وللجوار ثمن

Cover Image for وللجوار ثمن
نشر بتاريخ

أوصى الإسلام بالجار، وأعلى من قدره؛ فقد قرن الله حقه بعبادته -عز وجل – وبالإحسان إلى الوالدين واليتامى والأرحام؛ فقال وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ(النساء: 38] (الآية)

وهذه الوصية نابعة من حرص الإسلام على تماسك المجتمع وتقوية أواصره وسلامة أفراده من كل ما قد ينغِّص عيشهم ويُكدّره، ولأهمية الجار وأثره على من حوله إيجابا أو سلبا، قالوا قديما ولا زالوا يرددونها في كل زمن، “الجار قبل الدار”، وعلى قدر الجار جعلوا للدار ثمنا، يقول الشاعر:

يَلُومُونَنِي إذْ بِعْت بِالرُّخْصِ مَنْزِلًا … وَلَمْ يَعْرِفُوا جَارًا هُنَاكَ يُنَغِّصُ

فَقُلْت لَهُمْ كُفُّوا الْمَلَامَ فَإِنَّهَا … بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ 1

ويُحكى أن جارا لأبي حمزة السكري أراد “أن يبيع داره فقيل له: بكم؟ قال: بألفين ثمن الدار، وألفين جوار أبي حمزة، فبلغ ذلك أبا حمزة، فوجه إليه بأربعة آلاف وقال: لا تبع دارك” 2

وقد قيل لأبي الأسود الدؤلي، “بعتَ دارك؟! فقال: بل بعت جاري، فأرسلها مثلاً” 3؛ وذلك لما باع منزله بسب ما لحقه من أذى من جيرانه وقد بالغوا في ذلك.

فما صفات الجار التي تُعلي من سعر الدار أو تجعله رخيصا؟

نستدعي قصصا قد عاش أصحابها حسن الجوار في أكمل صوره، نستلهم منها الجواب عسى أن نكون ممن لا يُقدّر جوارهم بثمن.

يحكى أن “أبا الجهم العدوي داره بمائة ألف درهم، ثم قال: فبكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ قالوا: هل يُشترى جوار قط؟

قال: ردوا عليّ داري وخذوا مالكم، ما أدع جوار رجل إن قعدت سأل عنيّ، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألته قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وإن نابتني جائحة فرج عني. فبلغ ذلك سعيدا فبعث إليه مائة ألف درهم” 4 وفي رواية أخرى أن إبراهيم بن حذيفة قال عندما أراد بيع الدار وجوار سعيد “أَلَا تَشْتَرُونَ جِوَارَ مَن إِنْ أَسَأتُ إِليهِ أَحسَنَ، وَإِنْ جَهِلتُ عَليهِ حَلِمَ، وَإِنْ أَعسَرتُ وَهَبَ؟” 5

يدور حسن جوار سعيد بن العاص حول إحسانه لجاره، والذي تنوعت صوره، وحمايته له من أي أذى قد يلحقه في غيبته؛ وصبره على أذاه وحلمه به، قال الحافظ في الفتح: «ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة؛ كالهدية، والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد أحواله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه؛ حسية كانت أو معنوية» 6.

فعلاقة الجوار تتقوى بتفقد المرء جاره ومحبته له والتودد إليه وطلاقة الوجه عند لقائه وقضاء حوائجه وتفريج همومه ومواساته بأي شكل من أشكال المواساة، معنوية كانت أو مادية، وهذا الإحسان من علامات كمال الإيمان، وشعبة من شعبه. لقوله صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره” 7.

لقد توسع العلماء قديما وحديثا في ذكر أوجه الإحسان إلى الجار وصوره، ولكن لا يمكن حصرها، فمع تغير الزمان والمكان وأحوال الناس تتجدد الأشكال وتتنوع، وفي الحديث جاء لفظ الإكرام مطلقا أي غير معين، فيُحتكم فيه إلى عرف الناس وما عَدّوه إكراماً، ولكن يبقى روح الإحسان وجوهره حاضرا، سمته إيصال النفع وإدخال السرور بكل ما يقدر عليه المرء من قول وفعل، ويؤطره قوله صلى الله عليه وسلم “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه” 8.

وإذا كان الإنسان مطالبًا بالإحسان إلى جاره، فمن باب أولى كف الأذى عنه، وهذا الكف له صورتان: ألا يلحقه أذى منه أو يحميه من أن يصله أذى غيره؛ كأن يُنال في عرضه، أو بدنه أو ماله؛ فما سُمِّي الجارُ جارًا إلا لأنه يُجيرُ صاحبَه ويدفع عنه السوء والأذى، وكما تتعدد مظاهر الإكرام، تتعدد مظاهر الأذى فمنه الحسي الذي ينال البدن أو الممتلكات، والمعنوي الذي ينال كرامة الإنسان، وهو أشد إيلاماً.

تمنع الشريعة إلحاق الأذى بالغير مهما كانت صورته وتحرمه بغير وجه حق، وشدّدت في تحريمه في حق الجار؛ فلقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه، وعدَّه من خوارم الإيمان؛ إذ يقول: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَه” 9 أي ْشروره، وفي هذا وعيد شديد، فتكرار اليمين ثلاثا فيه تأكيد حق الجار والمبالغة في رعاية حقوقه.

أما حماية الجار من كل بلاء والذود عن حرمته، فهي مفخرة ودليل مروءة، لهذا نجد أن العرب، قبل الإسلام وبعده، قد تفاخرت بصون الجار من كل مذلة، قال عنترة؛ الشاعر الجاهلي:

وأني لأحمي الجار من كل ذلة … وأفرح بالضيف المقيم وأبهج 10

وتمدح الخنساءُ أخاها بحمايته جارَه الذي لا يضام ولا يذل:

وجارُكَ مَحْفُوظٌ منيعٌ بنجوة … من الضيم لا يُؤذى ولا يتذللُ 11

قد يكون يسيرا عند البعض، إكرام الجار وكف الأذى عنه، لكنه قد تزِل قدمه عند أول ابتلاء؛ وذلك عندما يلحقه أذى من جاره، فيظهر معدنه، وتنكشف عيوبه؛ فتحمل أذى الجار درجة رفيعة لا ينالها إلا ذو حظ عظيم، وقد ورد عن الحسن رضي الله عنه قوله: «ليس حُسْنُ الجوار كفّ الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى» 12.

إن التغاضي عن هفوات الجار، وتحمل عثراته والصفح عن زلاته ومقابلة إساءته بالإحسان، تدل على سمو أخلاق صاحبها، وهذا مما يحفظ آصرة الجوار من التفكك ويُبقي على لحمته، وقد ترقى بها من علاقة متوترة إلى علاقة يسودها الصفاء الوئام؛ يقول الله عز وجل: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ[فصلت: 34]

ما أجمل أن تسعد بجار صالح، والأجمل أن تكون ذلك الجار الصالح الحريص على سعادة جيرانه في الدنيا والآخرة، السريع بإحسانه والممسك أذاه عنهم والمتحمل إساءتهم، فهذا يُعلى من قدره عند الله وعند الناس، وقد لا يكون للمرء كثير من الأعمال الصالحة لكن حسن جواره يرفعه درجات على من كثرت نوافله وساءت أخلاقه مع جيرانه.


[1] الآداب الشرعية والمنح المرعية، محمد بن مفلح المقدسي، 2/ 16
[2] تهذيب الكمال في أسماء الرجال، جمال الدين المزي، 26/548.
[3] وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان 2/537
[4] ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، المؤلف: جار الله الزمخشري، 1/393.
[5] المنازل والديار، أسامة بن منقذ، ص: 76.
[6] فتح الباري 456/10.
[7] متفق عليه، والحديث كاملا: “عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه.”
[8] متفق عليه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
[9] صحيح البخاري، كتاب الأدب، إثم من لا يأمن جاره بوائقه، حديث رقم:
[10] ديوان عنترة، شرحه وعلق على حواشيه محمد معروف الساعدي، دار الكتب العلمية، ص 31.
[11] التعازي [والمراثي والمواعظ والوصايا]، ابن المبرد، ص: 134
[12] الآداب الشرعية والمنح المرعية، ابن مفلح، 2/14.