مدرسة الصبر

Cover Image for مدرسة الصبر
نشر بتاريخ

تتناوب نفحات العناية الربانية على أهل الاسلام نفحة بعد نفحة، تحوز لهم الخير، تشحذ العزائم، و تمتحن الإرادات وتدربها على اليقظة الإيمانية ودوام الحضور مع الله عزوجل في كل وقت وحين. نفحات منها اليومية كالصلاة، والاسبوعية كصلاة الجمعة والسنوية كرمضان، ومنها من تكون لمناسبتها كعيادة المريض واتباع الجنائز ومنها من هي فرصة في العمر كالحج خامس أركان الدين.

هذا الركن المتين كغيره من أركان ديننا الحنيف ليس مقصودا لذاته، بل مقصود لِحِكَمه ومعانيه وما يحققه من أثر في القلب والجسم والفكر سواء على مستوى الفرد او الجماعة.

فعلى مستوى الفرد هو فريضة في العمر قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سبيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين 1 – فريضة بموجبها يمحو العبد ذنبه وينال عظيم الأجر، قال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص “أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله” رواه مسلم. والحج أيضا وكما قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: اختبار وتقوية وتدريب لقدرة المؤمن على ضبط شهواته وجوارحه، أشد ما يكون الجسم تحملا لمشقات التنقل، وأشد ما تكون النفس حرجا من الغربة والزحمة إنها مدرسة الصبر. منهاج تربية إخراج للمرء من عاداته وأنانيته وإلفه ورخاوته إلى التقيد بالشرع في الحركة والكلمة والخطرة، إلى التواضع والتخلق والتحمل. إنه استنهاض للنفوس أن ترتفع عن صغائر الأمور وسفسافها إلى التجرد عن الماديات، بالتقلل منها، والصبر على دواعي الغضب ونوازع الشهوة.) 2

انه معسكر تدريب على علو الإرادات وأسماها “إرادة وجه الله تعالى” وبذل الغالي في سبيل ذلك من كلفة النفقة ومشقة السفر ومن اتخاذ المعين والرفيق في الطريق .

تدريب على تمام الخضوع لله عزوجل والانقياد لأمره، وذلك بالتقيد بأعمال تتحرج منها النفوس ولا تدرك معناها العقول من طواف بالبيت وسعي و… أعمال أوجب الله تعالى لقبولها شروطا في الزمان: أشهر الحج، وفي المكان: مكة المكرمة، وهيئة خاصة: الإحرام. شروطا تخرج العبد من الفوضى والتسيب والتراخي الى التقيد بالشرع واستغلال الوقت والانضباط به.

وهو بعد ذلك تدريب على قوة ضبط شهوات الجوارح ولجمها، وحسن استعمال الحرية وذوبان الأنانية وسط جمع هائل من الحجيج على اختلاف أجناسهم وعقلياتهم والتعايش معهم بحسن الخلق والبر والإحسان يقول الله عزوجل : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ 3 . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، قيل وما بره؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام”

وعلى المستوى الجماعي فإن الحج تدريب وتربية للروح الجماعية، وجمع لشمل أمة الاسلام في أبهى مظاهره. جمع شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتبادلوا بينهم المنافع ويتآلفوا و يَتَأَلَّفُوا. يتآلفوا قلوبا قبلتها الله عزوجل، ويَتَأَلَّفُوا جماعة وأمة في عقد إقامة دين الله ونصرته، جماعات أقام أفرادها دين الله في أنفسهم أولا وقبل كل شيء فتوحدت قلوبهم على مطلب جامع: الاستجابة لنداء الله لهم بالحج، كما توحدت قبلتهم في عبادة جماعية و مدرسة مجتمعية إيمانية. تُعَلِّمُهم وتُعْلِمْهُم أن لا نجاح ولا فلاح لهم أفرادا ودويلات إلا بهذا التوحد القلبي، وما الوقوف بعرفة، على هيئة واحدة إلا تجسيدا لهذا التوحد والتآلف والتألُّفِ قال الله تعالى: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام 4

ليشهدوا منافع دنيوية وأخروية أعظهما، مغفرة من الله و لم شمل أمة وزَّعَتْها التفرقة السياسية والفقر والصد عن دين الله، أمة اجتمعت في صعيد واحد لذكر الله تعالى ومعرفته وإسماع رسالته للعالمين بقوة ووحدة يُعْتَدُّ بها وبِقَدْر تستحق معه أن تكون أمة قال فيها سبحانه : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون 5

فلبيك اللهم ، لبيك وسعديك ، والخير بيديك ، اللهم إيماناً بك ، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمدـ صلى الله عليه وسلم ـ اللهم رد أمة سيدنا محمد الى دينك ردا جميلا .


[1] آل عمران آية 97
[2] المنهاج النبوي خصلة الجهاد
[3] سورة الحج آية ( 197 )
[4] سورة الحج، الآيتان: 27-28
[5] آية 110سورة آل عمران