مصر بين القضاء الشامخ والقضاء السفاح

Cover Image for مصر بين القضاء الشامخ والقضاء السفاح
نشر بتاريخ

هي إحدى السوابق الفريدة في جنون سفك الدماء، غير أنها تأتي هذه المرة ممن يُتوسم فيهم الرشد والنبل والإنصاف والمروءة: القضاة. فقد أصدر القضاء المصري يوم الإثنين 24/03/2014، حكمه بإعدام 529 متهما من الثوار المعارضين لاغتصاب السلطة بالانقلاب الدموي، في محاكمة بلغت ذروة السفالة والحقارة والاستهتار بقيم القانون، إذ لم تدم سوى ثلاثة أيام، ضاربة عرض الحائط بكل القوانين والضمانات التي شُرِّعت لحماية المتهم، دائسة بالأقدام على قانون الإجراءات الجنائية المصري، وقانون العقوبات المصري، بل ومُلغية من حسابها حتى ذلك الذي سموه أخيرا بدستور الخمسين، دستور العسكر، ناهيك عن سابق الدساتير الموءودة.

لقد هوى ذلك الصرح الذي بناه فطاحل القضاة المصريين خلال عقود القرن الماضي، وبداية القرن الراهن، قبل أن تنفرط آخر العرى لذلك القضاء الشامخ، بتدنيس محرابه من قبل أشباه قضاة ساقطي الضمير، وتمريغ تراثه القيم في وحل الخنوع والتزلف والتمسح على أعتاب وأحذية المفسدين من أولي السلطان، أو بالأحرى المفسدين من غَصَبَة السلطان والحكم.

وبسقوط القضاء، تحولت مصر إلى جسد بلا رأس، وبلا روح، جثة هامدة، تتحلل وتتعفن، وتتكالب عليها الديدان والحشرات والهوام، بل ما هو أحط من ذلك وأقذر، تفترسها وتقطع أوصالها.

إن مصر العروبة والإسلام، والملاحم التاريخية المجيدة، أصبحت شعبا بلا دولة، وما كان بالأمس دولة، هو الآن اتحاد عصابات ومافيات للنهب والغصب والقتل، والأعمال القذرة، الممهورة بالخيانة والعمالة للأجنبي، ذلك الأجنبي القابع خلف أسوار البنتاغون الأمريكي، والذي يمسك خيوط المؤامرة كلها بين يديه، ويجمع وينسق بين أتباعه وأقنانه من عصابة العسكر وعصابة الإعلام وعصابة المال وعصابة القضاء وأشباه المثقفين، كلٌّ موصولٌ إلى الزر الذي يناسبه، والذي يحرك لديه الرقصة الذليلة المطلوبة منه، لأن مصر في خريطة البنتاغون هي عمق استراتيجي خطير بالنسبة لأمريكا والغرب، وانفلات مصر من قبضة التحكم والضبط والهيمنة، كما كان يطمح إليه الرئيس الشرعي للبلاد الدكتور محمد مرسي، هو بمثابة انقلاب تاريخي، قد يقلب الموازين بين العالم الإسلامي المنوَّم، وبين الغرب وقيادته الأمريكية، ويضع مستقبل صنيعته إسرائيل في كف عفريت.

غير أن المهزلة الأخيرة والتي جلبت على عصابة القضاء سخرية العالم كله، بل واستهجان حتى من ينوء تحت أطنان البلاهة والبلادة من بني البشر، أرعبت السادة الكبار الماسكين بالخيوط، من الجنرالات والاستراتيجيين المركزيين الأمريكيين، لأن الغباء الطاغي، والعماء الطامي على بصيرة هؤلاء العملاء، تجاوز الحدود المعقولة، في فهم الرسائل والتوجيهات أو الإيحاءات، إن لم تكن التعليمات والأوامر، مما يهدد بإرباك كل الحسابات وإعادة الخطة إلى نقطة الصفر، نقطة عودة الشعب المصري إلى انتباهته من سكرته، وإمساكه بزمام المبادرة واستعادة النفس الثوري، واسترجاع الشرعية المغدور بها.

فالحكم بالإعدام على 529 شخصا، منهم من ليس في عالم الأحياء، وبدون كلمة واحدة من كلمات الدفاع، حركت لدى الاستراتيجيين المدبرين الحقيقيين، من وراء البحار، للمصير الكارثي لمصر العتيدة، حالات التأهب القصوى، لما قد تؤول إليه الأحداث.

فحتى ولو كان الأمر إخراجا مسرحيا من قبل هذا القضاء المعتوه، تنفيذا لأمر العسكر، ترتسم من خلاله معالم سيناريو قادم، مفاده، إحداث صدمة قوية مرهبة للرأي العام المصري، تصرفه عن الانشغال والاهتمام بالطريقة السمجة التي بات يتسلل بها السيسي، كبير المنفذين للمؤامرة، نحو كرسي الرئاسة، بما أقدم عليه أخيرا من استقالة صورية تضليلية من منصبه في الجيش، حتى هذا الخداع القضائي، والذي تحول من خلاله القضاة إلى كراكيز ودمى وبهلوانات، قد يفاقم الأمور إلى ما يعاكس التوقعات، لأن تداعيات مذبحة القيم، قد تكون كارثية ووخيمة على عبيد هذه المؤامرة الخارجية على شعب مصر، والحقل المصري الذي يتراقص فوقه هؤلاء العبيد العملاء، شائك وملغوم وغير آمن من المفاجآت التي يختزنها ذكاء الشعب المصري، وصموده وبأسه الخبيء.

ولعل إحدى المفاجآت، تلك التي قد تقدُمُ من صفوف سدنة القضاء الشامخ، إذا ما هبوا في صحوة تقطع الطريق على اللصوص والسفاحين الذين يعيثون فوق منصة القضاء فسادا وخرابا.

وقد فعلها هؤلاء القضاة الأبطال الأشاوس مرات عديدة في تاريخ مصر بما أصدروه من قرارات حموا بها الديار والذِّمار، وصانوا بها البلاد والعباد، وفي أحرج وأحلك الفترات، كتلك التي فقدت فيها جمهورية مصر رئيسها الثاني: السادات، بالاغتيال الدموي في حادث المنصة الشهير، وكانت الأوضاع المشتعلة تحتاج إلى عقل رشيد أريب، فكان هو عقل القضاء المصري الذي جمع شتات الأمة، حينما أصدر حكمه بالبراءة لفائدة 190 متهما من تنظيم الجهاد المسؤول عن واقعة الاغتيال، وعلى رأسهم شيخهم الذي نسبت إليه فتوى الاغتيال: الشيخ عمر عبد الرحمان.

كان ذلك في القرار الصادر عن محكمة أمن الدولة العليا (طوارىء) في الملف الجنائي في (قضية تنظيم الجهاد) 462/81 بمصر بتاريخ 30/09/1984، والذي أعلن فيه القضاء بكل جسارة أنه: “كانت الأحداث على درجة من الخطورة، وكان يمكن أن تؤدي إلى انهيار المجتمع بأكمله، وحقيقة، أنه في العصور الوسطى كان التعذيب أمرا طبيعيا حتى أنه كان يسمى بالاستجواب القضائي، وكان الدافع عليه هو الحصول على الاعتراف في ظل نظام الأدلة القانونية الذي كان يشترط الحصول على الاعتراف كدليل للحكم ببعض العقوبات.

إنما في العصر الحديث تخلص الاستجواب من فكرة التعذيب، بعد أن سادت حقوق الإنسان، وصدرت إعلانات هذه الحقوق التي حذرت من تعذيب المتهم، وأكدت هذا المعنى الاتفاقات الدولية للحقوق المدنية والسياسية، ونصت عليه الكثير من الدساتير، ولأن الهدف من الإجراءات الجنائية ليس هو كشف الحقيقة بعيدا عن احترام حرية المتهم، ومن ثم يجب معاملته بهذه الصفة في جميع الإجراءات، مما يتعين معه احترام حريته وتأكيد ضماناته، فلا قيمة للحقيقة التي يتم الوصول إليها على مذبح الحرية، لأن الشرعية التي يقوم عليها نظام الدولة تتطلب حماية الحرية في مواجهة السلطة، والقانون الذي تخضع له الدولة يكفل احترام الحريات بقدر ما يعمل على معاقبة المجرمين، وإذن فتغليب جانب السلطة والعقاب على جانب الحريات والضمانات ليس إلا افتئاتا على الشرعية، وخروجا على أهداف القانون، ومن أجل ذلك، يتعين أن يكون الاستجواب نزيها، ولا يسع المحكمة إزاء ذلك إلا:

أولا: استبعاد الدليل المستمد من أقوال من ثبت الاعتداء عليه من المتهمين بمحاضر الضابطة والمتضمنة إقرارات منهم بارتكابهم الأفعال المنسوبة إليهم، لأن هذه الإقرارات وليدة إكراه مادي ومعنوي، وليست وليدة إرادة حرة.

ثانيا: التوصية بسرعة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحديد المسؤولين عن هذا الاعتداء على جميع المستويات حرصا على الشرعية التي يبغيها أي نظام يقوم على احترام القانون.

كان هذا القرار تاريخيا، ارتفع به القضاء المصري شامخا ماجدا يعلو فوق كل السلطات، إلا سلطة الحق والضمير، وأعتق به رقاب عشرات من المواطنين الذين كانت تُهيَّأ لهم المشانق والمقاصل، وأفسد على الحكام الجدد آنذاك خطتهم بتوطيد عهدهم الجديد بالرعب والإرهاب.

تالله أين ذاك الثرى من هذه الثريا، وأيم الله، لا تستوي هاته النفحات القضائية مع تلك السقطات واللوثات لأشباه القضاة من عبيد العسكر ولاعقي البيادة.