معالم حول قضية التعليم في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين

Cover Image for معالم حول قضية التعليم في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

مقدمة

تحتل قضية التربية والتعليم مكانة أولى في اهتمامات كل الدول التي تنشد بناء مجتمع قوي في كل المجالات، وذلك إيمانا منها أن التربية والتعليم هي أساس بناء شخصية الفرد في أبعادها المختلفة، وهي المؤسسة للمبادئ والقيم التي يتأسس عليها المجتمع، فكل إهمال للتعليم وتهميش لأطره هو دليل على التخلف، لذلك فقد احتلت قضية التربية والتعليم مركز الصدارة في المشروع المنهاجي التجديدي للأستاذ عبد السلام ياسين، كما شكلت هذه القضية المدخل الهيكلي للتغيير، تغيير محوره الإنسان باعتباره الهدف والوسيلة، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “نظام التربية والتعليم هو العمود الفقري للدولة، وإعادة ترتيب هذا الجهاز ضرورة الضرورات في حياة الأمة. يجب إنشاؤه إنشاء جديدا، وصياغة قنواته، وسد منابع الفساد المحلقة فيه لإعداد أجيال العقيدة والعدل والفطرة، مسلحة بالمعارف العلمية التطبيقية” 1.

التربية والتعليم لهما دلالة خاصة، فـالتربية تقوّم وتنمي الفرد، وتربطه بالفطرة الأولى التي خلق الله النفوس عليها، والتعليم بمفهوم قرآني، يبتدئ من تغيير ما بالنفس لتعود إلى بارئها صافية مطهرة، لأن النفس الطاهرة المتحررة من عبودية ما سوى الله، تفسح المجال أمام العقل المتعلم المبدع لينطلق بنور العلم الذي يرسخ الإيمان في النفوس، ويقوى الإرادات ويعلي الهمم حتى تهفو لطلب الكمال، فالتربية والتعليم حسب المنهاج النبوي لهما هدفان أساسيان مترابطان: الأول غرس الولاء في النفوس؛ الولاء لله ولرسوله، والثاني إكساب النشء مهارات علمية وعقلية وعملية، تهيئانه للقيادة والريادة.

وهكذا فنظام التعلم يتخذ من محورية القرآن منطلقا ومرجعا، يبني العقول والأجسام، ويقوي الإرادات، ويجدد الإيمان، ويربي النفوس، كل ذلك من أجل بناء الإنسان المؤمن،  سيرا على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تخرج من مدرسته الإيمانية الجهادية رجالا صنعوا تاريخا جديدا للإنسانية، وأسسوا حضارة الإسلام؛ حضارة التوحيد والتزكية والعمران الأخوي.

فما هي معالم التجديد التي رسمها الأستاذ عبد السلام ياسين لقضية التربية والتعليم؟ ما هي المنطلقات والأهداف؟ وما هي مواصفات النظام التعليمي المرجو؟ ما هي  مخرجاته؟ وما هي العقبات المفروضة؟ وماهي التحديات المنتظرة؟

أولا- التربية والتعليم: التعريف اللغوي والمنهاجي

التربية “هي تبليغ الشيء إلى كماله” 2، وهي تنمية للمعارف والمدارك والمهارات وإعداد الفرد لمواجهة الحياة، وهي تحتاج إلى مرب هو شخص معلم مهذب. وقد جعل الإسلام غاية التربية جامعة، تهيئ الفرد للحياة الدنيا بحيث يكون نافعا، وترسخ فيه الإيمان وحب الخالق والعمل للآخرة، ويكون ذلك بمجاهدة النفس وترويضها على اتباع الحق وتجنب المعاصي والتطلع الدائم للقاء الله وهو عنك راض، فالتربية فيها عمل ومجاهدة وصبر ومصابرة، والتشبع بالقيم والفضائل وتثبيت الإيمان وتجديده يحتاج دائما إلى تعلم وتربية لتطهير القلب من أدرانه، وتصفيته من أكداره، حتى يتنور ويسلك إلى مدارج السالكين الراغبين في الوصول إلى الكمال.

لذلك فقد أولى المنهاج النبوي التربية عناية خاصة، لأن تغيير المجتمع ينطلق من تغيير ما بالأنفس، وهذا التغيير يحتاج إلى مداومة ومواظبة على التربية بداية ووسطا ودائما حتى إدراك الغاية، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين “فليست التربية هي التأديب على السلوك الاجتماعي فقط، وليست التربية تعليما فحسب، ولا عكس التعليم، وإنما التأديب على السلوك الاجتماعي جزء من التربية، والتعليم جزء منها” 3. فالأستاذ لا يحصر مفهوم التربية فيما يتعارف عليه في كتب علوم التربية، بل يجعل معناه مستقى من معاني التربية الإيمانية التي ربى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، لأن المسلمين مراتب، وبواعثهم ونياتهم تختلف، فمهمة التربية تقريب المستويات، وتنمية الطموح، وشحذ الهمم نحو طلب المعالي: “التربية تنميةُ الإيمان والطموحِ. التربية صعود إراديٌّ وتصعيدٌ مستمر. التربية اقترابٌ من الكمال وتقريب. التربية قَدْحُ زِنادٍ في القلب والعقل، إشعالُ فتيلٍ، تعبئة طاقاتٍ فرديّةٍ لتندمج في حركية اجتماعية يَعْمَل فيها العاملون بجهْدٍ مُتكامِلٍ ينفع الله به الأمة” 4.

والتعليم في المنهاج النبوي لا ينفصل عن التربية؛ “الاهتمام بالناشئة لا ينفصل عن الاهتمام الكلي بالإنسان كما لا تنفصل التربية المغيرة للنفوس عن التعليم المغير للعقلية. تلك تنشل العادات السيكولوجية من مرضها، وهذه تنشل العقل من عاداته” 5. فالتعليم المرجو مرتبط بالتربية غير منفصل، مسهم في التغيير والبناء، يسهم في تحويل الأمة من الغثائية إلى الريادة والقيادة بحكمة وعلى بصيرة، تعليم يحرر الإرادات، ويفسح المجال للطاقات والكفاءات والمواهب، تحت مظلة القرآن الكريم، “أولا: تعليم وتربية تصل العبد بربه، وتخبره الخبر اليقين عن النبإ العظيم. ثانيا: تربية وتعليم ترفع إرادة المسلم والمسلمة وأخلاقهما إلى مطامح يبذل في سبيلها الجهد والمال. ثالثا: تربية وتعليم لتنشئة أحرار يمتنع أن يهينهم طغيان طاغ، يحكمون بما أنزل الله. أمرهم شورى بينهم. لا يعبدون أحدا إلا الله” 6.

ثانيا- المنطلقات والأهداف

– المنطلق: الإيمان بالله والدعوة إلى منهاج رسول الله

إن المنطلق الأساس للفلسفة التعليمية في المنهاج النبوي لا ينفصم عن الرؤية التجديدية للأستاذ المرشد رحمه الله تعالى، فهو يمتح من أسس الإسلام ومبادئه، بحيث ينظر إلى تربية الفرد وتعليمه في أبعاده الثلاثة: الروح والعقل والجسم، وتشكل القيم الإسلامية وعلى رأسها التوحيد والتربية والعدل مدخلا أساسيا، إلى جانب حرية الاختيار، وضمان الكرامة، إلى غير ذلك من القيم الدينية الكونية الإسلامية التي تسهم كلها في بناء شخصية الفرد الذي عليه المعول في بناء مجتمع العمران الأخوي المتلاحم والمتماسك والمتطلع لغد التغيير الشامل. وبناء الشخصية يكون انطلاقا مما خطه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يلقن الصحابة والصحابيات رضوان الله عليهم أصول الإيمان والتوحيد، هذه الأصول التي تحرر الإنسان روحا وعقلا وإرادة، حتى يتطلع للمعالي في طلب الكمال الخلقي الإيماني سلوكا، والكمال العلمي خبرة ومهارة وإعمال فكر. يقول الأستاذ المرشد رحمه الله في حديثه عن المدرسة الإسلامية المرجوة: “تحتل الدعوة القلوب لتهيئ النفوس الفتية، فتلتقي الرغبة بالتوجيه التعليمي، وتتلقاه راضية مقتنعة منساقة لا مسوقة. منذ تعلَمُ النفوس الفتية ما قيمتها في الوجود، وما مصيرها، وما حاضر الأمة التي تنتمي إليها، وما فرصة المشاركة في إنهاضها” 7، هي مدرسة إسلامية منطلقها هو منطلق الرعيل الأول، تسري فيها روح الدعوة، بدءا من المعلم ثم كل من تولى مهمة التربية والتعليم، من أجل صناعة شعب واع قوي محرر من قيود الفساد والظلم والذلة لغير الله.  

– الأهداف والغايات

في المنهاج النبوي، تنقسم الأهداف إلى قسمين:

أ- قسم مرتبط بإعداد الفرد المؤمن القوي الشاهد بالقسط، المستقيم في سلوكه، المتشرب لمعاني الإيمان، والمتشبع بقيم الانتماء لأمته ولدينه الإسلام، والذي يجعل ولاءه لله رب العالمين وحده لا شريك له. فهذا القسم تربوي نفسي، تتجسد مهمة المدرسة التربوية فيما تغرسه في نفوس الناشئة مبكرا، قبل أن تسبق إلى فطرة النفوس الفتية تربيات أخرى، وولاءات أخرى قد تلوث فطرتهم وتكدر طهار قلوبهم، ففي “المجتمع الإسلامي المتجدد لا ولاء يقبل إن لم يكن الولاء لله وحده لا شريك له” 8 ولاء لله وحده يلغي الولاء للأشخاص وللمؤسسات.

ب- قسم ثان: “تعليمي تدريبي عملي من شأنه أن يفي بالمقصود منه إن كان الباعث النفسي التربوي الولائي المؤسس في مكانه من التأصل والتمكن وقوة الدفع، وإذا كانت برامجه وجدواه العلمية وملاءمته للحالة الاقتصادية ملبية لحاجات المجتمع منفتحة عليها” 9، فهم مرتبط إذن بالتحصيل العلمي والمعرفي وبالمهارات والقدرات والكفايات المطلوب اكتسابها، لتلبية حاجيات الأمة على الصعيد الفكري والعلمي والاجتماعي والاقتصادي، في الحاضر والمستقبل، من أجل بناء مجتمع قوي على جميع الأصعدة. فأهداف التعليم أن تكون له جذور في عمق الإيمان بالله وباليوم الآخر وله نفع وجدوى ومردودية للأمة: “أولا: تعليم له جدوى، له خطة، له أهداف تسيره عقلانية ضابطة. ثانيا: تعليم له مردودية اقتصادية له خبرة بإدارة المال والأعمال. وثالثا: تعليم مرن يتكيف ويتطور ويبتكر ويبحث وينفق على ابتكار وبحث” 10.

ثالثا- المواصفات

1- تعليم أصيل ومتحرر

هو تعليم أصيل لانطلاقه من قيم الإسلام ومبادئه ومن هوية الأمة الإسلامية، ونأيه عن التقليد ومحاكاة الغرب، وهو متحرر من الارتهان لإملاءات المؤسسات الدولية التي تخدم مصالحها فقط وتسعى إلى حمايتها، وهو نظام يحرص على التحرر من الربط القسري بينه وبين الاستبداد، وهو نظام متحرر من كل رَهْن يحد من قيامه بأهدافه وغاياته، ومتحرر من كل دعم مادي أو غيره يجعله محكوما ومأمورا من طرف المانحين، مطيعا لمن أعطى أو منح، وهو نظام يطمح أن يعيد قضية التعليم إلى حضن الأمة بعدما تنزع عنها المخالب الشرسة لكل متحكم مستبد. وهذا يقتضي أن يسهم فضلاء الأمة وعقلاؤها في نقاش مشترك يضع قضية التعليم على السكة الصحيحة، بحيث تخدم الاختيارات الأساسية للأمة والأهداف المسطرة انطلاقا من احتياجات المجتمع وتطلعاته، وهذا لا يكون  إلا إذا تم تجاوز المختلف  فيه، للنهوض بالتعليم وجعله أصيلا في أسسه، متحررا ماديا من كل تبعية، وهذا يقتضي إرادة اقتحامية جماعية تقوض دعائم الفساد، وتعبئ الأمة للبناء من أساس، وتسير بتدرج وحكمة وتبصر، فـ“لاريب أن تحويل التعليم من هيمنة الدولة، ومن لا مسؤولية التأميم، إلى تعليم يتكفل به ويرعاه  التطوع والمسجد والمدرسة الحرة والجامعة والمعهد، عملية لا تتم بجملة عام أو عامين، بل ولا عقد أو عقدين. وإنما هي عملية بطيئة تصحب التغيير الإسلامي العام” 11.

2- تعليم  قرآني مسجدي منفتح على العلوم

من مقومات النظام التعليمي عند الأستاذ عبد السلام ياسين، هو جعل القرآن الكريم صلب العملية التربوية التعليمية، منه المنطلق وإليه المنتهى وعليه المدار، باعتباره غذاء الروح ورواء النفوس وزادها الإيماني، للعودة بها إلى فطرتها السليمة التي فطر الله الناس عليها؛ “ثم يكون القرآن محور العملية التربوية ومورد العلم وجامع العلوم، لا سيما التسع الأولى حين يتكون النسيج الأساسي للشخصية” 12. القرآن أساس ومنطلق ومدار العملية التعليمية، بحيث يوصي الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله بتوظيف كل وسائل التعليم المتطورة، والخبرات التربوية لخدمته، خاصة وأن خريج هذا النظام التعليمي المفروض فيه أن يحمل مواصفات الشخصية القرآنية، “توضع أرقى وسائل التعليم  المادية، وتوضع الخبرة التربوية أحدث ما وصلت إليه العبقرية العلومة في حفظ القرآن” 13.

فهو تعليم قرآني باعتبار القرآن والسنة النبوية قطبا رحى التعليم، لأنهما لُباب مادة التعليم الأساسية، منهما تنطلق الرؤى والمقاربات، وإليهما تنتهي التصورات والمفاهيم، وعليهما تبنى الرؤى وتستمد  المعارف والعلوم، لذلك  فإن “إبعاد القرآن عن المدارس والمعاهد والجامعات، وتقليصَ حصصه، وعدمَ اعتبار حِفظه، وتجويده، وفهمه، في الامتحانات لمَحاربة لِواحدة من شعائر الإسلام العظمى” 14. لذلك تجعل المدارس والمعاهد والكليات مساجد تأتي إلى المتعلم، فهو تعليم قرآني مسجدي، بحيث لا يأت التلاميذ والطلبة إلى المسجد بل “يأت إليهم المسجد. في المدرسة والمعهد والكلية مسجد وقرآن” 15.

إن وصف هذا التعليم بكونه مسجديا قرآنيا لا يلغي اجتهاد العقل البشري، فالقرآن والسنة وهما مصدرا الحكمة، لقوله تعالى: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، لا يفصلانه عن الإفادة من العلوم البشرية والخبرات والمهارات الإنسانية، فهو تعليم يطرق كل أبواب العلوم، ويشجع البحث العلمي، والاجتهاد الفقهي، ويقدر الكفاءات والنوابغ ويقدر أصحاب المواهب، ويحث على امتلاك التكنولوجيا، بحيث “تؤصل في معاهد البحث العلمي تقاليد الجدية والمسؤولية والنجاعة والجدوى العلمية” 16. أما البحث العلمي العلومي “فيريد ذوات القدرة وذوي القدرة على التركيز والصبر والمصابرة والمثابرة والفضول العلمي والاطلاع على ما في العالم من دراسات تنشر، وخبراء يبرزون، وكشوفات تنسخ كشوفات” 17. وكون المنطلق كتاب الله، وكون المدرسة والمعهد مسجدا، لا ينسخ مهمة التدريب وإكساب الخبرة للمتعلمين، بحيث جعل الأستاذ عبد السلام ياسين  التدريب سمة مميزة للتعليم، يختلف باختلاف المتعلمين من حيث المستوى والكفاءة والاستعداد والحاجة، فهو تدريب متنوع ومتدرج بحسب الفئات والقدرات والإمكانات، وقد يكون التدريب متخصصا بمستوى عال، “تصنع المدرسة الأساسية شعبا واعيا من عموم الأطفال، ثم ينفرز الموهوبون أفواجا متوسطة تدرب التدريب المهني، وتوجه الطلائع الذكية لتنال أعلى ما يمكن من التخصص” 18.

رابعا- المنهاج التربوي التعليمي

نظام تعليمي تسري  فيه روح الدعوة إلى الله، في انسجام تام بين التربية بمفهومها الروحي والأخلاقي القيمي، وبين التعليم بمختلف أنواعه، وفي كل مراحله وأسلاكه، يسحب النفوس إلى أصلها الفطري، يغذيها، ويفتح منادح الفكر للتدبر في عظمة الكون لمعرفة عظمة الخالق، ويسلح العقول بالعلوم التي تخرج الفرد والمجتمع من هامش التخلف والجهل والتبعية، لتوصله إلى أفق الريادة العلمية العلومية، لذلك يطرح الأستاذ عبد السلام ياسين سؤالا حول المنهاج التعليمي الذي  يمكنه الجمع بين خدمة دعوة الله وبين اكتساب العلوم: “كيف ينسجم كل ذلك في مدرسة إسلامية جامعة؟ كيف تكسب علوم هدفها خدمة الدين وقوام نشأتها وحياتها الذكاء والخلق والسلطة المعنوية من أعلى؟ والمكافأة العادلة من تحت؟ ما المنهاج التربوي والهيكلة الإدارية والعلاقة بهذا الجانب وذاك؟” 19، إن وصف النظام التعليمي المرجو بصفة القرآن والمسجد والدعوة إلى الله يجعل الضرورة ملحة لربط المنهاج المقترح بهذه الأصول الثلاثة: القرآن و المسجد والدعوة إلى الله، وهذا يعني جعل القرآن الكريم مركز المنهاج التعليمي حفظا وتعليما وتدبرا وتلاوة ومصدرا للعلم والتربية، ومعه السنة النبوية أيضا، وإن كان الغافلون لا يتصورون أن يكون نظام تعليمي برنامجه القرآن، في نظر الأستاذ عبد السلام ياسين: “يصعب على الغافلين عن ربهم أن يتصوروا نظاما تربويا تعليميا برنامجه القرآن، ومضمونه القرآن، ومنهاجه السنة وعمل النبوة” 20. في حين أن اعتماد القرآن والسنة منهاجا، هو إعادة الحياة للنظام التعليمي الذي أفرغ من روحه، وتجرد من إنسانيته، خاصة بعدما تأثر بالغرب المادي الأناني المتمركز حول أنا الإنسان المتأله، هو ربط لما انقطع، ووصل لما انفرط، ربط للعلوم الأرضية بالمعارف الدينية السماوية، وصل للدنيا بالأخرى، من أجل تحرير الإنسان من ربقة الجهل والتخلف والأميات، بعدما ينسجم  العقل والنقل من أجل بناء إرادة المؤمن القوي المقتحم لعقبات النفس والهوى والشيطان، المتطلع لبناء أمته المتآخية  القوية علما وجهادا.

خامسا- مواصفات الشخصية المطلوب تخرجها

الشخصية المطلوب تخرجها هي شخصية قرآنية، هي شخصية المؤمن المتربي على خصال الإيمان، فـ“واضع المناهج الدراسية، ومهندس المدرسة وبانيها، والأمهات الحواضر، والمعلمة المربية، يضعون نصب أعينهم مواصفات الشخصية القرآنية المطلوب تخريجها. هذه الشخصية تنجمع فيها العلوم حول نواة العلم، أي يوجه القرآن الإنسان” 21، هي صفات منبثقة من المدرسة المحمدية التي خرجت المؤمنين والمؤمنات، والمحسنين والمحسنات، والقائدين والقائدات، والقائمين لله والقائمات، المجاهدين والمجاهدات، هي صفات  بَنَتْ حضارة الإسلام التي كانت مشكاة أضاء نورها الكون. من هذه الصفات:

– أنها شخصية مؤمنة بالله وباليوم الآخر، متطلعة للفوز بدرجات القرب في طريق السلوك إلى الله، ولاؤها لله وغايتها رضاه.

– شخصية متشبعة بخصال الإيمان وشعبه، صادقة ومقتحمة، لها إرادة قوية وهمة عالية، تجعلها تقدر المسؤولية.

– شخصية متعلمة عالمة، تجمع بين علم الدنيا والآخرة، ولها قدرة على البحث والابتكار والاجتهاد.

– شخصية تقتدي بالصالحين، وتسير على خطى الأولين في التربية والجهاد ونصرة المستضعفين.

– شخصية بأخلاق عالية، تجعلها منسجمة في الأسرة والحي والمدرسة والمجتمع، معطاءة مستعدة للبذل والإنتاج، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، مقتحمة للعقبات، فيها عزة على الكافرين وذلة على المؤمنين.

– شخصية لها مشروع ورسالة، لها هدف وغاية، تسهم في بناء مجتمع العمران الأخوي، وتجتهد في تزكية النفس، وتزويدها بالعلوم والمعارف.

– شخصية جهادية جامعة بين الخوف من الله، وبين الترفع عن صفات الجاهلية؛ غضبا أو جاهلية أو عصبية، فهي مبشرة لا منفرة، معتدلة لا متشددة، ميسرة غير معسرة.

هذه  بعض من الصفات التي يجب توفرها في المتخرج، من أجل إعادة بناء المجتمع، وإخراجه من تخلفه، وإكسابه القوة التي تؤهله للتدافع والمنافسة، في عالم لا يعترف إلا بالتفوق قوة وعلما وعدة.

سادسا-  اللغة العربية لغة التدريس

اللغة واصلة؛ تصل التربوي  بالتعليمي  أو  تفصله،  وهي  الناقلة  للمضامين،  وهي  وسيلة  التواصل  والخطاب،  لذلك  فالأستاذ  عبد  السلام ياسين يرى أن  اللغة  العربية  هي  لغة  التدريس،  فهي  المرشحة لهذا  التعليم  القرآني  المسجدي  العلمي،  وعليها  المعول  في  نقل  المعارف  والعلوم  لا اللغات الأجنبية، لأنها  لغة  الوحي  والصلاة  والتلاوة، إنها  لغة  القرآن، لكن الأمة  الآن  في  حالة  ضعف  وتخلف، واللغة العربية – وهي لغة الشريعة – بحاجة  إلى  من  يخدمها من  أهلها  حتى  تفصح  عن  المعارف  الكونية،  فالحاجة  ماسة إلى  “تحديث  اللغة  العربية  وترويضها  لتحمل  أسرار العلوم  الكونية،  وخبرات التجارب البشرية، ولتصبح  اللغة العالمية المنافسة، في كل  الميادين” 22، ولأنها لغة التعلم وواسطة تبليغ الرسالة  التربوية الباعثة للمضمون  التعليمي  التعلمي، فهي  أداة تواصل  وحمالة قيم وخزان  الهوية،  وناقلة،  لذلك  فهي  الضامن  لتثبيت  هوية  المدرسة المغربية،  فـمتى  كانت  اللغات الأجنبية  هي  المسيطرة،  فهذا  يعني الاستمرار  في  التبعية الاستعمارية،  وتعكس قصورنا في  خدمة لغة  القرآن  التي  من  المفروض  أن تحمل  مضامين  التعليم  والتربية.  “إن كان  للغة  التربية  مكان منعزل  في  برنامج  المدرسة  عن  المكان  المخصص للبرامج  العامة،  وكانت هذه  تدرس  بلغة  عجمية  صرفة  أو عجمية معربة  مترجمة،  وكانت  تلك  تحتوي  على  آليات  ونتف،  فهو  انفصام  الشخصية، هي السيكيزوفرينيا  الثقافية،  وهو  تشتت الولاء،  وهو  إنتاج  أنصاف المتعلمين  العالة  على أنفسهم  وعلى  المجتمع” 23.  فالأستاذ  عبد السلام  ياسين،  وهو  الخبير التربوي،  يدرك  تمام  الإدراك  نوع  التعليم  الذي  يفرزه  نظام  بلغة أجنبية هجينة، إنه  تعليم  هجين،  ينتج  أنصاف  المتعلمين  بولاءات  متعددة،  بشخصيات  ضعيفة تابعة  وبهويات  متعددة،  لذلك  يلح على  النهوض  بخدمة  اللغة  العربية  خدمةً  للتعليم،  وهو يدرك  أن  تعميم  التدريس  بها  والوصول إلى  خدمتها  دونه  عقبات  تقتحم  وإرادات  تبنى  صرح  تعليم  تحطم،  لكن  الضرورة  تفرض  امتلاك  اللغات  الأجنبية بصفتها  حاملة  العلوم  والتكنولوجيا الآن مع  تحصين المتعلم  بعلاج  تربوي شامل،  يصلب عوده  على  الاستقامة،  ويحول  بينه   وبين التأثر عمّا تحمله  اللغات  الأخرى  من  عقائد  وقيم،  إلى حين  أن  تتربع  اللغة  العربية على  عرش المناهج  التعليمية،  حينها  فقط  تصبح  اللغات  الأجنبية علوم  كفاية. 

وهكذا  فإن الأفق  والمطمح اتخاذ  اللغة  العربية  لغة  تدريس،  لكن  الواقع  يطوق  المدرسة  بخليط  من اللغات  الأجنبية،  فلا غنى للمتعلم عن  إتقان  لغة  أو لغات  أجنبية من أجل  المنافسة  العلومية  إلى حين  تحرير المدرسة  المرتبط  بتحرير الأمة.

سابعا- المعلم  واسطة عقد المنظومة التعليمية

ربط  التعليم  بالتربية،  والطموح  إلى  تخريج  أفواج   بمواصفات  جامعة  بخصال  الإيمان  والعلم،  يجعل  النظام  التعليمي  بحاجة  إلى  معلم  مرب  قائد، لذلك  يعتبر الأستاذ  عبد السلام  ياسين  “المعلم  واسطة  عقد  المنظومة  التعليمية  التربوية” 24، لأنه  المحتضن  والمشجع والمحفز  والمكتشف  للمواهب  والمتابع  لذلك كله، فمن الواجب  أن يحتل  المكانة  الاجتماعية  التي  يستحقها،  “سيما  وهو  العضو البارز  في  الجماعة، حاضرة  وبادية،  وهو  مرجع الناس  في  شؤونهم،  وهو معلم  الأجيال  ومرشد  الشعب  كله،  يحل المشاكل  ويصلح  بين  الخصوم، ويعطي  من نفسه  ووقته بلا حساب،  فليس  المعلم  إنسانا  فقط،  بل هو  قبل كل شيء ضمير حي” 25.

وحتى يقوم  المعلم  بالمهمة  المنوطة  به على أكمل  وجه،  ويكون  روحا  حية  تسري  في  الجسم  التعليمي  التربوي  بالخير  والنفع،  يزرع  بذور  الخير  والحق  والكمال  التي  ستنتج  مجتمعا  قويا  متماسكا  متآخيا  ومتعلما،  لذلك لابد أن  تتوفر  فيه  بعض  الخصال،  ومن أهمها:

– التمكن  من المادة  وطرائق  التدريس  ووسائله  وتقنياته.

– الرحمة  الإنسانية،  والعطف على الأطفال.  رحمة  فيها  حكمة،  بحيث تجلب  حب  التلميذ  ولا تحُول  دون قيامه  بالواجب.

– الصبر والتحمل  والمعرفة  الواسعة  المتينة  وتجنب  الغضب  والقساوة.

– الرزانة  والثبات  في  غير  تسامح  في  الحق  أو تخاذل.

– العدل  بين التلاميذ،  والمساواة  بينهم  حتى في  العاطفة، وعدم  التحيز، فلا  يعسف  ولا يظلم  ولا يخص بالإحسان  بعضهم  دون بعض. فقانونه  يسري  على  الجميع.

– نفاذ الرأي  في  نفسية  الأطفال  حتى يعرف ما يحبون وما يكرهون.

– القدرة على خلق  جو نفساني  وعاطفي  يشجع  على تفاعل  الجميع: الخجول  والكسول  والعصبي.

– الجمع بين  الجد  والدعابة،  وذلك من  خلال  الاستعانة  بما  يمتلك  من خبرات  ومهارات  وطرائق  وتقنيات  للتنشيط.

اتصاف  المعلم  بأغلب  هذه  الصفات  هو  الكفيل  بأن يحقق  له  السلطة  للقيادة  داخل  القسم،  سلطة  ناتجة  عن تمكن  واحترام  وحب  متبادل  وصرامة  وجدية  وعطف  وحنان،  كل  ذلك  من أجل أداء  مهماته  المتعلقة  بالتدريس  والتربية  وتبليغ  الرسالة،  فهو  الرابط  الأمين، والوصال  الرحيم  بين  المضامين  وعقول  وقلوب  المتعلمين،  فمن   الفصل الذي  يرعى  فيه  المشاتل ويتقاسم  المهمات  مع الأسر، يخرج  الزرع  قويا  متآزرا  شديدا  يعجب  الزراع ويغيظ  الأعداء.

ولم  يغفل الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى  في  طرحه  لقضية التعليم وحديثه عن دور  المعلم  الطلائعي، دور  المربية  المعلمة، فالمرأة  لها مكانتها  في  المدرسة  متعلمه ومعلمة، “وعلى  المؤمنات  اللاتي  حباهن الله بالذهن الوقاد والصبر على  التعلم  وعلى  متابعة  التعلم  من المهد  إلى  اللحد  أن  يتخصصن  في  أداء  الفرض  الكفائي  في  التعليم العام بما  لا  يتناقض  مع  فرضهن العيني  في  تربية  بناتهن وأبنائهن في  البنت” 26.  وهو يرى  أن خصال المعلمة  ومؤهلاتها  الفطرية  تجعلها  صلة  وصل  سلسة بين  المدرسة  والأسرة  في  المتابعة  والتربية  وحل المشاكل ، “روح  الدعوة  تسري  في  المدرسة من  نفحات  الأمهات  المعلمات  المربيات  لتنسحب  منها روح  السيطرة  الإدارية” 27، سلاسة  تضفي  على  المدرسة روحا  طيبة  ومتعاونة،  بحيث  تخفف  من المساطر  الإدارية، لتصبح  المدرسة  أسرة ثابتة  للمتعلم،  كما هي  محضن  للتربية  والدعوة، ومشتل للرعاية  والتأهيل،  وفضاء  للتعليم  والتدريب  والتحفيز  على  التعلم  والمعرفة والمبادرة  المبدعة،  بعدما  ينسجم  فيها  التعليم  والتعلم  بالتربية  والمتابعة  اللطيفة،  وهذا  يعني  أن تكون  المعلمة  ويكون المعلم  حاملا  لمشعل  رسالة  تربوية  سامية  تقربهما من مهمة  الرسل.

خاتمة

إن النظام  التربوي  التعليمي  الذي  يقترحه الأستاذ  عبد السلام  ياسين طموح،  وهو  لا ينفصل  عن مشروعه  التجديدي  المنهاجي،  لأن حل  معضلة  التعليم  لا تنفصل  عن حل  القضايا الاجتماعية  والاقتصادية والسياسية،  فالارتباط  وثيق  بينهما، فلا  مناص  من تخليص قضية  التعليم  من مخالب  الاستبداد التي  ما عادت  تخفى  جرائمه في  كل  المجالات،  ولكنها  في التعليم  أدهى  وأمر.  فإفساد التعليم  والعبث  بتربية  الناشئة هو  مقامرة  بمستقبل  أمة  ولعب  بمصير  مجتمع،  وهذه  النتائج  الكارثية أصبحنا نراها رأي العين،  ونعيش مخلفات  نتائجها  القاصمة  للظهر البشري  للأمة،  لذلك  فالخروج  بالتعليم  من  المأزق  القائم،  يحتاج  إسهام  كل  الغيورين والفضلاء  في  نقاش مجتمعي  يعيد  القضية التعليمية  إلى  أولوية  الاهتمام،  حتى  نخرج  المغرب  من تخلفه  المخزي،  وخاصة  مراتبه  المتدنية  في  مؤشرات  النجاعة  في  التعليم والتربية. 

هو مشروع طموح  يحتاج إلى  إرادة  سياسية  حقيقية،  وتكتل مجتمعي  يعيد  قضية التعليم  إلى واجهة  الاهتمام  ويحررها  من عبث  الفساد  والاستبداد.


[1] عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، ط 2018/3، ص 521.
[2] المعجم الفلسفي: جميل صليبيا، ج 52، ص 266.
[3] عبد السلام ياسين، مذكرات في التربية، ط 1963/1، دار السُّلمي للتأليف والترجمة والنشر والطباعة والتوزيع – الدار البيضاء، ص 9.
[4] عبد السلام ياسين، حوار الماضي والمستقبل، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 84.
[5] عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، ط 1973/1، مطبعة النجاح – الدار البيضاء، ص 738.
[6] عبد السلام ياسين، حوار مع صديق أمازيغي، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر، ص 117.
[7] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 2، ص 256.
[8] عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 154.
[9] حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، م.س. ص 154.
[10] حوار مع صديق أمازيغي، م. س. ص 117.
[11] حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، م. س. ص 151.
[12] تنوير المؤمنات، م. س. ج 2، ص 260.
[13] تنوير المؤمنات، م. س. ج 2، ص 260.
[14] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 148.
[15] تنوير المؤمنات، م. س. ج 2، ص 259.
[16] حوار مع الفضلاء الديمقراطين، م. س. ص 138.
[17] تنوير المؤمنات، م. س. ج 2، ص 227.
[18] تنوير المؤمنات، م. س. ج 2، ص 227.
[19] تنوير المؤمنات، م. س. ج 2، ص 227.
[20] إمامة الأمة، م. س. ص 142.
[21] تنوير المؤمنات، م. س. ج 2، ص 232.
[22] حوار مع  صديق أمازيغي، م. س. ص 203.
[23] حوار  مع  الفضلاء  الديمقراطيين، م. س. ص 15.
[24] حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، م. س. ص 169.
[25] كيف  أكتب إنشاء بيداغوجيا، م. س.  ص  172.
[26] تنوير  المؤمنات، م. س. ج 2، ص 64.
[27] تنوير المؤمنات، م. س. ج 2، ص 226.