مهلا أخي: وماذا عن ضجعة القبر؟

Cover Image for مهلا أخي: وماذا عن ضجعة القبر؟
نشر بتاريخ

أما الأمر بالإكثار من ذكر ساعة الانتقال إلى الدار الآخرة فصريح في هدي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم متكرر.

لا يضيعن أحدنا ساعة الصفاء القلبي إن لاحت له في أفق غفلته ولا يحقرنها فلعلها تكون ساعة لقاء معنوي مع الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم عبر حديث مسموع أو مكتوب من هديه صلى الله عليه وسلم تنفتح فيها بصيرة القلب بقية العمر على الاستحضار الدائم لضجعة القبر والبعث والوقوف بين يدي الحق عز وجل والجزاء والحسنى والزيادة وما لا عين رأت ولا أذن سمعت…

مر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمجلس من مجالس الأنصار وهم يمزحون ويضحكون، فقال: “أكثروا ذكر هادم اللذات، فإنه لم يذكر في كثير إلا قلله، ولا في قليل إلا كثره، ولا في ضيق إلا وسعه، ولا في سعة إلا ضيقها” 1.

يا حبذا تحررا من مشاغل العبور القصير للدار الفانية يجود به المولى عز وجل على النفس العابثة اللاهية فتنتبه وتنشغل وتتفكر في لحظة تماس الجلد المتلحف ساعتها بخيوط الكفن الأبيض البسيط بألواح النعش الجامدة المتراصة المتمرسة على نقل الجثث الهامدة إلى حيث توارى الثرى انتظارا للوقوف الحتمي بين يدي الحق سبحانه عز وجل.

لنجلس أخي من حيث القلب والمعنى كأن على رؤوسنا المعنوية الطير بين يدي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولننصت: عنْ سيدنا أَبِي ذَر الغفاري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (زُرِ الْقُبُورَ تَذْكُرْ بِهَا الآخِرَةَ، وَاغْسِلِ الْمَوْتَى، فَإِنَّ مُعَالَجَةَ جَسَدٍ خَاوٍ مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ، وَصَلِّ عَلَى الْجَنَائِزِ لَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يَحْزُنَكَ، فَإِنَّ الْحَزِينَ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَتَعَرَّضُ كُلَّ خَيْرٍ).

زر القبور تذكر بها الآخرة.

معالجة جسد خاو موعظة بليغة.

صل على الجنائز لعل ذلك أن يحزنك.

تاه والله وضل، إلا إن تداركنا الله وإياه برحمة منه، من استغنى عن ما وصف له النبي صلى الله عليه وسلم فبحث عن قلب مستحضر لذكر الموت بعيدا عن الجلوس المتأدب بين يدي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يعيشك القرآن الكريم – إن شئت وتدبرت – الحقيقة البديهية البسيطة المفروغ من وقوعها، يغلق مؤقتا نوافذ التلهي وطول الأمل ويفتح عيني بصيرتك برفق وقوة ليضعك أمام أم الحقائق وأخطرها: جسد هامد توقفت كل وظائفه المادية مستلق على قطعة خشب يحيط به المشيعون ويتعاونون على وضعه في حفرة فرغ للتو من إعدادها له خصيصا بعد أن تلقى من شاء الله عز وجل من الأحياء نعي صاحب الجسد، نعي يبكي بعضا ويغشى بسببه على بعض وتتعدد آثاره وتتباين تعدد نفسيات متلقيه وتباينها، لكن الحقيقة واحدة: من اليوم فصاعدا لن نرى فلانا المبتسم حينا والقلق حينا، مضى كل شيء…

أتذكرون بهجته ليلة زفافه؟

أتذكرون تهلل أساريره يوم بشر بمولوده الأول؟

أتذكرون وقوفه قلقا وابنته ينتظران نتيجة اختبار نهاية التعليم الثانوي، وكيف دخلا في عناق حار طويل فور إعلان حصولها على نتيجة الامتياز، كيف فاضت عيناه وبات تلك الليلة طيب النفس منشرحا مسرورا…؟

أتذكرون أناقته ووسامته كل صباح وهو منشغل بإحماء محرك سيارته قبيل الذهاب إلى العمل؟

كيف كان يرد تحية جيرانه؟ كيف كان يلاطف بقال الحي وحارس السيارات ويمازحهما؟

أتذكرون إطلالاته البديعة على مواقع التواصل الاجتماعي؟

أتذكرون كل ذلك وغيره؟

لم يبق منه إلا هذا الجسد الراقد تحت تراب مبلل سرعان ما سيجف بعد أن تفرغ الحناجر من تلاوة سورة ياسين وتمسح الأكف الوجوه والصدور عند ختم الدعاء.

تفرق المشيعون وتبددت جموعهم وابتلعتهم مشاغل العبور المؤقت وبقى جسد الهالك وحيدا تحت التراب…

ليت هذا المشهد المحتوم خليخلدود في أعماق القلوب والعقول طيلة مدة السفر إلى الدار الآخرة.

ليت استحضار هذا المشهد يوقد في غياهب الغفلة عن الدار الآخرة وفي غيابات التلهي وطول الأمل سراج السؤال المركزي البسيط:

وماذا بعد أن يفرغ الناس من دفني ويختموا الدعاء؟

كيف تركت في الحفرة وحيدا بعيدا عن صخب العالم، عن نور الشمس، عن تقلبات المناخ، عن الأحداث السياسية، عن ارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور وجديد التقانة…؟ عن كيد فلان ومكر علان؟ عن حب زيد وكراهية عمر؟ عن غنى الأغنياء وفقر الفقراء؟ عن القضايا الكبرى وتفاصيلها اليومية القريبة مني والبعيدة؟

مضى كل شيء؟

هنا في الحفرة المعلومة لا أثر لشيء من ذلك وآخر عهدي بالدنيا: جنازة رجل وأربع تكبيرات والسلام؟

مهما كانت خصومتنا…

مهما تكن مظلمتي عندك أو مظلمتك عندي…

مهما كان خلافنا الفكري ومهما تباينت وجهات نظرنا ومصالحنا ومواقفنا…

سنستلقي يوما على تلك الألواح الخشبية الموضوعة هناك في زاوية ما في المسجد

سيتوقف كل شيء وننتظر معا تحت التراب ثم نلتقي وقد توقف النطق والجدل والحيل وفسح المجال للتوثيق الرباني لصغائر الأحداث وعظائمها هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون 2.

اندثرت الأضواء التي كانت تكشف ملامحك النبيهة وعينيك اللامعتين وأنت تفحم الحضور بالحجج والتحليلات المتينة المقنعة تقاطعك تصفيقات المؤيدين وتشجيعاتهم…

لا وجود الآن للوحة المفاتيح التي لطالما أقمت بواسطتها شبكة المعلومات الدولية ولم تقعدها بتعليقاتك وصورك وإسهاماتك…

لا مجال لشيء من ذلك الآن…

يفسح المجال لشهود الإثبات الحقيقيين لمصلحة الوثائق والمستندات الإلهية يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين 3. أفرغ قلبك من كل هوس واعلم الآن أنه هو الحق المبين.

يرتقي صاحب القرآن إذ يرتدي نظارات التدبر والاعتبار ويترفع عن سفاسف الضغائن وصبيانية الرغبة في إفحام الخصم السياسي أو الفكري فيرى في الإنسان أولا وقبل كل شيء ذلك السائر إلى القبر المقبل على الوقوف المحتوم بين يدي الحق سبحانه يوم يكشف التوثيق الدقيق لأحداث الحياة الدنيا يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ 4.

تراجع النيات وتتغير الوجهات وتتبدل الأسئلة من: كيف أنتصر لرأيي ورأي فريقي الذي أحسبه حقا؟ إلى: كيف تكون التوبة والتعاون على التوبة مقصدا صادقا ملحا تتشربه قلوبنا ونسأل الله أن يتداركها به رحمة منه وفضلا..؟

دع المستخف بهذا للأيام تطهر قلوبنا وقلبه ولنتذكر نحن أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الخلق وأعلاهم مرتبة بالإطلاق كان يقول لسادتنا صحابته رضي الله عنهم “يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّة” 5.

لا يهرب المستحضر للموت من فريضة مخالطة الناس والتعاون معهم، لا يعطل قدراته على مجادلة الناس بالتي هي أحسن، لا يدير ظهره لسنة التدافع والتلاقح بين المختلفين، غير أن مثول ضجعة القبر نصب عينيه تجعله لا يشهر من وسائل التدافع في وجوه خصومه إلا بقدر ما يرد أذاهم. يعلم أنه ما تحرك في ابن آدم شيء أخطر عليه من لسانه. فإن كان ولا بد من التدافع والجدال: فثلث لحجاج الخصم وتوضيح الحق له وثلث لوعظه وتذكيره بالدار الآخرة وثلث للعفو عن ما لا باس من التجاوز عنه من زلات اللسان وسوء الفهم.

المؤمن الحق المتأسي بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحياة والناس لأنه صاحب مشروع في الوجود. الدنيا مرسمه، فيه يخط اللوحات التي سيشارك بها في معرض الوقوف بين يدي الله عز وجل.

(المرسم تحفة في ذاته، وأمتع أوقاتي أقضيها هنا، لا أخفيكم سرا كلما أوغلت في الرسم كلما زادت رغبتي في البقاء والاستمتاع بفني الذي أعشقه..).

يقول الفنان المشهور واهتزازات هوسه بفنه واضحة لا تخطئها العين الفاحصة في طريقة كلامه وحركات يديه ولمعان عينيه وانتشائه وهو يحدثك بالتفصيل وبلا ملل عن أعماله لوحة لوحة….

(موقع المرسم – كما ترون – اختير بعناية بحيث يطل على حديقة البيت، الستائر مثبتة بجمالية فائقة وذوق رفيع، النوافذ تنظف يوميا تفتح إحداها على نسمات البحر كل صباح، طلاء الحجرة ذو جودة عالية تبقى بسببه الحرارة شبه مستقرة. وقرب اللوحة علق حامل الأدوات والصباغة بحيث يسهل تغيير فرشات الرسم كلما استدعى الأمر ذلك، وفي زاوية من زوايا الحجرة حاسوب وأقراص مدمجة تحوي أرقى ما عرض في العالم من روائع الرسامين والموسيقيين الكبار…).

قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا 6.

عن سيدنا أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه أنّ سيدنا رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: “”إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا” قَالُوا: “وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟” قَالَ: “حِلَقُ الذِّكْرِ”” 7.

وروى سيدنا الإمام الترمذي رحمه الله أيضا عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر” 8.

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ 9 ودنياك أخي مرسمك وورشك الذي تحضر فيه لوحاتك ليوم العرض على الله عز وجل.

هل تحب مرسمك وتعشقه بما هو مكان تحضير مشاركاتك في المعرض؟

وكذلك الراسخون في الاستعداد للدار الآخرة تفتح نوافذ أوراشهم على حديقة غراس الجنة ورياضها… وعلى بحر كلام الله عز وجل سبحانه ونسماته، يجعلون من الكسب الحلال والكد المعتدل وإتقان الحرفة ستائر لا يمدون بسببها أيديهم للناس تكففا، ستائر جميلة متقنة الصنع يصير معها لنسيم البحر وعبير الأزهار المنبعث من الحديقة معنى وجمالية ومتعة لا توصف.

الدنيا عند المؤمن جوهرة غالية، كنز ثمين، فرصة سانحة، أهل هي أن تعاش وتحب لأن من أويقاتها تكتسب الحسنات، وفي أيامها ولياليها يحصل القلب شيئا فشيئا معاني وحقائق محبة الله عز وجل سبحانه ومحبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستعداد للدار الآخرة بالإحسان إلى الخلق والتعاون مع الناس على التحقق بالإيمان والعمل بمقتضياته. محبة المؤمن ليست لذات الدنيا بل لما تتيحه من فرص للتقرب إلى الله عز وجل…

يراكم من الحلال لتكون له القدرة على البذل والعطاء للتمكين لدعوة الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم في الأرض..

يبني أسرة محمدية الأنفاس ربانية الأيام والليالي ليكون له في مباهاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمم إسهام ونصيب “فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة” 10.

يسقي بالبر والصلة شجرة والديه المباركة التي أنبتته حتى يكون له في الدنيا أصل أرضي ثابت وفرع قلبي في السماء يتمتع بما يأتيه من أكلهما كل حين بإذن ربنا عز وجل…

يشيد لنفسه في الدنيا مجدا أخرويا لا ينقطع من الصدقات الجارية والعلوم النافعة والذرية الطيبة ترابيها وروحيها…

يحب المقام فيها بما هو فرص جديدة للتقرب من الله عز وجل بصالح العمل القلبي والحسي “خيركم من طال عمره وحسن عمله” رواه سيدانا الإمامان أحمد والترمذي رحمهما الله.

لا يساوي المكوث فيها عنده جناح بعوضة إن كان أمر الله عز وجل يقتضي الخروج منها كلها ومفارقة الروح الجسد… يستحضر معاني قول الحق عز وجل سبحانه في سورة التوبة: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين 11 فيزن أعماله كلها بميزان محبوبيتها عند الله عز وجل… فيسهل عليه بذل النفس والمال والوقت وكل المحبوبات تقربا إلى الحق سبحانه.

يتساءل ذو الحرقة على “العمل الإسلامي” بألم:

ألا ليت أيام التوبة الأولى تعود من جديد؟

أين ذلك البكاء الحار والأنين الصادق بين يدي الحق عز وجل في جوف الليل؟

أين ذلك التراحم واللين والاستعداد للخروج من الدنيا كلها وبذل كل شيء إرضاء للحق عز وجل؟

أين بشاشة الإيمان التي كانت تغني الناظر عن كل إشارة وعن كل عبارة؟

أين تلك المحبة التي كانت بشهادة الكل أصدق إنباء من كل التلميحات وكل التصريحات؟

أإلى هذا الحد تبتلع الحركة للدين والعمل لنصرته حياة القلب ولينه وتعلقه بربه؟

أإلى هذا الحد خبت تلك الشعلة الإيمانية التي كنت أستشعرها وإخوة لي في أيام التوبة الأولى؟

لا تبالغ أخي فلعل كثيرا من ذلك من نجوى الشيطان ليحزن الذين آمنوا، ولنتعلم أنا وأنت من حياة سادتنا الصحابة رضي الله عنهم الانشغال بالاستجابة للأمر وتسليم القلوب إلى بارئها يفعل فيها ما شاء ولا يفعل الحق سبحانه عز وجل إلا خيرا.

وتسألني ما بال فلان الداعية الجامع لعلوم الدين يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ويأوي إلى ركن رديء ويصور للناس، وهو العالم مسموع الكلمة فصيحها، الظلم عدلا والحق باطلا مقابل امتيازات عابرة أو التماسا لعافية الجبناء؟ ألا لا نامت أعين الجبناء…

ما بال فلان قليل البضاعة في العلم رديئها، ينصب نفسه مفتيا فيكفر من شاء ويبث في قلوب المغرر بهم من أمثاله كراهية الناس واحتقارهم ويصور في عقولهم مرتبة الجهاد الرفيعة قتلا للأبرياء وتفجيرا وتخريبا بغير حق؟ يتمرد على قدر الله عز وجل فينزل نفسه غير منزلتها ويفتي بغير علم، يضيق ما وسع الله عز وجل ويسعى في مشهد مضحك مبك إلى سجن الشريعة المحمدية على رحابة آفاقها في قوالب ضيقة إرضاء لنزوعه المرضي إلى الوصاية على قلوب عباد الله وإلى احتكار النطق باسم الرسالة السماوية الخاتمة؟ كيف استدرج إلى كل هذه الدركات؟ أين عيناه الدامعتان يوم تاب؟ أين قلبه الذي كان يوم استنشق لأول مرة عبير الإيمان يشعره أن كل الناس خير منه وأنه أكثرهم تفريطا في جنب الله عز وجل؟

ما بال… وما بال… وما بال…؟

ترى ما أول خبر جاء به القرآن الكريم عن النفس الإنسانية؟

بعد الأمر الرباني المشفوع بالتذكير بنعم الله عز وجل وتكريمه للإنسان أقرأ باسم ربك الذي خلق يتلقى الإنسان في بداية الرسالة السماوية الخاتمة أول وأهم خبر عن نفسه التي بين جنبيه كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى من طبيعة الإنسان الطغيان إن غابت عن قلبه وذهنه حاجته إلى ربه الذي خلق إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى

قول الحق سبحانه إن إلى ربك الرجعى تذكير للإنسان الواقف في الدنيا على شفى جرف هار أن له حاجة عند ربه لما تقض، لأنه لم يخلق ويترك لشأنه بل له موعد سيلقى فيه ربه بعد انتهاء الحياة الدنيا: إن إلى ربك الرجعى.

عن سيدنا أبي هريرة، رضي الله عنه، قَالَ: “سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: “لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ”. قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “لَا، وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ؛ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ”” 12.

يطغى العابر وتسقط نفسه في فخ توهم الاستغناء عن رحمة الله عز وجل إن عشى قلبه عن ذكر حاجته إلى رحمة الله عز وجل وعفوه وتجاوزه… بعد ذلك تتعدد سبل الهلاك والمآل واحد: تكفير للناس وإهدار دمائهم بغير حق، بيع للدين بعرض من الدنيا قليل، تضييع حقوق الزوج والأبناء حسيها ومعنويها وهلم جرا…

فكيف يا ترى يحافظ أحدنا على حضوره في الدار الآخرة من حيث القلب والعقل؟

قبل ذلك: هل الموت عدم؟

(التدين أمر شخصي، أنا مسلم أكثر منك ولا يحق لك أن تحاسبني على علاقتي بالله عز وجل، احتفظ بوعظك لنفسك، تريد بكلامك العاطفي المنمق عن الدار الآخرة رؤوسا تنحني بحضرتك في مجالس الدروشة والتواجد يسهل عليك فيما بعد توجيهها حيث ما شئت لتحقيق أهدافك السياسية الانتخابية المصلحية).

لنا عودة في مكتوب لاحق إن شاء الله إلى ما جنته أيادي الدعاة المهرولين إلى السياسة المتهافتين على مهماتها بلا قيد أو شرط على أجواء التذكير بالآخرة وعلى الكثيرين من ذوي المروءة الذين اختطفتهم يد التغريب والتهجين الثقافي على حين غرة من علماء الأمة ومربيها الأوصياء على كنز الفطرة وعلى الوظيفة التربوية الوارثة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هل الموت عدم؟

عن سيدنا البراء بن عازب رضي االله عنه أن النبي صلى االله عليه وسلم قال: “إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس معهم أكفان من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة أُخرجي إلى مغفرة من االله ورضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، وإن كنتم ترون غير ذلك فيخرجون بها فإذا أخرجوها لم يدعوها في يده طرفة عين، فيجعلونها في تلك الأكفان والحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء التي تليها حتى ““ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله تعالى: اكتبوا كتابه في عليين وأعيدوه إلى الأرض. فيعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك وما دينك؟ فيقول: الله ربي والإسلام ديني، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث إليكم وفيكم؟ فيقول: هو رسول االله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله تعالى وآمنت به وصدقته، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الثياب طيب الرائحة فيقول له: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك يجىء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي” 13.

فيخرجون بها… فيجعلونها… فيصعدون بها… فيعاد روحه… فيقولان له… فافرشوا له… وألبسوه… فيقول له…

مفعول به انقطع عمله…

عوالم جديدة مختلفة تماما عن الحياة الدنيا أخبر بها الصادق المصدوق الأمين ومن أصدق من الله عز وجل ومن رسوله صلى الله عليه وسلم حديثا؟

نسأل الله عز وجل حظا ونصيبا من معاني وحقائق وأنوار قوله سبحانه: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا 14.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعه.

والحمد لله رب العالمين.


[1] أخرجه سيدنا الإمام البيهقي رحمه الله.
[2] سورة الجاثية الآية 29.
[3] سورة النور الآيتان 24 و25.
[4] الحاقة الآية 18.
[5] صححه الشيخ الألباني رحمه الله.
[6] الكهف الآية 109.
[7] رواه الإمام الترمذي رحمه الله.
[8] قال الإمام الترمذي رحمه الله: حسن غريب.
[9] الحاقة الآية 18.
[10] أخرجه الإمام البيهقي رحمه الله في سننه.
[11] سورة التوبة الآية 24.
[12] رواه سيدانا الشيخان رحمهما الله ورضي عنهما.
[13] أورده الإمام السيوطي رحمه الله في كتابه التحفة: بشرى الكئيب بلقاء الحبيب.
[14] سورة الأحزاب الآية 23.