محبته صلى الله عليه وسلم العروة الوثقى

Cover Image for محبته صلى الله عليه وسلم العروة الوثقى
نشر بتاريخ

الآن يا عمر، توجيه نبوي شريف لسيدنا عمر لتكون وجهة قلبه بكليتها خالصة مخلصة في محبته صلى الله عليه وسلم، حيث ورد في الحديث فيما رواه الإمام البخاري رحمه الله عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: “كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر ابن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله! لأنتَ أحبُّ إلي من كل شيء إلا نفسي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم “لا! والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك”. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر”.

حديث يجلي معنى من المعاني العميقة في ديننا الحنيف، فمدار الأمر كله على هذا الحب القلبي الذي جمع الصحابة بالذات الشريفة، فالقضية ليست اقتناعا فكريا محضا ولو أن للعقل مكانته المعتبرة في الإسلام، فهم رضوان الله عليهم تعلقوا بقلوبهم أيما تعلق برسول الله، أحبوه واستشعروا بركات هذا الحب الشريف في سلوكهم، نورا أضاء منهم الجنبات وقطع بهم المسافات في مراتب القرب من الله. ولا يمكن أن نتحدث عن إيمان وإحسان دون الحديث عن وشيجة المحبة، ويشطح بعيدا من يريد أن يجعل الدين مجرد حرام وحلال وطقوس ويجعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعي بريد حمل الرسالة وانتهى الأمر، وعلينا أن نطبق ما جاء في الرسالة دون التفات إلى حاملها وبلا تشرب قلبي منه شرط حصول التحقق بمحبته، وهنا نستحضر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روت أمّ المُؤمِنينَ سيدتنا عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ))(رواه أحمد، والبُخاري، ومسلم، والتِّرمذي، وابن حبان.

فأرواح المؤمنين مادتها نورانية تستمد من مشكاة النبوة ودالة على نور الله الأعظم، تخالط القلوب وتستقر فيها بقدر المحبة للذات الشريفة، لذلك كان توجيهه صلوات الله عليه وسلم لسيدنا عمر بتمام المحبة له حتى يكون حظه أعظم وأوفى، ولسابق محبته صلوات الله عليه وسلم لسيدنا عمر، حب جعل حاله يتغير من حال لحال مسافة كلمات، فما كان رضوان الله عليه مجاملا حين قال فلأنت أحب إلي من نفسي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم موقنا من انقلاب حاله حين رد عليه: الآن يا عمر.

وتتوالى الروايات المؤكدة على هذه الرابطة القلبية التي جمعت بين الصحابة ورسول الله، وها هي واقعة أخرى حين سأل الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فرد عليه ماذا أعددت لها، وهذا نص الحديث الذي رواه البخاري (3688) ومسلم (2639) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا)؟ قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.  فَقَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ).  قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)!! قَالَ أَنَسٌ: “فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِم”.

حديث يبرز لنا طبيعة العلاقة التي جمعت بينهم، حيث يظهر لنا فرح واستبشار الصحابة، واعتبروا الأمر بشارة فهم كانوا محبين لرسول الله وبذلك يعمهم ما خص به الحديث الصحابي، ومن جهة أخرى فالحديث مناسبة علم فيها رسول الله الصحابة أن محبته لازمة في سلوك الطريق.

تربية نبوية جعلت من جماعة الصحابة ذاتا واحدة قوامها روابط قلبية من محبة وأخوة ورحمة، وجعلت من الدين مادة حية يؤخذ بالمصاحبة والمجالسة والمشافهة وليس من بطون الكتب كتعليمات جافة تبقى قشورا قد يصطبغ بها الظاهر أما الباطن فلن يكون إلا خرابا وفراغا روحيا وعطشا لمن يرفعك بمحبته للتشرب من نورانية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وشيجة المحبة هذه فريضة الوقت الغائبة في عصرنا هذا، طمست وقل الدالون عليها مع ما انتقض من عرى الإسلام، فهو الآن إسلام بارد وجاف؛ صلوات تؤدى بروتينية ومساجد مقفلة يحن فيها منبر رسول الله إلى أصله منبر حب وأخوة ورحمة، بل أكثر من ذلك إسلام يراد له أن يكون بلا قلب وتلصق به فظاعات هو منها براء وأدهاها القتل والترهيب باسمه.

إن الإسلام الحق محبة لله ورسوله وللمومنين وللبشرية جمعاء، إسلام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم علامته البارزة، كمال بشري ودوحة عالية في سماء الفضائل تفيض نورانيتها لترفع من حوله لمقامات القرب من الله، نورانية لن تخبو بإذن الله يتوارثها جيل عن جيل. ونسأل المولى أن يعم نورها فما أحوج الإنسانية لمن يعيدها إلى أصلها، فطرة الله التي فطر الناس عليها لتسمع نداء الوحي مغموسا في عسل المحبة بعيدا عن المشوشات والصواد.