مفهوم النصرة في القرآن الكريم

Cover Image for مفهوم النصرة في القرآن الكريم
نشر بتاريخ

لهذا الجدر (ن ص ر) في اللغة دلالات حسية تلقي بظلالها على الاستعمال القرآني، من ذلك ما ورد في لسان العرب لابن منظور: نصر الغيثُ الأَرض نَصْراً: غاثَها وسقاها وأَنبتها،  النُّصْرة المَطْرَة التَّامّة؛ نُصِرَت البلاد إِذا مُطِرَت، فهي مَنْصُورة أَي مَمْطُورة. ونُصِر القوم إِذا غِيثُوا. ونَصَره ينصُره نَصْراً: أَعطاه. والنَّصائِرُ: العطايا. والمُسْتَنْصِر: السَّائل. وقف أَعرابيّ على قوم فقال: انْصُرُوني نَصَركم الله أَي أَعطُوني أَعطاكم الله.

فالنصرة من المفاهيم الأساسيّة التي نالت نصيبًا وافرًا من الاهتمام القرآنيّ. وعلى الرغم من تشابه المعاني التي استُخدِمت فيها هذه الكلمة في القرآن الكريم إلا أنّ بينها مستوًى مّا من الاختلاف والتمايز يستدعي التوقّف عندها، لأنّ بيان هذه الاختلافات تدبّرٌ في القرآن الكريم من جهة، وعملٌ من جهة أخرى بقوله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [ص، 29].

من معاني النصر في القرآن الكريم:

1) الحماية والدفع: استُخدِمت مادّة نصر في القرآن الكريم في هذا المعنى مرّاتٍ عدة، وفي أكثر من سياقٍ، ربّما كان أكثرها في سياق تهديد الكافرين والعاصين بعدم قدرة أحدٍ على حمايتهم من عذاب الله إذا نزل بهم. وأمثلة ذلك في القرآن كثير، نذكر منها:

أ- نفي الحماية من عذاب الآخرة: ورد هذا المعنى في عدد من آيات القرآن يخبرنا الله فيها عن حتميّة عذاب الآخرة لمستحقّيه، وعجز أيّ قدرة أو جهة عن التدخّل للتخفيف من هذا العذاب أو دفعه عمّن يستحقّه، كما في قوله عز وجل في وصف يوم القيامة: يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ [الطور، 46].

ب- نفي القدرة الذاتيّة على دفع العذاب: ورد في قصّة النبيّ نوح عليه السلام؛ حيث طلب منه قومه إبعاد بعض المقرّبين من المؤمنين به، بحجّة أنّهم من  أراذل القوم، فردّ عليهم بمطالبتهم بحمايته من آثار هذا الطرد ودفع العذاب الإلهيّ عنه إن فعل؛ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [هود، 30]. ومعنى هذه الآية هو نفي وبيان عجز أيّ قدرة على حماية النبيّ نوحٍ من عذاب الله ودفعه عنه إن هو خالف إرادة الله واستجاب لطلب الكفّار الذين كانوا يأنفون من مجالسة فقراء القوم وضعفائهم. والموقف نفسه يتكرّر مع النبيّ صالح عليه السلام.

2) الانتقام: استُخدمت مادّة “نصر” في هذا المعنى في آيات عدّة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء، 227].

وردت هذه الآية في سياق الحديث عن الشعراء الذين كانوا يهجون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فواجههم المسلمون بالسلاح نفسه وانتصروا لرسولهم ولأنفسهم. من أمثلة استعمال هذه المادّة في هذا المعنى – أي الانتقام – قوله تعالى: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ [الشورى، 41] أي انتقم.

وقال الله تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ [القمر، من الآية 10] أي انتقم.

3) العون والمساعدة: من المعاني الأساسيّة لمادّة “نصر” العون والمساعدة. وقد نصّ عدد من علماء اللغة على هذا المعنى عندما تعرّضوا لهذه الكلمة في معاجمهم.  يقول ابن منظور:  ينصر نصرًا… والاسم النُّصرة… والأنصار أنصار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، غلبت عليهم الصفة فجرى مجرى الأسماء… وتناصروا: نصر بعضهم بعضًا.

 ومن ذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء، 45] أي معينا. ومنه قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج، من الآية 40].

فنصرة العبد لله “هو نصرته لعباده والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده واعتناق أحكامه واجتناب (مناهيه)… ذهب أبو هلال العسكري إلى أنَّ هناك فرقاً بين النصرة والإعانة، وذلك (أَنَّ النصرة لا تكون إلا على المنازع المغالب والخصم المناوئ المشاغب، والإعانة تكون على ذلك وعلى غيره، يقول: أَعانه على من غالبه، ونازعه، ونصره عليه، وأعانه على فقره: إذا أعطاه ما يعينه، وأعانه على الأحمال. ولا يقال: نصره على ذلك، فالإعانة عامة والنصرة خاصة)”.

4) النصر بمعنى المنع: قال تعالى: ولا يُؤْخذُ منها عَدْلٌ ولا هُمْ يُنْصَرونَ [البقرة، من الآية 48] ويعني: ولا هم يمنعون من العذاب.

5) النصر بمعنى الظفر أي الفوز: من ذلك قوله: وما النَّصرُ إلاّ منْ عِندِ اللهِ [آل عمران، 126]. حيث خص القرآن النصر بأنه من عند الله لكي يكون توكلهم على الله لا على الملائكة الذين وعدهم الله بإمدادهم بها.

ومن أهم الألفاظ التي اقترنت بالنصر لفظ التأييد، وهو التقوية، قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال، 26].

فالنصر – كما بيّن القرآن الكريم – يكون دنيوياً وأخروياً، قال الله سبحانه وتعالى: مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج، 15]. إذ يكون النصر في الدنيا بإعلاء كلمة الله وإظهار دينه، ويكون في الآخرة بإعلاء الدرجة والمنزلة في الجنة، قال تعالى: إنا لنَنْصُرُ رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدّنيا ويَوْمَ يقومُ الأشهادُ [غافر، 51].