نحو تجديد معاني “الفقه في الدين” مدرسة الإمام المجدد “عبد السلام ياسين” نموذجا (1)

Cover Image for نحو تجديد معاني “الفقه في الدين”
مدرسة الإمام المجدد “عبد السلام ياسين” نموذجا (1)
نشر بتاريخ

توطئة

نطوي صفحة الفقه النبوي الراشدي باهتماماته الجامعة بين تطلعات الروح إلى الملإ العلوي، ومقتضيات البناء لمجتمع العمران الأخوي (انظر: نحو تجديد معاني “الفقه في الدين”: نظرات في الأصول)، لنفتح صفحة الحاضر؛ على غربة في الدين: نعم، على غثائية في الأمة: نعم، على شتات في أرض المسلمين: نعم… لكن على أمل في الظهور، يبعثه في قلوب المستضعفين أهل الفقه والصحبة والنور. أمل هو اليقين ما دام الواعد لا ينطق عن الهوى، ومادامت بشائر هذا الشباب الصالح الصاعد تشيع وتترى.

يا من يطمح إلى خلافة في العالمين! الفقه الفقه! ثم لن تكون الخلافة الموعودة إن لم يكن فقهك على منهاج النبوة. على قدر همتك تعطى، والجزاء من جنس العمل، ومتى توسطت ساحة المدافعة بفقه من هذا النوع الذي تحدثنا عنه فقد شارفت ميادين الفتح والنصر، وهناك تستقبلك طلائع البشرى النبوية بوسام الاستخلاف والأمن والتمكين.

في هذا البحث نصحب واحدا ممن فتح الله له فتح البصيرة على يد ولي من أوليائه، ليحدثنا عن هذا الفقه الجامع كيف تجزأ عبر القرون لما اشتبك الحق بالباطل واختلط، وليدلنا على الوسيلة لإعادة نظم عقده الفريد بعدما انفرط. يحدثنا عن الرسالة الجامعة كيف انشطرت، وما نتائج الانشطار، ليقدم لنا بعد ذلك – وهو الخبير بأصول الداء وقواعد الاستشفاء – الوصفة المنهاجية الكفيلة برأب ما انصدع من الدين، وجمع ما تفرق بعد عهد الراشدين. يزيدنا اطمئنانا على صواب التشخيص، ويقينا في جدوى التطبيب، أننا نتفقه على أهل الصحبة الوارثين نور الإحسان والتزكية، والحافظين سر التسليك والتربية. وهو ما قرأنا فيما سبق تأكيد السنة عليه، وتحذيرها من العدول عنه، حرصا منها على نصيحة آخر الأمة بما يزيل عنها عتم الطريق، لتسير على المحجة البيضاء، وتخرج تحت ضوء الاقتداء الكامل من دياجير الغربة الظلماء.

تربى الإمام المجدد “عبد السلام ياسين” رحمه الله في بداياته على شيخه “سيدي العباس بن المختار” رحمه الله، وأخذ عنه ما يختص الله به عباده المصطفين من نفائس الأسرار، وما يهبه لأوليائه من لطائف الأذواق وعجائب الأنوار. ولما أراد الله به المزيد من العطاء والخير، والرشيد من العزم والأمر، والسديد من القول والرأي، قذف في قلبه الوليد في حجر الصحبة همّ الأمة والانشغال بشأن المسلمين، فاجتمع له الهمّان، وقام يمهد لفتح قريب بفقه منهاجي يتحرى في خطوه منهاج النبوة، وفقه كلّي يحكم في “قضائه” و”فتواه” كليات السنة والقرآن، وفقه جامع يضم في نظرة واحدة أشواق القلب وأشواك الجهاد، وعلم نافع ينفع الفرد يوم العرض والسؤال، وينفع الأمة ساعة المثافنة والنزال.

الرسالة الجامعة

من كمال اعتناء الله عز وجل برسوله المحبوب صلى الله عليه وسلم، وتمام تكريمه له عليه الصلاة والسلام، ومن واسع رحمته ولطيف إنعامه علينا أن بعثه وخصّنا، وارتضى له ورضي لنا برسالة خاتمة جامعة. وحريّ برسالة هي الإكليل على هامة الشرائع، وهي التاج على رأس سيد الخلق بلا منازع، أن تجمع من الفضائل الزاخرة، والمواهب الفاخرة ما ينال به أهلها خيري الدنيا والآخرة. بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة الجامعة الممتدة من لدن بعثته إلى يوم القيامة. فالرسالة مودعة في الكتاب الذي حفظه الله ويحفظه. وفي السنة التي عكف على جمعها وتمحيصها وتصحيحها المحدثون المحسنون إلينا جزاهم الله خيرا) 1 .

كانت الرسالة المحمدية الدين الكامل الذي أتم الله به النعمة، وكسا به أهل اختصاصه ثوب المنة. أكمل الله تعالى لنا ديننا من يوم نزلت في حجة الوداع آية:) اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا المائدة4. هذا الدين الكامل والنعمة التامة هو ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه) 2 .

سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صحبه الكرام، هي التعبير الصحيح عن كمال الدين، وهي التنزيل المطلوب لمعاني التنزيل الحكيم، والقراءة الراقية لآيات القرآن الكريم. أدعو إلى اقتحام العقبة التي انحدر منها الصوفيّة الكرام عن ذلك الأفق العالي الجهادي الذي تحرك في ذراه الصحابة المجاهدون، نالوا بالجهاد المزدوج، الجهاد الآفاقي والأنفسي درجة الكمال. وجمعوا إلى نورانية القلوب المتطهرة حمل الأمانة الرسالية إلى العالم. وبذلك لحقوا بمقعد الصدق. ليكن هذا واضحا) 3 . وهذا يعني أن: ديننا ناقص إن تمسكنا بإيمان الأخلاق والعبادة والاستقامة والطاعة والجهاد دون تطلع إحساني) 4 . ويعني كذلك أن: اكتمال الإيمان في حقنا أن نبذل الروح في طلب المنزلة الشامخة التي نوّه بها قوله تعالى: )لا يستوي القاعدون النساء 94) 5 . باختصار شديد: المجاهدة بلا ذكر عمل مفضول مسبوق. والذكر بلا جهاد ولا عذر مفضول مسبوق. لا شك في ذلك) 6 .

ولأهمية هذا الأمر، وعظم هذا الشأن، يختار لنا الرؤوف الرحيم بعباده أروع الأساليب ليعلمنا هذا الكمال، ويرفعنا به إلى مصاف الرجال. نعم يا حبيب الله أنت المعلم نعم المعلم جزاك الله عن هذه الأمة ما هو أهله. لكن رحمته سبحانه بنا، وحرصه على أن نتعلم ديننا كاملا وافيا، لما يعلم من قصور فهمنا وغلبة النسيان علينا واختلاط معالم الأمور في ذاكرتنا، بعث معلما مساعدا سماويا هو رفيقك ومحاذيك في إسرائك ومعراجك. عليك صلاة الله وسلامه وعلى الملك الكريم) 7 .

غاب هذا الفهم النفيس لجوهر الدين من واقع الأمة لما تعطلت في أبنائها أدوات الفقه عن الله، وانفصلت بين أجيالها قنوات الأخذ عن الكاملين أهل الله. ويبقى على عاتق الدعاة حمل تبليغ الأمانة، وشرف تعليم المسلمين دينهم كاملا غير منقوص. واجب يستمد قداسته من نفاسة المقصد وعظم الجزاء، ومن جلالة الواعد سبحانه بفيض العطاء. أمامنا واجب مقدس تجاه الأمة، وهو أن نعلمها أن الدين ما هو صلاة ناعسة وصيام وتنسك وحوقلة عاجزة في المساجد، لكنه جهاد شامل، إقامة الصلاة والصيام والزكاة والحج أركانه المنبثقة عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وهي شهادة تحرر من عبودية البشر، وظلم البشر، ووصاية الحاكم الجائر على الأمة) 8 .

ولقد تحمل الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله عبء هذا الواجب متوكلا على ربه، فكان أن أكد على ضرورة الفهم الشمولي للدين منذ سلسلة دروسه حول المنهاج النبوي، بل ومنذ الجلسة الأولى المنعقدة في أول جمعة من هذا القرن إيذانا لليل الجبر بصبح قريب، وتبشيرا لظلام الفتنة بأنوار شمس لا تغيب. فهل تكون دروسنا هذه دروس وعظ مسجدي؟ أم تكون دروس فقه حركي؟ أم تكون دروس تخطيط لمستقبل المسلمين؟ أم تكون دروس تحريض للمؤمنين على جمع الشمل وعلى التهيؤ لاستقبال موعود الله لهذه الأمة في الدنيا واستحقاق موعود الله للمؤمنين الذين يعملون الصالحات في الآخرة؟ سيكون بحول الله كل هذا الأمر. فإن الوعظ والتذكير بالله واليوم الآخر لا ينفك ولا ينفصل عن تذكير المسلمين بواجبهم الجهادي. وإن هذا الواجب الجهادي يطلب منا إعداد القوة قوة الفهم عن الله لنعلم ما يأمرنا به الله عز وجل وقوة فهم الواقع لنعلم ما هي مقتضيات الجهاد الذي أمرنا به) 9 .

فيما يلي إن شاء الله نستمع إلى الإمام وهو يحكي في صفحات كتبه ورسائله تفاصيل انحدار “الفقه في الدين” من تلك الذروة العالية حيث الفهم الكامل والأمر الجامع والجهاد الشامل، إلى سفوح التشتت والانشطار، بل إلى حضيض العقول الكليلة والقلوب العليلة. همم خارت فمالت عن سبيل المحجة والأمر الرشيد، وحويصلات ضاقت فعاقت عن التأسي الكامل بالنموذج الصحابي الفريد.

كيف انشطرت إذن رسالتنا الجامعة؟ وكيف استطاعت جرثومة النقصان أن تتسلل إلى ذلك الجسد الشامخ والبنيان المتراص الذي سهر على إكماله – تحت العين الربانية – رسول من الله وصحب عظام؟ ماذا فعلت هذه الدبيلة في كيان الأمة؟ وماذا أورث هذا الصداع في رأس الدين؟ كيف غاب الفقه في جميع مراتب الدين، والفقه في مجالات النصح لله وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم، لتستبدل الأمة به مسائل في جزئيات التعبد والمعاملات، وأحكاما تبدع في بضعة أوراق من هبت عليه من جيل النبوة نسمة أشواق فباح بما أورثته في قلبه من لطائف الأذواق؟


[1] تنوير المومنات، ج: 1، ص: 266.\
[2] تنوير المومنات، ج: 1، ص: 286.\
[3] الإحسان، ج: 1، ص: 94.\
[4] الإحسان، ج: 2، ص: 96.\
[5] الإحسان، ج: 1، ص: 147.\
[6] الإحسان، ج: 1، ص: 276.\
[7] الإحسان، ج: 1، ص: 19.\
[8] رجال القومة والإصلاح، ص: 24-25.\
[9] كيف نجدد إيماننا؟ ص: 9-10.\