ولذكر الله أكبر

Cover Image for ولذكر الله أكبر
نشر بتاريخ

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرا [الأحزاب، 41]. وقال سبحانه: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف، 205]. وقال عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة، 152]. وقال عز من قائل: ولذكر الله أكبر [العنكبوت، 45].

ذكر الله أكبر من كل شيء، وأجره أجزل من كل أجر، هو النعمة الكبرى، والمنحة العظمى، وهو الكمياء الإلهية، والدواء والعلاج التي بها يطهر القلب، وهو مصب الإيمان وملتقى شعبه ومصدر نوره. وما أمرنا بالإكثار من شيء مثل ذكره سبحانه وتعالى، فمن كان ذكر الله ديدنه فقد حظي بخيري الدنيا والآخرة. روى ابن أبي الدنيا مرفوعا: “ما من يوم وليلة إلا ولله عز وجل فيه صدقة يمن بها على من يشاء من عباده وما منَّ الله على عبده بأفضل من أن يلهمه ذكره”.

وأخرج الطبراني عن أم أنس رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله أوصني. قال: “اهجري المعاصي فإنها أفضل الهجرة، وحافظي على الفرائض فإنها أفضل الجهاد، وأكثري من ذكر الله فإنك لا تأتين الله بشيء أحب إليه من كثرة ذكره”. لذا يقول الصالحون: (من أوتي الذكر فقد أوتي منشور الولاية)؛ أي وثيقة أمان وضمان الإيمان والقرب من الرحمن، قال ابن القيم رحمه الله: “الذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم التي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورا. وهو سلاحهم الذي به يقاتلون قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست فيهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب”.

و”في كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة والذكر عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة؛ بل هم يأمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال؛ قياما وقعودا وعلى جنوبهم. فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها فكذلك القلوب بور وخراب وهو عمارتها وأساسها، وهو جلاء القلوب وصقالها ودواؤها إذا غشيها اعتلالها” [مدارسج السالكين، ج2، ص 423]. روى الشيخان مرفوعا: “مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت” وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: “لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل”. وقال رجل للحسن البصري: “يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي: قال: أدبه بالذكر”.

ولهذا الفضل والأثر أعظم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم البشارة، وأكثرا التحريض على الذكر، عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله”. وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن رجلا قال: “يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: “لا يزال لسانك رطبا بذكر الله””. وأخرج أحمد عن معاذ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “أن رجلا سأله فقال: أي المجاهدين أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله ذكرا. قال: فأي الصائمين أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله ذكرا. الصلاة، والزكاة، والحج، والصدقة. كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أكثرهم لله ذكرا. فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل”.

وللذكر من الفضائل والفوائد ما لا يعد ولا يحصى، قال الإمام بن القيم رحمه الله: “فما ذكر الله عز وجل على صعب إلا هان، ولا على عسير إلا تيسر، ولا مشقة إلا خفت، ولا شدة إلا زالت، ولا كربة إلا انفرجت، فذكر الله تعالى هو الفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، والفرج بعد الغم والهم”. قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ.

والذكر يطرد الشيطان ويجلب الرزق ويورث المحبة ودوام المراقبة حتى يدخل العبد باب الإحسان ويحط الخطايا ويذهبها، وإنه من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات. وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها.

وما ثم كرامة للعبد أفضل من ذكر الله تعالى، لأنه يصير للحق جليساً وبه مؤنسا كلما ذكر، أورد البيهقي في الذكر من شعب الإيمان عن أبي بن كعب قال: “قال موسى عليه السلام: يا رب أقريب أنت فأناجيك، أو بعيد فأناديك، فقال له: يا موسى؟ أنا جليس من ذكرني”. وقال الإمام الرفاعي قدس الله روحه: “من ذكر الله طاب بالله، ومن طاب بالله وصل إلى الله…” [البرهان المؤيد، ص 43].

وكما أن الله حث على الذكر وبيّن فضله فقد ذم سبحانه الغفلة عن ذكره وتوعد الغافلين بعقابه ولم يجعل لهم عذرا، أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله اذكروا الله ذكرا كثيرا [الأحزاب، 43] أنه قال: لا يفرض على عبادة فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله فقال: اذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم، بالليل والنهار، في البر والبحر، في السفر والحضر، في الغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [المنافقون، 9]. وقال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف، 36]، وقال سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طـه، 124].

وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يكثر ذكر الله فقد برئ من الإيمان”. وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا اللّه تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة” وويل للقاسية قلوبهم عن ذكر الله تعالى.

قال ابن عطاء الله رحمه الله في حكمه: “لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور وما ذلك على الله بعزيز”.

يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “تنبني الشخصية الإيمانية الإحسانية بذكر الله. كل العبادات شرعت لذكر الله. كل الأعضاء الظاهرة والباطنة منتدبة لذكر الله. ذكر القلب، أعظمها، ثم ذكر اللسان، ثم ذكر الأعضاء عندما تتكيف بكيفيات الصلاة، أو تُمْسك نهارَ الصوم، أو تطوف وتسعى وتقف وترمي في نسك الحج.. ذكر الله به يتقدس الكيان القلبي للمؤمن، ويكون التقديس أعظم إن كان ذكر الله أدومَ. ويكون ذكر الله أعظم إن كانت دواعي الغفلة وأزمة الموقف أشدَّ” [الإحسان، 260]. “لَبِيسَ عبد شغلته النعم يرجوها ويدعو بها عن المنعم، وألهته محبوبات النفس عن محبوب القلب، وبدَّد شمله همّ المكان والزمان عن استجماع همته في ذكر مولاه” [الإحسان، ص295]. “وكيف يُنتظر ممن لا زمام يمسكه عن التسيب في الأوقات من ورد لازم، وجلوس للذكر عازم، أن يرقى إلى مقام دوام الذكر ودوام التضرع ودوام الطلب؟ يفتر الطلب، وتتفتت العزيمة، وينقطع الحبل إن لم يكن الورد دواما ومداومة وصبرا ومصابرة” [رسالة النصيحة].

لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بالمداومة على أوراد من الذكر في كل الأحوال، لتكون قدمهم راسخة في العبادة والجهاد، وليصلوا إلى ما شاء الله من الدرجات العليا في الإيمان والقرب من المولى الكريم.

اللهم نسألك لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا وبدنا على البلاء صابرا، اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين.