِ النَّظرةَ النَّظرَةَ، فإنَّ لَكَ الأولى، ولَيسَتْ لَكَ الآخرَةُ” (1). فالثانية تجر على الإنسان الويلات وتوقعه في الشبهات ثم المحرمات.. قال الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسير الآية: «والأمر بحفظ الفروج عقب الأمر بالغض من الأبصار لأن النظر رائد الزنى» (التحرير والتنوير). وصدق الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمة الله تعالى عليه حيث قال: «الغناء الماجن حُداءُ الزنى. والنظرة المتلصصة الوقِحة رسول إبليس، والاختلاط دخول في حوزة الفتنة، والخلوة طامة” (2).

وإن من السخافة بمكان أن  تجد الإنسان يستتر عن أعين الناس ويختلي بجهازه الإلكتروني في مكان حيث لا يراه أحد، معتقدا أنه بعيد عن الأنظار في مأمن من الحساب والعقاب، وربه الكريم يحذره بقوله: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (غافر، 19)، أي يعلم سبحانه النظرة التي تخون العهد فتسترق من الحرام ما تتلذذ به، ويعلم ما يعقبها من شعور مضمر في القلب إن حقدا أو شهوة أو غيرها، وما تتركه من أثر سيء على سلوك الإنسان.. فسبحان من لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية.

فالأولى لكل عاقل فطن أن يراقب نفسه ويستحضر رقابة مولاه قبل الإقدام على أي عمل وقبل النظر لأي شيء إن كان يبغي النجاة، وإلا فخسارته ستكون فادحة ولن تنفعه ندامة حين يدخل قبره وحيدا فريدا، وحين تعرض صحيفته عليه يوم يقوم الأشهاد. لذا حذر العلماء من ذلك، قال ذو النون المصري: «كان العلماء يتواعظون  بثلاث ويكتب بعضهم إلى بعض: من أحسن سريرته أحسن الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه» (سير أعلام النبلاء).

ومن ثم فإن غض البصر ومراقبة الله في السر، من أعظم القربات التي تطوي على الإنسان مسافات للقرب من الله، وقد عد الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله منزلة المراقبة من منازل إياك نعبد وإياك نستعين في كتابه مدارج السالكين، قال رحمة الله عليه: «من راقب الله في خواطره، عصمه الله في حركات جوارحه».

وجدير بمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، أن يحظى بعناية وهداية ربه الذي يخرجه من الظلمات إلى النور، ومن أوحال الشهوات إلى أنوار القربات. وقد سئل بعض السلف «بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور». هذه المراقبة تورث حياء وخشية من الله؛ خشية يرزقه الله بها قوة ليواجه النفس والشيطان فيقتحم العقبات بسلاسة ويسر ويقترب من رب العالمين. ومن كان الله معه فمن عليه، ومن فاز بالله فقد سعد دنيا وأخرى. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «وقلب امتلأ من جلال الله عز وجل وعظمته ومحبته ومراقبته والحياء منه، فأي شيطان يجترئ على هذا القلب». رزقني الله وإياكم قوة نواجه بها النفس والشيطان، وثباتا للاستمرار في مواقع الجهاد، آمين والحمد لله رب العالمين.


(1) أخرجه أبو داود (2149)، والترمذي (2777)، وأحمد (22991).

(2) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 2، ص 87.