هل يجرف “طوفان الأقصى” اتفاق التطبيع؟

Cover Image for هل يجرف “طوفان الأقصى” اتفاق التطبيع؟
نشر بتاريخ

حين وقع المغرب في دجنبر 1 على “الاتفاق الثلاثي” أو ما يعرف باتفاقية التطبيع إعلاميا وشعبيا، كانت له دون شك رهاناته الاستراتيجية على هذا التوقيع، رغم وعيه الشديد بالكلفة السياسية والشعبية له، ورغم إدراكه أنه ليس الرابح الأوحد أو الأكبر منه، فهناك أطراف أخرى كانت لها حساباتها وأهدافها الخاصة في المنطقة، أي إفريقيا، التي يعتبرها كثير من الاستراتيجيين الكلمة المفتاح بالنسبة لأمريكا وحليفتها «إسرائيل» وأصدقائها الإماراتيين والسعوديين، الذين يحاولون التحكم في الخليج وشمال إفريقيا عبر بوابة المغرب.

لكن بعد عملية طوفان الأقصى أو حتى قبيلها بقليل، انكشف الوجه الوحشي والهمجي لحكومة نتنياهو بعد الحرب على غزة وشعبها، وبات كل رهان على المضي قدما بمخططات السلام في المنطقة حلما بعيد المنال، خاصة بعد الخرق السافر والممنهج الذي قامت به «إسرائيل» للقانون الدولي والإنساني، وبعد الإدانة الواسعة من المنظمات الأممية والكثير من الدول والرأي العام الغربي، الذي كشفت استطلاعات رأي ذات مصداقية تراجع تعاطفه مع «إسرائيل» واقتناعه بسرديتها، وأيضا بعد حكم محكمة لاهاي التاريخي وغير المسبوق، والأهم بعد افتضاح خطط الكيان ونواياه التوسعية التي تقوم على تهجير سكان غزة، بعد القيام بعمليات إبادة وتطهير وحصار وتجويع واسعة، هذا الواقع الجديد جعل الأنظمة العربية تعاني حالة شلل تام، وتعمقت أزمة الثقة والمصداقية مع شعوبها التي تعرف حالة غليان واسعة، تنذر بحالة انفجار وشيك، وجعلت كل المقولات والرهانات على عملية سلام حقيقية تتهاوى تباعا، بعد أن خلطت «إسرائيل» كل الأوراق وخرجت عن السيطرة الأمريكية والغربية وباتت تهدد مصالحها الاستراتيجية في المنطقة والعالم ومشاريعها ورهاناتها المستقبلية على “اتفاق أبراهام”، ويمكن إجمال رهانات اللاعبين الكبار والصغار على التطبيع في:

الرهانات المغربية

1. الرهان السياسي على الدعم الأمريكي في ملف الصحراء وحشد الاعتراف الدولي في قضية عمرت طويلا. وهذا ما صرح به البيت الأبيض وترامب بشكل واضح وصريح، فقد أكد ترامب دعمه لمقترح المغرب المتعلق بالحكم الذاتي في الصحراء كأساس وحيد عادل ودائم لحل النزاع. ووصف ترامب المقترح المغربي بأنه “جاد وواقعي”.

2. الرهان الدبلوماسي على تفكيك محور الجزائر/إيران في ظل توتر العلاقات المغربية الإيرانية منذ 2009 وتوتر العلاقة مع الجزائر، فلطالما كان المغرب قلقًا بشأن الدعم الإيراني الواضح لجبهة البوليساريو، وهو اتهام قامت على خلفيته الرباط بقطع علاقاتها مع طهران في عام 2018.

3. الرهان العسكري والأمني بضمان تفوق الجيش المغربي بتزويده بتكنولوجيا أمريكية وصهيونية بعد ظهور بوادر صراع مسلح في الأفق إثر إنهاء وقف إطلاق النار بين المغرب والبوليساريو، ولعل إنشاء أول مصنع في شمال إفريقيا لطائرات سباي المسيرة، وتزويد المغرب بقمرين صناعيين من شركات إسرائيلية هي إحدى أهم الخطوات في مجال التعاون العسكري، وهو ما يفسر أن من بين بنود الاتفاق مع إدارة دونالد ترامب موافقة الكونغريس على صفقة أسلحة للمغرب، تضم 4 طائرات عسكرية مسيرة من طراز إم كيو-9 ريبر وذخائر من طراز إيه جي إم-114 هيلفاير وبيفواي وذخائر الهجوم المباشر المشترك بقيمة بلغت مليار دولار.

4. الرهان الأمني بتوفير الحماية الأمنية للنظام الحاكم بالمغرب في ظل عدم استقرار المنطقة، وتزايد وتيرة القلاقل التي تعرفها بعد مخلفات الربيع العربي في كل من تونس وليبيا.

5. وأيضا بسبب الرهان على ضمانات أمريكية وصهيونية للمساعدة في سلاسة انتقال السلطة في المغرب في ظل صراع الأجنحة.

6. الرهان على تحقيق عائد اقتصادي وتنموي بجلب استثمارات وقروض أمريكية وغربية ذات أصول يهودية، باعتبار المغرب وجهة آمنة ومستقرة للاستثمار.

بالطبع هذه الرهانات تقاطعت مع رهانات ومصالح أمريكا وحلفائها في المنطقة وعلى رأسهم الكيان الصهيوني.

 الرهانات الأمريكية والصهيونية

1. تحقيق اختراق أكبر للصف العربي في شمال إفريقيا في ظل الموقفين الجزائري والتونسي الرافضين للتطبيع، فحسب المُحلِّل العسكري الاستراتيجي للموساد، عامير هرئيل، “الجزائر من أكثر الشعوب العربية كُرْهًا لـ«إسرائيل»، فلديهم الاستعداد للتحالف مع الشيطان في وجه الكيان. وهي كراهية عجزنا عن إزالتها طيلة العقود الماضية”. بل ويؤكد “إننا فشلنا في القضاء على هؤلاء الأعداء الذين لم ندَّخر جهدًا من أجل دحرهم أو القضاء عليهم، صمتهم مُرعِب ومُخِيف.. الجزائر عدو للأبد”. كما يرى الجنرال المتقاعد، عاموس يدلن، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق ورئيس معهد أبحاث الأمن القومي «الإسرائيلي» الحالي، أنَّ «إسرائيل» لها مصالح استراتيجية في تقويض الجيوش العربية التي تشكِّل تهديدًا لـ«إسرائيل» أو خاضت حروبًا معها على غرار الجيش الشعبي الجزائري 2، ونظام تونس أيضا عبر عن رفضه للتطبيع. وبالطبع لم يبق إلا المغرب الملكي الذي لعب هذا الدور تاريخيا من خلال تمهيد الطريق سياسيا ونفسيا للقبول بالصهاينة في المنطقة، وتحطيم الحواجز النفسية والعاطفية مع العدو وتهيئة الشعوب نفسيا للقبول به كجسم طبيعي ومرحب به، مادام أن السلطة الفلسطينية نفسها انخرطت في عملية السلام.

2.  اتخاذ المغرب قاعدة شمالية لإفريقيا للحد من الهيمنة الروسية والصينية الاقتصادية وتحجيم الهيمنة الفرنكوفونية بعد تراجع الدور الفرنسي، فالصين صارت أكبر شريك تجاري لقارة إفريقيا، وأقوى مستثمر في مشروعات البنية التحتية والتعدين، حيث أوضحت بيانات الهيئة الوطنية العامة للجمارك أن التجارة بين الصين وإفريقيا وصلت إلى 254.3 مليار دولار في 2021، بزيادة 35.3 بالمئة على أساس سنوي.

3.  تعزيز الوجود الأمريكي في منطقة الساحل الشمالي لإفريقيا للحد من ظاهرة الإرهاب وكبح المد الشيعي المزعوم حسب الوثائق الأمريكية التي تحاول العزف على الوتر الطائفي لإرهاب وضبط أنظمة المنطقة في شمال إفريقيا والخليج، بترويج معلومات وتقارير عن محاولة فيلق القدس الإيراني وقوات حزب الله المدعومة من قبل إيران إيجاد موطئ قدم لها في منطقة الساحل، وتجنيد الجماعات الشيعية في نيجيريا وغانا والسنغال ووسط وشرق إفريقيا، لمحاصرة المد الصهيوني هناك، وقد سربت «إسرائيل» تحذيرات مماثلة بشأن النشاط الإيراني في تشاد.

4. تخفيف الضغط والتنفيس عن الأزمات السياسية الصهيونية الداخلية المتفاقمة بسبب الإصلاحات القضائية وسلسلة الفضائح السياسية، وتغطية الهزائم العسكرية المتتالية عن طريق إيهام الرأي العام الصهيوني، أنه تم تحقيق نجاحات دبلوماسية خارجية عبر اتفاق أبراهام.

5. وبعد هذا تأتي المكاسب الاقتصادية والتنموية والثقافية والسياسية في المنطقة لكل من أمريكا والصهاينة، فمنذ مدة رفع بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، شعار «إسرائيل» تعود إلى إفريقيا، وإفريقيا تعود إلى «إسرائيل». ونجحت في إقامة علاقات دبلوماسية مع 40 دولة من بين الدول الـ54 التي تتكون منها القارة، وسعت منذ 2002 للحصول على مكانة “دولة مراقب” في الاتحاد الأفريقي، لكن موقف جنوب أفريقيا والجزائر يقف حائلا أمامها بسبب دعمهما للقضية الفلسطينية، ومساندتهما لـ”حركة المقاطعة العالمية BDS”.

ماذا تغير بعد طوفان الأقصى؟

قبيل السابع من أكتوبر رفض المغرب استقبال قمة النقب 3، وطبع علاقته مع “إسرائيل” نوع من البرود الملحوظ، ولا شك أن معركة طوفان الأقصى وما نتج عنها من كوارث إنسانية زاد هذه العلاقة جمودا، تمثل في وقف الرحلات المباشرة، وتراجع عدد السياح، وإجلاء تمثيلية الكيان الدبلوماسية في الرباط، وتوسع الاحتجاجات الشعبية وارتفاع حملات المقاطعة، فهل نكون أمام فرضية أن المغرب غير موقفه نسبيا من الاتفاق؟ وقد يكون تأجيل استضافة المنتدى إحدى المؤشرات، يضاف إليها انسحاب أحزاب رسمية من مجموعة الصداقة البرلمانية، وبرودة استقبال رئيس الكنيسيت، والسماح بارتفاع وتيرة انتقاد الاتفاق من جهات وشخصيات رسمية؟ فهل نحن أمام هذه الفرضية أم أن الأمر لا يعدو أن يكون برودا عابرا في العلاقات؟ 4.

يمكن لفرضية تغيير الموقف أن تتعزز، ليُخرج المغرب نفسه من هذا الوضع الذي ورّط نفسه فيه، إذا ما استحضرنا سياق معطيات جديدة يتشكل، من أهمها:

1. تراجع وتيرة الضغوط الأمريكية على المغرب بعد وصول إدارة بايدن المختلفة عن إدارة ترامب المنخرطة بقوة والمتحمسة لـ«إسرائيل» إلى حد قد يهدد المصالح الأمريكية، مما حذا بوزارة الخارجية الاتصال بسفيرها في تل أبيب وتنبيهه “السيد السفير، لا تكن يهودياً جداً، أنت تمثل الولايات المتحدة الأميركية، قلل من اليهودية في عملك”.

2. حالة الإحراج بسبب العدوان الصهيوني المتواصل وبناء المستوطنات وتهديد مسارات السلام، وعدم قدرة واشنطن على فرملة اليمين المتطرف والجماعات الدينية، وفشل محاولاته في السيطرة على الحكومة الصهيونية، وفشل الرهان على حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة الشعبوية التي يحكمها منطق انتخابي، ولا يمكن أن تكون شريكا آمنا للدول المطبعة.

3. عدم تقدم الموقف الصهيوني في ملف الصحراء وعدم الاعتراف الرسمي والصريح، لحد الساعة بسيادة المغرب على الصحراء، وتفاقم الشعور بأن الاتفاق جاء في سياق ابتزاز سياسي رخيص للمغرب بربطه ملفين لا يربطهما رابط، يضاف إليه ابتزاز جديد بربط الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء باعتراف مغربي بسيادة الصهاينة على القدس الشريف.

4. شعور المغرب الرسمي بالإحباط نتيجة تذبذب الموقف الأمريكي في ظل تصريحات وزيارات مسؤولين أمريكان للجزائر، وحتى افتتاح قنصلية أمريكية في الداخلة بتاريخ 10 يناير 2021 على رمزيته، اعتبر خطوة أمنية وعسكرية استخباراتية فهي قاعدة متقدمة لأمريكا في جنوب الصحراء أكثر منه خطوة دبلوماسية.

5. اتساع وتيرة الاحتجاج الشعبي المحلي الرافض لهذه الخطوة التطبيعية غير محسوبة العواقب، وقوة الرسائل الشعبية وخاصة الشبابية في المنتديات الرياضية العالمية والمحلية.

يضاف إلى كل هذا مجموعة من التحولات الإقليمية والدولية الجيوبوليتكية، لعل أهمها المصالحة السعودية الإيرانية، وعودة سوريا إلى الجامعة العربية، وتراجع التوتر العربي مع تركيا خاصة بعد تحسن العلاقات مع مصر والسعودية، ومحاولة إدارة بايدن إخماد الحرائق المشتعلة في كل مكان، فلم يعد حصار المجال الحيوي الإيراني ومواجهة النفوذ التركي/القطري في ليبيا ودعم حفتر وتسليحه أولوية لفرض الدور الإماراتي/السعودي، ولم يعد الاقتراب الاستراتيجي من الجزائر وتونس أيضا أولوية حالية بعد القضاء على دور الحركات الإسلامية التي جاء بها الربيع العربي إلى الحكم في المنطقة.

نتمنى أن تدفع كل هذه العوامل المغرب إلى مراجعة موقفه من التطبيع، وإبطاء سرعته الجنونية، فمبررات قرار المغرب وقف التطبيع في أكتوبر 2000 وإغلاق مكتب الاتصال في الرباط، التي تحدثت عن “انتكاسة عملية السلام والأعمال اللاإنسانية التي ترتكبها القوات “الإسرائيلية” منذ أسابيع في حق أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل واستخدامها الآلة الحربية لقتل المدنيين الأبرياء… وموقفها المتعنت بإعلانها أمس الأول عن توقيف عملية السلام ونظرا لمسؤولية المغرب والتزاماته في نطاق لجنة القدس التي يرأسها الملك محمد السادس عاهل المغرب من أجل دعم مسلسل السلام” 5، هي نفسها الآن، فالظروف أخطر وأشد كارثية والمبررات قائمة لقطع العلاقات فورا، في ظل عدوان صهيوني متواصل على الفلسطينيين آخره الحرب على غزة، وسياسة توسيع المستوطنات، واقتحام المقدسات والإصرار على التقسيم الزماني والمكاني للأقصى، وإصرار حكومة يمينية متطرفة على ضرب القانون الدولي ومرجعيته وإجهاض “عملية السلام”، فالعدوان الصهيوني تجاوز كل الخطوط الحمراء، وكشف عن فكر ونهج سياسي استئصالي فاشي نراه اليوم في الواقع الميداني بكل وضوح، بحيث لم تسلم منه حتى طواقم الإغاثة الإنسانية والطواقم الطبية الأممية والفرق الإعلامية الدولية.

أفلا تكفي كل هذه المبررات، إضافة إلى انعدام العائد الاقتصادي والمالي من هذا التطبيع واختلال الميزان التجاري لصالح الصهاينة، فضلا عن التهديدات الأمنية والتجسسية والإهانات الدبلوماسية 6، من أجل التعجيل بقرار مقاطعة هذا المسلسل المشؤوم بالانسحاب من هذا الاتفاق بشكل رسمي وواضح؟


[1] أصبح المغرب سادس دولة عربية تطبع مع «إسرائيل» بعد مصر (1979) والأردن (1994) والإمارات (2020) والبحرين (2020) والسودان (2020). ففي 10 دجنبر 2020 أعلن دونالد ترامب عبر تغريدات على تويتر أنَّ المغرب و”«إسرائيل»” اتفقا على تطبيع العلاقات بينهما بوساطة أمريكية، ووقع إعلانا رئاسيا يعترف بسيادة المغرب على الصحراء مع فتح قنصلية في مدينة الداخلة، وبموجب الاتفاق أخطرت إدارة دونالد ترامب الكونغريس بصفقة أسلحة للمغرب تضم 4 طائرات عسكرية مسيرة من طراز إم كيو-9 ريبر وذخائر من طراز إيه جي إم-114 هيلفاير وبيفواي وذخائر الهجوم المباشر المشترك بقيمة بلغت مليار دولار.
[2] شحادة، نادية، مركز الإعلام والدراسات الفلسطينية، العدد 655، 2016.
[3] شحادة، نادية، مركز الإعلام والدراسات الفلسطينية، العدد 655، 2016.
[4] قال وزير الخارجية المغربي “إن تأجيل القمة جاء بسبب الأوضاع السياسية التي تشهدها المنطقة وأن القمة “تحتاج إلى توافر شروط موضوعية كي تحقق أهدافها وبخاصة في ما يدعم الأمن والسلام بالمنطقة”، مضيفاً أنها “إطار للحوار السياسي الإقليمي والتعاون السياسي الذي يمكن أن يحمل حلولاً للوضع في الأراضي الفلسطينية، وأن يفضي إلى إيجابيات كثيرة”.
[5] بلاغ وزارة الخارجية والتعاون.
[6] أنباء عن عودة ديفيد غوفرين إلى الرباط بعد تورطه في الاستغلال الجنسي والتحرش بمواطنات مغربيات.