مدونة الأسرة: تعديلات أم إملاءات؟

Cover Image for مدونة الأسرة: تعديلات أم إملاءات؟
نشر بتاريخ

تمهيد

يعرف الشّارع المغربي على مدار أشهر نقاشا وطنيا غنيّا بوجهات نظر مختلفة حول التعديلات المرتقبة لمدوّنة الأسرة 1، نقاش حظي باهتمام بالغ من جميع مكوّنات الشّعب، أطيافا سياسية ودردشات مجتمعية وخطابات رسمية، ولا يخفى على عاقل لماذا يحظى هذا الملف بهذا الكم الهائل من التّفاعل، باعتباره نقطة تمس بكينونة المجتمع وهوّيته.

1- لماذا تجدّد نقاش تعديل المدوّنة؟

لعل أبرز ما يتم التّأكيد عليه في هذه المطالب الداعية الى ضرورة إجراء تعديلات على مدونة الأسرة، بعد مضي عقدين من صدور المدونة، هو مطلب الملاءمة الدّاعي إلى ملاءمة القوانين والتّشريعات المغربية مع مقتضيات الاتفاقيات الدولية ومع الوثيقة الدستورية، والذي يؤكّد على وجوب التّنصيص على مبدأ المساواة، والسّعي لتحقيق المناصفة كمطلب ملح وعاجل،  هذا التأكيد والاستعجال يطرح أكثر من علامة استفهام، اذا استحضرنا باقي القضايا الأخرى التي لا تحظى بهذا الاهتمام الدولي وهذا التّأكيد، فماذا عن ملف حقوق الإنسان مثلا، ووجوب انضباط المغرب للمعايير الدولية الخاصة بهذا الجانب؟ ماذا عن معايير الحكم الديمقراطي؟ ماذا عن المعايير الخاصة بالأمن الصّحي والأمن الغذائي؟

إن التفاعل مع القوانين الدولية باعتبار بلادنا جزءا لا يتجزأ من هذا المنتظم الدولي، يدفع الى القول بإنّه لا يمكن لنا إلا أن نتّفق مع هذه المواثيق، بخاصة فيما يتعلّق بالمشترك الإنساني بين الناس أساسا، ولكن هذا لا يمنع من ابداء وجهات نظر خاضعة للمرجعية الإسلامية وأيضا ممتثلة للخصوصية الثقافية ومحترمة للهوية الحضارية، ولم لا فرض شروط تتناسب مع كل ما سبق، يمكن إجمالها في ثلاثة شروط أساسية: ألاّ تخالف نصّا قطعيا من شرع الله سبحانه وتعالى إذا استحضرنا عقيدتنا الإسلامية أولا، وألا تخالف الفطرة الإنسانية السوية الخالية من أي مسخ أو شذوذ ثانيا، ثم احترام خصوصية الأمم الحضارية والثقافية ثالثا.

إن ما يأتي من الأنظمة الغربية الغريبة علينا لا يمكن أن يبشّر بخير، خصوصا بعد هذا الرسوب المدوّي لهذا المنتظم الدّولي الرّسمي في امتحان الإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزّة، الذين يمارس عليهم كل أشكال التّقتيل والتّرهيب والتشريد، ومن قصف وتجويع ومنع الأغذية والأدوية، هذا الحدث العظيم الذي لازالت أحداثه الدامية المفجعة جارية أمام مرأى من الجميع، في تواطؤ مفضوح ومخز من هذا المنتظم الخاسر ميزانه، إذ لا يمكن فصل السّياق العالمي عن ملفات حسّاسة كملف التعديلات المرتقبة لمدوّنة الاسرة، ولا يفصله إلا جاهل بهذه المخططات الهدامة أو عالم بها مخطّط للإفساد في الأرض لا الإصلاح.

أما بخصوص التّعديلات التي قد تكون ضرورية استجابة للتّحولات المرتبطة أساسا بالتّحولات الاجتماعية والقيمية التي يعرفها المجتمع المغربي، والتي تمس المكانة الاعتبارية للمرأة داخل بنية الأسرة، فيجب ألاّ تتولاها جهات غير موضوعية، قد تسعى لتفكيك كيان الأسرة وتأجيج خلافاتها وتعميق فجواتها بطرح حلول تأكدت عدم صوابيتها في المجتمعات الأخرى. بينما الحاجة لمن يرشدها ويعبر بها إلى برّ الأمان هو وحده المؤهّل لهذا الأمر. ذلك بأن سوء تدبير أو تقدير لشؤون المجتمع المعاشية، قد يمكن إصلاحه متى توفّرت الإرادة السياسية لذلك، ولكن المساس بهويته وخصوصيته الدينية سيجر الويلات على هذا الجيل وعلى الأجيال التي تليه، ولن يكون سهلا تصحيح المسار إلا بعد عقود ليس يعلم عدد سنواتها. ثم إن إن المجتمع مدعو اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، إلى قراءة الواقع قراءة واعية متيقظة بما يحاك ضده، خاصة فيما يتعلق بهدم رمزية الأسرة. فالأسرة المسلمة ككل أسر العالم مستهدفة في قيمها ومبادئها، تتعرّض لحملة وهجمة هدّامة، وأيضا تغيّرات وتعثّرات وتأثّرات، يساعد في هذه التّحولات هذا الانفتاح المتسارع الهائل بين الشّعوب والثّقافات في العالم، وعلى المجتمع المغربي المسلم الّتنبه لهذا الطريق الذي يرسم له من أجل هدم نواة بقيت صامدة في وجه آلة المسخ التي تسعى الى الإفساد في الأرض.

هذا والتّأكيد على التّعديلات القانونية وحدها على أهميتها، ليست حلا سحريا يحمي الاسرة من التّهديدات التي تحيط باستقرارها، لذلك يجب التّأكيد على مسؤولية الدّولة في ضمان البنية العدلية اللاّزمة لتحقيق أي إصلاح ناجح، حتى إذا عولجت الإشكالات والاختلالات 2 التي شابت تنزيل المدونة سواء ما تعلق بالمساطر القانونية او الموارد البشرية أو الاجتهاد القضائي، أعطت أكلها وبنيت على أرض صلبة.

وكآخر نقطة في هذه الفقرة، يمكن القول أن ما يثير كلّ متناول لموضوع مدوّنة الأسرة، هو عدم نضج السياق السياسي العام الوطني، وغياب الشّروط الموضوعية لهذا النقاش، بينما إصلاح مدوّنة الأسرة باعتباره ملفا شائكا، يحتاج إلى أن يطرح على أرضية إسلامية بنقاش مجتمعي موضوعي ورزين وهادئ، يستحضر كل السياقات ويراعي مصالح جميع أفراد الأسرة ككل، مع مراعاة المصلحة الفضلى للطفل أولا وأخيرا، بعيدا عن كل ضغوطات أجنبية وإملاءات خارجية، والتي تستهدف تفكيك روابطنا الأسرية.

مفاهيم ومصطلحات، أي دلالات؟

مفهوم الحداثة:

لا اعتراض للمجتمعات الإسلامية على الانفتاح، وأيضا الانتفاع بكل حكمة بشرية بغيتها تيسير سبل الحياة وتحسين وتجويد أسس التعايش والاهتمام بكل تطور وتقدّم يفيد الإنسانية، هذا ابتداء، ثم إنه لا بدّ من شرح مصطلح الحداثة أولا، وتحديد ضوابط ومعايير لضبط قيمة هذا الحديث وهذا القديم ثانيا، وهل الأمر حقا ينظر إليه من المنظور الزمني، لنعود ونقول لا بد من تعريف هذا المفهوم المتعدد الدلالات، ثم إنه لا يمكن التسليم بجعل التّصادم مع الدّين وتجاوزه شرطا لتحقيق الحداثة إلى أن يصل الاستهزاء بمن يحدّثها عن الله واليوم الآخر، فهذا هو المرفوض. إذ من غير المعقول أن يدفع الإسلام ثمن إجرام الكنيسة وكوارث الملكيات المطلقة التي شهدها التاريخ الغربي، ثم نحن إن أمعنا النظر في المسيرة الحضارية والأخلاقية للغرب إلى أين وصلت، سنجد أنهم دخلوا في متاهة سؤال الهوية، إلى صراعات الهوية ما بين الرجل والمرأة، ثم صراع الهوية داخل الرجل نفسه والمرأة نفسها، ثم التمركز حول الجسد، ثم هذا الانسحاق الحضاري الذي يمسي فيه الأب أبا ويصبح أمّا، وتمسي الأمّ أمّا وتصبح أبا، فهل هذا هو نموذج الأسرة الحداثية التي يطالبون منا الوصول الى أعتابها؟

المدخل الديني في هذا النطاق واسع، ومركزيته في هذه الانتقادات التي يتبناها المنتظم الدولي لا يتجاهلها فاهم، كأن الدين اول أعداء الحداثة واخرهم، لذلك وجب التّأكيد على مركزية مسؤولية العلماء والفقهاء في هذا الموقف العظيم ضرورة لا اختيار، فمن له غير السّادة العلماء حصنا للدّين الواقفين سدّا منيعا في وجه السّيل الجارف من مكر الماكرين، فهم أولى الناس بنفض الغبار عما قد يكون ترسب على احكام هذا الدين، وهم أولى الناس أيضا بالتصدي للتاويلات الخاضعة لزيغ القلوب والمحتكمة للأهواء.

مفهوم المساواة:

إن مفهوم المساواة كما تراه المنظّمات الدّولية والتي تبنيه على معنى الجندرية 3 والمساواة الكلّية التي تعني المساواة في كل شيء، لا بد له من رؤية نقدية، لأن هذا المفهوم على أساسه تتم المطالبة بمراجعة مدوّنة الأسرة تحقيقا لما يسمّى بالمساواة الفعلية، التي تتجاوز واقع الاختلاف الجنسي وتعتبره مجرد تكريس اجتماعي صنيعة ثقافة متحيزة للجانب الذكوري عبر التاريخ.

ثم إن طموح النداءات الدولية، هو الوصول إلى المساواة المطلقة كهدفٍ استراتيجي، وتبني عداء الجنسين وصراعهما، وهذا لا يمتّ لهوّيتنا وخصوصيتنا الحضارية والثقافية بصلة، وإذا أضفنا إلى هذا أن الإسلام جعل المساواة كمبدأ عام بين الناس جميعا‏، دون تمييز بين رجل وامرأة‏، عربي وعجمي، أسود وأبيض، شرقي وغربي، شمالي وجنوبي،‏ أي أن الناس سواسية وليس هناك تفاضل في إنسانيتهم إلا بالتقوى، لقول الله تعالى: إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ 4، فإنّ المطالبة بـ “المساواة الجندرية” -بدعوى ما تتعرض له المرأة من ظلم- مزايدة خطيرة يجب الانتباه إلى أسبابها ونتائجها. لا ينكر هذه المظلومية إلا محلق في سماء الوهم البعيدة عن أرض الواقع، ثم إن الحديث عن هذه المظلمة واجب تفرضه الحياة، فلمعرفة دواء أي داء وجب تشخيص الحالة أولا، ثم بعد ذلك يمكن لنا الحديث عن كيفية رفع هذه المظلومية، ويبقى القول الفصل والأخير أن إجلاء هذه المظلومية عن المرأة مطلب شرعي قبل أن يكون مطلبا سياسيا أو حقوقيا.

إن الاعتراف باختلاف الصفات الفيزيولوجية لكل من الرجل والمرأة يقودنا إلى القول بإعمال مبدا التكامل بين الرجل والمرأة، فإن تكن الشريعة ساوت بين الجميع في الحقوق والواجبات والمزايا والعقوبات، فإن عظمة هذه الشريعة تكمن في كونها لا تلغي الفروق الذهنية والنفسية والجسمية والتركيبة بين الجنسين، وعليه فالإنصاف يقتضي أن المساواة في التّشريعات تكونُ حيثُ وجدت الصّفات المتطابقة، وهو ما يقتضي كذلك الاختلاف في هذه التّشريعات حيث اختلفت هذه الصّفات. هي تراعي الاختلاف بینهما تحقيقا للتكامل، الذي يحصل بين أدوارهما النابعة من الخصائص التكوينية لكل من المرأة والرجل، وما ركب الله تبارك وتعالى فيهما من قدرات مختلفة في كل واحد منهما، بحسب التفاوتات الجسمية والعقلية والقلبية وأيضا النفسية، ثم إن هذا التخصص والاختلاف لا يفضي إلى القول بأنهما على خطين مستقلين متباعدين أو متوازيين لا يلتقيان، بل على النقيض من ذلك، فهذان الخطان يتقاطعان ويتكاملان في انسجام وتناغم، فللمرأة حظ من جبهة الرجل التي يكون فيها هو الطليعة وهي المدد، دعما وتشاورا وتأييدا، وكذلك الرجل له من جبهة المرأة حظ ونصيب، مشاركة ومعاونة وإسنادا.

نحتاج فهما يحفظ للأسرة مكانتها في تكامل بين وظيفتي الرجل والمرأة، واحترام لخصوصية كل واحد منهما، يجعلان نصب أعينهما التكليف العام والأجر والجزاء الذين تتساوى فيهم المرأة مع الرجل، عندما يمتثلان لأوامر الله تعالى ويجتنبان ما حرم، ينشدان بناء سليما للبنة حصن الأمة الأولى، وصولا لصرح أمتنا في ولاية جامعة بين المؤمنين والمؤمنات.


[1] لم يتم تغيير تسمية هذا القانون من “مدونة الأحوال الشخصية” (1957 مع تعديلات لحقتها فيما بعد) إلى (صدور مدونة الأسرة عام 2005)، “مدونة الأسرة” فحسب، بل شمل هذا التغيير مضمون القانون أيضا. فجاءت مدونة الأسرة بمستجدات خاصة بالأسرة عموما.
[2] قدم المجلس الوطني لحقوق الإنسان يوم 20 دجنبر 2023 إلى الهيئة المكلفة بإعداد تعديل مدونة الأسرة بمذكرة تضمنت مقترحات وتوصيات المجلس بشأن مراجعة هذه المدونة، وقد ضمن في المذكرة   تطرق فيها الى الاختلالات الكبرى التي سجلها المجلس الوطني لحقوق الانسان لحصيلة تطبيق مدونة الأسرة – 2004-2023.
[3] في شهر يوليوز من عام 2010 تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة تكوين وكالة جديدة للأمم المتحدة للنساء، تدعى كيان الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين النساء، أو اختصاراً الأمم المتحدة للنساء، ومفهوم “الجندر” في وثائق الأمم المتحدة الدولية: يوضِّح الفروق بين الرجل والمرأة الحاصلة من الدور الاجتماعي المنوط بهما، والمنظور الثقافي والوظيفة لكلٍّ منهما، وهذه الفروق هي نِتاج لعوامل دِينيَّة وثقافيَّة، وسياسية واجتماعية؛ أي: إنها فروق صَنَعها البشر عبرَ تاريخهم الطويل، وهي فروق يمكن تجاوزها في إطار المساواة بين الرجل والمرأة في حين لا يمكن فعل ذلك في الفروق الفيزيولوجية بين الرجل والمرأة التي تقف حاجزًا استفهاميًّا أمام مساواة مطلقة. جاء المصطلح في المادة الخامسة من سيداو(اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة)، وطالبت هذه المادة بتغيير الأنماط الاجتماعيَّة والثقافية لدَور كلٍّ من الرجل والمرأة؛ بهدف تحقيق القضاء على التحيُّزات والعادات العُرفية.
[4] سورة الحجرات، الآية 13.