وأشهد أن محمدا رسول الله

Cover Image for وأشهد أن محمدا رسول الله
نشر بتاريخ

أولا: توطئة

معلوم أن الشهادتين أول أركان الإيمان، وباب الإسلام، وعنوان فلاح من ختم الله تعالى بهما حياته، فيقر المسلم بالله وحده لا شريك له ربا ومعبودا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.

في المقال الذي بين أيدينا، نقف وقفة تأمل عند الشطر الثاني من الشهادتين، استجلاء للمدلول، واكتشافا لما تستوجبه هذه الشهادة على كل مؤمن ومؤمنة، والله من وراء القصد والهادي إلى السبيل القويم.

ثانيا: دلالة الشهادة

شهد يشهد شهادة؛ لغة: أي أقر واعترف، ضد أنكر وجحد. واصطلاحا: تعني الإقرار بالقلب والتصديق بالجوارح. ومن تعاريف الإيمان: “إقرار بالجنان وتصديق بالأركان”، أو “ما وقر في القلب وصدقه العمل”.

“وأشهد أن محمدا رسول الله” تعني الإقرار والإخبار بنبوته ورسالته، وأنه صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، “أرسله إلى كافة الناس.. نبيا خاتما، فلا نبي بعده ولا رسول، أيده بالمعجزات، وفضله على سائر الأنبياء” (1)، استأمنه ربه على وحيه ورسالته، وكلفه بالتبليغ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (المائدة، 68)، وعليه فهو المبلغ عن ربه، والدال عليه، قولا وعملا وسلوكا وحالا..

ثالثا: مقتضيات الشهادة

هي كثيرة، نقف عند بعضها:

توقيره صلى الله عليه وسلم

أوجب سبحانه توقير نبيه، ومراعاة قدره، فهو الكريم على ربه، وخير خلقه، وتأكيدا لهذا الأمر الجلل، أنزل جل ثناؤه قرآنا في هذا الشأن يتلى ويتدارس إلى يوم الدين، ينبه ويحذر من سوء عاقبة من لم يرع حرمة نبيه، يقرأ المؤمن ذلك في سورة “الحجرات”، أو سورة الآداب كما يسميها أهل التفسير، تخاطب المؤمنين قبل غيرهم، وتنهاهم عن كل سلوك يتجرأ أو يستهين بمقام النبوة، يقول عز سلطانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3).

مضمون الآيات هو “الأمر بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته.. قال أبو هريرة: لما نزلت “لا ترفعوا أصواتكم” قال أبو بكر رضي الله عنه: “والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار” (4). “وكان ـ أبو بكر رضي الله عنه ـ إذا قدم على رسول الله عليه الصلاة والسلام الوفود أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان عمر رضي الله تعالى عنه كما في صحيح البخاري وغيره عن ابن الزبير إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه” (5).

ومن تمام التوقير والأدب ألا يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه، بل بلقب أو صفة النبوة والرسالة: “يا نبي الله.. يا رسول الله..”. وهذه ميزة أثبتها القرآن الكريم له صلى الله عليه وسلم دون بقية الأنبياء والرسل عليهم السلام الذين يناديهم رب العزة بأسمائهم.

والتوقير يتعدى الأدب الظاهر خطابا ومستوى صوت إلى عدم التقدم بين يديه بأمر، كما جاء في تفسير ابن عباس فيما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عنه أنه قال: “أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة”. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان وغيره عن مجاهد أنه قال في ذلك: “لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه” (6). وإلا فالعاقبة وخيمة؛ حبوط عمل وبوار. فليحذر من يطلق لسانه متجرئا على مقام النبوة بالاستخفاف والاستهانة وساقط القول متأثرا بتحاليل المستشرقين من أعداء الإسلام، والمستغربين ممن غرر بهم في مدارس الغرب وطواحينه من بني جلدتنا.

محبته صلى الله عليه وسلم

إذا سلم المؤمن بنبوته وعظيم شأنه عند ربه، وجبت عليه محبته لحب الله تعالى له أولا، ولكون الإيمان لا يستقيم إلا بمحبته، بل إنها أساس حلاوة الإيمان وحقيقته ثانيا، وفي حديث البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده”.

ومن أحبه صلى الله عليه وسلم أكثر من الصلاة عليه لما في ذلك من عظيم الثواب والفوائد (تراجع سلسلة “الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم” التي نشرت في حلقات بالموقع). فليتـحر المؤمن الراجي عفو ورحمة ربه حقيقة مشاعره، ولينظر هل استقر حبه صلى الله عليه وسلم في شغاف القلب، ولا بأس أن يقرأ عن وله الصحابة وتيههم بشخصه صلى الله عليه وسلم، حب توارثته أجيال هذه الأمة، يسمو بها في معارج الإيمان ويتشوف بها لمقامات الإحسان.

استفق يا من استغشيت فكرك، وسطحت أرض إيمانك، واعتبرته صلى الله عليه وسلم ساعي بريد أودع الإسلام في صندوق قلب رسائلك، انتبه قبل فوات الأوان، واعلم أن أقرب أهل الإيمان من مقامه صلى الله عليه وسلم في جنة الرضوان أشدهم حبا له، وأكثرهم صلاة عليه.

الاقتداء به صلى الله عليه وسلم

لما كانت أعمال الإيمان لا تصح إلا إذا وافقت سنته صلى الله عليه وسلم، وجب التأسي به واتباعه أمرا ونهيا؛ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الحشر، 7). بل الواجب هو أن يهذب المؤمن نفسه، ويطوع هواه لتتمثل السنة النبوية في صغير الأمر وكبيرها، وفي الحديث: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به”.

الاقتداء يتجاوز مستوى التقليد الظاهري أو السلوكي، إلى الرضا القلبي واليقين في صلاح ما يأتي المؤمن من الأعمال والتصرفات، لأنها مستمدة ممن لا ينطق عن الهوى، مأخوذة ممن بعثه الله تعالى لإنقاذ العباد من سيطرة الهوى وسلطان الشهوات. اقتداء وتأس يقوم على اعتقاد قلبي راسخ، يقول جل وعلا: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (النساء، 64).

الاقتداء طاعة، والطاعة اقتناع ورسوخ قلبي بصحة ما يؤتى أو يترك من الأعمال، وهذا فرق وحد فاصل بين التقليد والتأسي. فالأول إلغاء لقدرات المقلد واستخفاف بذكائه وعقله، والثاني سمو بالنفس من درك العجب وحضيض الأنانية المستعلية إلى نموذجية من أدبه ربه وبعثه ليتمم مكارم الأخلاق، وقال فيه: وإنك لعلى خلق عظيم (9). “فالسنة الشريفة وحدها كفيلة أن توحد سلوكنا، وتجمعنا على نموذج واحد في الحركات والسكنات، في العبادات والأخلاق، في السمت وعلو الهمة. فإنه لا وصول إلى الله عز وجل إلا على طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا سبيل إلى جنة الله ورضوانه ومعرفته إلا باتباعه ظاهرا وباطنا. فذلك كله برهان عن صدقنا في اتباعه، إذا فاتتنا صحبته” (10). يقول سبحانه: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (11) “فحياته عليه الصلاة والسلام تقدم إلينا نماذج سامية للشاب المستقيم في سلوكه، الأمين مع قومه وأصحابه، كما تقدم النموذج الرائع للإنسان الداعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، الباذل منتهى الطاقة في سبيل إبلاغ رسالته، ولرئيس الدولة الذي يسوس الأمور بحذق وحكمة بالغة، وللزوج المثالي في حسن معاملته، وللأب في حنو عاطفته، مع تفريق دقيق بين الحقوق والواجبات لكل من الزوجة والأولاد، وللقائد الحربي الماهر والسياسي الصادق المحنك، وللمسلم الجامع ـ في دقة وعدل ـ بين واجب التعبد والتبتل لربه، والمعاشرة الفكهة اللطيفة مع أهله وأصحابه” (12).

بالتأسي والاقتداء ينخرط المؤمن الراجي عفو ربه في سلك المفلحين، يقول صلى الله عليه وسلم: “كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى”.

رابعا: خاتمة

إقرار بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم شرط وجوب لصحة الإسلام، ومحبته ـ ولا حدود لمحبته صلى الله عليه وسلم ـ بها تذاق حلاوة الإيمان، وانخراط عملي في تربية النفس بالتأسي والاقتداء، سموا بها عن سفاسف الأمور ومألوفات النفس وأسر الطباع، عناوين كبرى لحقيقة شهادة: وأشهد أن محمدا رسول الله.

فاللهم صل وسلم على نبيك ورسولك سيدنا محمد الرحمة المهداة، ما تعاقب ليل ونهار، وعلى الآل والأصحاب، وعلى من سار على درب الهدى في الأمة برفقه ورحمته مسترشدا بسنته، مستمسكا بهديه. والحمد لله رب العالمين.


(1) منهاج المسلم لأبكر الجزائري، ص: 37.

(2) تفسير القرطبي.

(3) المرجع نفسه.

(4) فقه السيرة النبوية لمحمد سعيد رمضان البوطي،  ص: 16.

(5) المنهاج النبوي للأستاذ عبد السلام ياسين، ص: 139.