معالم في قضية المرأة عند جماعة العدل والإحسان

Cover Image for معالم في قضية المرأة عند جماعة العدل والإحسان
نشر بتاريخ

تختلف الآراء وتتعدد التصورات لقضية المرأة، وما بين شذب هذا وجذب ذاك تقف المرأة حائرة تائهة، أي السبل هي الأسلم لها حتى تسلكها؟ أي من الشعارات هي الأحق باختيارها ظلا ظليلا يحميها وينصفها من الحيف والجور والاستغلال؟

وتتجلى خطورة هذه الآراء والتصورات في الآثار التي تترتب عنها، وبالتالي قد تشكل فيصلا ما بين تبوؤ المرأة مكانتها في المجتمع ومساهمتها في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية أيضا، والنهوض بأحوال أمتها بالموازاة مع تأدية وظيفتها الأسرية السامية، وما بين لزوم بيتها واكتفائها بدورها المنزلي وغيابها عن الفعل المجتمعي في كل المجالات، أو ربما تمرد على كل ما يمت لطبيعتها الأنثوية بصلة؛ وعلى رأسها وظيفة الأمومة. قلنا إذن ما بين رأي واجتهاد، وتفسير وفتوى، أو شعارات مارقة ودعوات سامة، ترسم معالم مستقبل الأمة ككل.

مبدأ ثنائية الحياة الإنسانية

آية من آيات الله جل ثناؤه هي المزاوجة والمساكنة والمودة والرحمة بين الذكر والأنثى، ثنائية تلازمية لعمارة الأرض والاستخلاف فيها بما يرضي الله تعالى. صعبة هي على ذوي الفطرة السليمة أن يروا ما يطال هذا التناغم المقدس بين الجنسين من تشويه للفطرة وتغيير للخلقة، تبارك الله أحسن الخالقين عما يفعلون، فأن تتشبه المرأة بالرجل وتنافسه في شدته وطبيعته لهو طامة، وأن يزاحم الرجل المرأة في رقتها وينافسها في جمالها وطبعها فهو طامة أخرى. تختل موازين الكون بمجرد التشبه، فما بالنا بمن تمسي امرأة وتصبح رجلا أو بمن يمسي رجلا ويصبح امرأة، تحظى بحماية نواميس مسخة تدعي حماية حرية معيبة واحترام شذوذ جنسي مقيت.

يبقى القول الفصل هو أن استمرار الحياة الإنسانية رهين بوجود قطبين سويين؛ هما الرجل والمرأة لا غير، يقول الله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الذاريات، 49)، حياة خاضعة لقاعدة الخلق هذه، وما دون ذلك مسخ وشذوذ.

أسس المشاركة السياسية النسائية

مبدأ الولاية العامة

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ أُولَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّـهُ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة: 71). مسؤولية مشتركة بتشاور ومحبة يتقلدها الرجل والمرأة لنصرة دينهما الحنيف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولاية إيمان هذه الاستجابة لأمره جل في علاه، “تدخل الصلاة وتدخل الزكاة في طاعة الله ورسوله كما يدخل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دخولا اندماجيا لا فصل معه بين الدين والسياسة. الدين سياسة والسياسة دين. والمرأة المؤمنة كالرجل المؤمن نصيبها من المسؤولية السياسية مثل نصيبه” [1]. مجتمع مؤمن ممتثل لأمر الله تعالى مندمج نساء ورجالا ينصر أحدهما الآخر ويدعمه في تكامل حتى يكون كل طرف ولي للآخر.

التكليف العام

في النص القرآني مخاطبة للمرأة بحمل هم أمتها ومصيرها الدنيوي والأخروي، بأن يكون لها دور في الشأن العام مثل الرجل، في كل المجالات السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكل ما يدخل في الشأن العام، فعز ومجد أمتها من عزها ومجدها، وذل أمتها وانكسارها من ذلها وانكسارها أيضا. السعي للفوز بالفلاح الموعود في الدارين يدفعها إلى خدمة أمتها وإعلاء شأنها بين الأمم، والسعي الحثيث للنجاة من التقهقر والضياع الذي ابتليت به أمتنا لهو السعي الأكبر والجهاد الأعظم، يقول سبحانه في محكم التنزيل وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (آل عمران، 104).

بيعة النساء

أبدا لم تقف النساء المؤمنات بالله محايدات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بلغت المواجهة بين المسلمين والمشركين أشدها، بل اخترن الهجرة والبيعة وتحمل المخاطر مقابل الوقوف في صفوف أهل الايمان، خروجهن فعل سياسي كان، واصطفاف عسكري ودعم اقتصادي ودور اجتماعي، فهمت النساء مهمتهن في عهد النبوة فعبدن الطريق لمن يأتي بعدهن من النساء. “إلى هذه النماذج الكاملة من بني البشر تشرئب أعناق المؤمنات” [2].  يقول تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (الممتحنة، 12).

معالم العمل النسائي

تتطور الأحداث وتتغير الظروف فتجد المرأة نفسها أمام عدد لا يحصى من النوازل التي تحتاج فيها معالم مضيئة وفهما تجديديا يتوافق وزمانها دون تغيير للثابت من شرع الله ولا عصرنة للإسلام في خضوع للأهواء والرغبات البشرية، وقضية المرأة بالخصوص لها من الحساسية ما يجعل الكلام فيها شائكا، ولا منجى من التخبطات والتناقضات وابتلاءات هذا الزمن العسير إلا التمسك بكلام الله العظيم وسنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام.

رفض التسطيح والتجزيء

لا يمكن أن تختصر وتسطح قضية المرأة فيما يسمى بالنزاع الحقوقي بين الرجل والمرأة ويقزم النقاش في صراع بين طرفين هما في الأصل مجرد ضحيتين، رجل يعاني من الاستبداد والفقر والإذلال، وامرأة تحتل الدركات السفلى في الظلم والقهر والاستغلال؛ الظلم العام الذي يرزح تحته الرجل، وظلم الرجل نفسه. ولا ظلم يضاهي سلب حق معرفة الله وحق عبادته، هذا الحق الذي يعترضه شبح الفقر والجهل، كما تعوقه الفتن الضالة المضلة التي تهدف إلى تدمير الدين والقيم والأخلاق، وتنجسه بحملات مقيتة تصيب فطرة الإنسان في مقتل.

على هذا الظلم المركب يجب أن ينصب جهد التغيير، ومن الوهم أن نعتقد بأن النهوض بأحوال المرأة والانتصار لها ورفع الظلم عنها ممكن دون رفعه عن الأمة جمعاء، فقضية المرأة هي بالأساس قضية أمة، لا يمكن معالجتها بمنطق التجزيء، بل يجب وضعها في إطار شمولي، يسعى لرفع التردي العام لأحوال الأمة؛ تغيير تحتل فيه المرأة دورها المنوط بها كما كان في العهد النبوي.

رفض التقليد

“حار الفقه، فتشدد، وسد الذرائع، وأغلق الأبواب، وحجر على العقول، وغم القلوب، وأمات في الأجيال الناشئة في حضن السجينات ما أحيته أمهات الجيل الأول في الفاتحين المجاهدين..” [3]. تجاوز الفقه المنحبس أصبح ضرورة، ولا أقل من العودة إلى المعين الصافي؛ عهد النبوة الذي يعد مشكاة لمن تاه أو اختلط عليه الأمر. ففيه بلغت مكانة المرأة سموها وعلوها ونزلت فيه منزلة عظمى بجانب إخوانها الرجال. نفهم سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم القولية منها والفعلية تحت ضوء كتاب الله جل علاه. اختلاف العلماء رحمة، وآراؤهم التي ارتبطت بحيثيات تاريخية وسياسية معينة مأجورة، إنما المرفوض إحاطة اجتهاد بعض من سبقونا رضي الله عنهم وأرضاهم بهالة من القدسية وإنزاله منزلة الثابت في الدين الذي يأبى التجديد أو التغيير، أو جعل فتوى صدرت في ظرف معين فتوى أزلية صالحة لكل زمان ومكان في تغييب كلي لفقه الواقع، “والنموذج الصحابي هو القبلة لا العفة الوقائية العاطبة” [4].

طريق صعب ينتظر الطامحات للتغيير، وكم هي شاقة مهام المرأة عندما تجد نفسها بين سندان الحفاظ على التقاليد القديمة ومطرقة السلوك الغازي.

 تكامل الأدوار

نحتاج فهما لم يتأثر بالأضواء الغربية القادمة من حضارة غريبة علينا تعاني فيها المرأة الويلات وإن اكتسبت بعض الحقوق والحريات في الظاهر، فهما يحفظ للمرأة مكانتها وحقوقها تماما كما يحفظه للرجل في تكامل وتناغم واحترام لخصوصية كل واحد منهما، يجعل نصب عينه التكليف العام والأجر والجزاء الذي تتساوى فيه المرأة مع الرجل، عندما يمتثلان لأوامر الله ويجتنبان ما حرم، ينشدان التكامل الوظيفي بدءا من الأسرة؛ لبنة حصن الأمة الأسمى، وصولا إلى التكامل المنشود في ساحة قضايا أمتنا؛ حيث الحاجة لقوة الرجل وغلبة العقل في بعض المواقف، والحاجة إلى رقة المرأة وغلبة العاطفة في بعضها الآخر، تأوي هي إلى ركن شديد ويأوي هو إلى ركن أمين. “لابد إذن من المساهمة النسائية في القرار الرجالي، إذ لا يمكن أن يعوض إحساسها المرهف وحبها الأمومي الحاسمان في عملية التغيير ..” [5].

مبدأ الوصل بين وظيفتي بناء الأسرة وبناء الأمة

تساهم النساء في بناء صرح الأمة، وتقف على ثغر برجها الاستراتيجي الأول: “أسرتها”، باعتبارها أهم اللبنات في هذا الصرح، تحضر حافظية النساء بجانب قوامة الرجل للذود عن حمى الأسرة والأمة من كل الأخطار التي تهددهما، وقد تستدعي مواقف نزول الرجل إلى الساحة إذا دعا داعي الجهاد للنزال، يغيب هو بقوامته وقوته وينبعث إلى عمله وجهاده آمنا مطمئنا فتحضر حافظية المرأة وأمانتها لحفظ النسل والمال والدين والفطرة وكل ما هو معرض للضياع. “للرجل مكانه، وللمرأة مكانها لتزدوج وتنسجم في المجال السياسي القوة والأمانة كما تزدوج وتنسجم القوامة والحافظية في الحياة الزوجية” [6].  

عقبات وجب اقتحامها

لن يشخص حال المرأة ويقدر حاجياتها ويدافع عن حقوقها غير المرأة نفسها، ولن يتصدى لوصف وفهم معاناة النساء غير النساء، لن يعطي التقييم الصحيح لوضعيتهن غيرهن، على النساء التعرف على حقوقهن وواجباتهن أولا، ثم المطالبة بعد ذلك بالتمتع بها، لأن أحدا غيرهن لن يقوم مقامهن في هذا المجال. فما بين أنظمة جائرة مستبدة تعيث في الأوطان تجويعا وتجهيلا، وما بين عقلية ذكورية إقصائية (داخل المجتمع)، أو سلطة رجالية مكرسة للنظرة الدونية للمرأة (داخل الأسرة)، تجد النساء أنفسهن في مواجهات على عدة جبهات؛ جبهة سياسية تمعن في التفقير والتهميش، وجبهة اقتصادية تستغل فيها النساء المحتاجات أبشع استغلال، وجبهة ثقافية حائرة ما بين موروث العادات والتقاليد وبين النموذج الغربي المغري بحرية زائفة، هدفها النيل منها وجعلها مباحة سهلة المنال. “آلله أمر أن تُقهر المرأة وتحرم من التعليم، وتمنع من المساهمة من مواقعها الشرعية في السلم والحرب والإنتاج كما كانت تفعل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أم أن الرجل طغى على حقوقها فاتخذها بضاعة ساكنة؟” [7].

خروج المرأة لتأدية وظيفتها الاجتماعية منها والسياسية وحتى الاقتصادية يجب أن يكون خروجا في غير حاجة ولا فاقة، وإلا جنحت للقبول بأي عمل حتى ولو امتهن كرامتها ولوث جسدها وأفقدها عزتها، وبأي أجرة كيفما كانت، حتى لو مرغت بالتراب وسلمت بالسباب وغلفت بالعار. “يجب أن تحرر المرأة من العجز والتبعية الاقتصادية فيعطاها حقُّ النفقة زوجةً وأما، ويعطاها حق المَتاع مطلقةً، وأجرةٌ كريمةٌ عاملةً، وأن تُهيأ لها ظروفُ الاستقرار في بيتها، لأن عليه يتوقف استقرارُ المجتمع والدولة” [8].

كل ذلك يجلي مدى شراسة معارك المرأة في زماننا هذا، وكم هو عظيم الثغر الذي تقف عليه. تهزم أمة وتدحض حضارتها إذا لم تدرك أهمية ومكانة المرأة ودورها في نهضة الأمم وتحضرها، بما حباها الله به من خصوصية ورزقها من حلم وعلم وتألق في كل المجالات التي تتوافق وطبيعتها الأنثوية، دور في غير غلو حتى لا يكون خروجا هداما يحيل الأسرة ردما والطفولة ضياعا ويجعل المرأة سلعة ذلولا تتقاذفها الأيدي والأعين، وفي غير تهميش وتغييب خلف الجدران، جدران قد يعيث فيها الجهل خرابا أو تساء فيه معاملة المرأة حتى تصبح كما مهملا.. واقع تحت رحمة نظام قد يعدل أو يظلم ورجل قد ينفق ويكرم أو يقتر ويهين، فمن يملك السلطة والمال يملك الأمر والنهي، ولا تملك المرأة الضعيفة المجردة من عوامل القوة في غياب الوازع الديني إلا الخنوع.

يبقى، إذن، رأس الأمر كله هو الامتثال لأمر الله، في هذه القضية كما في غيرها، واستحضار مصير العبد مع ربه، فحوله تحوم كل القضايا بما فيها قضية المرأة، فكل تدافع وعمل وفعل هو من أجل تعبيد الطريق إلى الدار الآخرة وضمان الوصول الآمن لها، تصغر كل قضية لم يجعل أهلها نصب أعينهم علاقة الإنسان بربه. الله سبحانه وتعالى خلق الذكر والأنثى وجعلهما معا خليفتين في الأرض إلى أن يعودا إليه بأعمالهما وما كسبت أيديهما، لينالا الأجر والثواب من الله بما قدما وأخرا، والله من فوقهما رقيب حسيب.


[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ط 2018/4، دار لبنان اللطباعة والنشر – بيروت، ج 2، ص 270.
[2] المصدر نفسه، ج 2، ص: 255.
[3] المصدر نفسه، ج 2، ص 94.
[4] المصدر نفسه.
[5] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ط 2000/2، ص: 211.
[6] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، م. س. ص 271.
[7] عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 41.
[8] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 104.