مجاهدات على خطى الصحابيات

Cover Image for مجاهدات على خطى الصحابيات
نشر بتاريخ

إن ما نراه من مشاهد مؤلمة في غزة من إبادة وحرب فتاكة، تستهدف فيها النساء والأطفال بالخصوص، وهذا ما يؤلم ويوجع ويؤثر على النفوس والقلوب.

فرغم كل هذا الألم والقتل والحرب والدماء والأوجاع والحصار والجوع والعطش والقهر والفقد والحرمان، رغم قساوة الجو ورائحة القنابل والفسفور، والصوت المرعب الذي يؤثر على الآذان، تجد المرأة المؤمنة الغزاوية، المرأة المسلحة بالذكر والقرآن والحجاب، تجاهد جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل بالصبر والثبات، بالرباط والمواساة، فتجدها محتسبة لله، قوية في الميدان، لأنها ربت جيلا على الجهاد والاستشهاد، وتعطي درسا للإنسانية وللأمة الإسلامية وللعالم، بأن حب الوطن من الإيمان، وبأنها مستعدة أن تموت هي وأطفالها في سبيل أرض الأنبياء والرسل، في سبيل المسجد الأقصى والقضية، فقضيتها الأولى الجهاد والموت في سبيل الله، فهي لم تقتصر على المشاركة في الجهاد بحمل السلاح وضرب الأعداء ومنافسة الرجال، بل جاهدت نفسها أولا اقتداء بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الكيِّسُ مَنْ دَانَ نفْسَه، وعَمِلَ لما بعدَ الموْتِ، والعاجزُ مَنْ أتْبعَ نَفْسَه هواها، وتمنَّي علَى اللهِ” 1.

فتربية المرأة الفلسطينية عامة والغزاوية خاصة، تربية الإسلام المجيدة، التي تعتني بأخلاق المرأة وسلوكها، بنزعاتها ورغباتها، اتجاهاتها وميولها، فتوجهها الوجهة الصائبة الصالحة، التي تكفل لها الراحة الأبدية، راحة الآخرة بجناتها ونعيمها، وتجعل منها عضوا مثاليا نافعا في المجتمع، فتعيش حرة صامدة شريفة. ولا يخفى علينا هذا الأمر، يبرزه ما نشاهده ونراه من تربية المرأة الفلسطينية وما تعيشه من معاناة وألم وفراق، فتجدها سباقة في تكوين الفرد الصالح وبناء المجتمع الفاضل، تربي طفلها على المحبة والوئام، والكفاح والنضال، على العلم والقرآن وحب الله، حتى يصير شابا مجاهدا، يجد نفسه واقفا عند حدود الله، سلاحه قول لا إله إلا الله، يكف جوارحه عن الآثام ويبتعد عن المحرمات والشهوات، ينظر إلى الدنيا نظرة البصير العاقل، الذي لا تؤثر فيه عواصف المدنية الهوجاء ولا أساليبها الماكرة الخادعة. فهذا هو الجيل الذي أعدته المرأة الغزاوية الفلسطينية، إذ تجد الأسرة بأكملها تقبل على الموت بصدق وإخلاص، وعلى الآخرة بإيمان ويقين وجهاد، فكانوا من السعداء الأبرار.

“إن عثر المؤمنات على سر التربية الأولى التي أنتجت ذلك الانقلاع العظيم عن الدنيا وذلك الإقبال الكُلي على الله اقتنعن بهوان كل مطلب ما دون قرب الله ووجه الله” 2.

صورة من الصور التي نشاهدها، أشلاء وجرحى وقتلى يصعب وصفها، فترى طبيبات ومسعفات وممرضات ومنقذات في الميدان، يرون ما لا يقدرن على رؤيته، فقلب المرأة بطبيعة فطرتها لا يقوى ولا يتحمل رؤية الدم والجرح، وإحساسها المرهف لا يقدر على سماع البكاء والصراخ والنحيب، فتجدها سباقة للإسعاف والإنقاذ بإتقان وإخلاص. وها نحن نشاهد الطبيبة الغزاوية الصامدة، ونتخيل كيف كانت الصحابيات رضوان الله عليهن والمجاهدات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعفن ويساعدن الجرحى، فهذه الربيع بنت معوذ قالت: “كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم، ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة” 3.

وحتى لا نكون غافلات عن تاريخنا المجيد، تاريخ النصر والفتوحات الإسلامية، فقد كان من خيرة النساء من شاركن في الجهاد وخرجن إلى القتال مع إخوانهن وآبائهن وأزواجهن ليعددن الطعام ويضمدن الجرحى ويعالجن المصابين والمرضى، نذكر منهن:

– أم موسى بن نصير: شهدت مع زوجها اليرموك ممرضة ومقاتلة.

– أميمة بنت أبي بشير بن يزيد: اشتركت في إسعاف الجرحى ومقاتلة الروم في معركة اليرموك، وهي الحرب الفاصلة بين الروم والمسلمين في عهد عمر رضي الله عنه، قتلت تسعة من الروم بعمود فسفاط.

– أم حكيم بنت الحارث المخزومية: أبلت بلاء حسنا في معركة اليرموك.

– أمية بنت قيس الغفارية: خرجت زعيمة للممرضات، ولم تبلغ السابعة عشرة من عمرها في غزوة خيبر، وقد أكبر الرسول صلى الله عليه وسلم حسن بلائها فقلدها بعد انتهاء الغزوة بقلادة تشبه الأوسمة الحربية في عصرنا هذا.

عن أنس قال: “لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى حدم سوقهما (خلاخلهما) تنقزان القرب، وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان تملآنهما، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم” 4.

– وكذلك البطلة صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرج ابن إسحاق أنها لجأت يوم أحد إلى حصن حسان بن ثابت شاعر المسلمين مع النساء والصبيان وحسان، فمر يهودي يطيف بالحصن، وطلبت المرأة الصالحة البطلة إلى الرجل الشاعر حسان أن ينزل إلى اليهودي، قال حسان: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. وقالت صفية: فلما قال لي ذلك ولم أجد عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا، ثم نزلت فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان، انزل فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، فقال حسان: ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب. كانت صفية أول مؤمنة قتلت عدوا في الإسلام وليس كل الرجال أبطال كحسان.

ومن المشاهد الكثيرة التي سبق أن رأيناها من المسلمات الفلسطينيات اللواتي جاهدن إما بطعن الصهاينة أو حمل السلاح عليهم أو حتى ضربهم بالحجارة، وهذا لا يبعدنا عن أم سليم يوم حنين حملت خنجرها تتحدى  الأعداء.

جاء زوجها أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويخبره أن مع أم سليم خنجرا، سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصدها، فقالت: “أردت إن دنا إلي أحد منهم طعنته به” 5.

ولن أبتعد كثيرا عن مفهوم الجهاد في تصور الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى في قوله: “سؤال المومنات وإشكاليتهن: كيف وبم تعبأت الصحابيات فجاهدن في سبيل الله في ساحة القتال جنبا إلى جنب مع الأبطال؟ إن عرفنا سر تلك التعبئة الجليلة ربما كان أهون علينا أن نجاهد جهادا لا دماء فيه تسيل، وهل الإسلام وصفة بمذاق الدم!” 6.

“تصنع المومنات أجيالا كثيرة العدد عالية النوعية، علينا واجب تغذيتها، ورعايتها الصحية وتعليمها، وربطها ربطا وجوديا بالقرآن وبالنموذج النبوي، ثم تعبئتها في جهاد مستمر لتبني من بعدنا مستقبل الأمة الشاهدة على الناس بالقسط… الإسلام سلام، الإسلام رحمة، الإسلام دعوة، ما الإسلام قهر ودماء، لكن الإسلام بدون شوكة تعزه، بدون جهاد هو الشوكة، يبقى جسما يداس بالأرجل، تستعرض المؤمنات وجوه نساء شاركن في الجهاد أشد ما يكون الجهاد، جهاد القتال صبر ساعة وأيام. أما جهاد بناء أمة، وتنشئة أجيال، وتعبئة حاملي الرسالة ابتداء من غثاء رميم يحييه الله على يد المؤمنين والمؤمنات، فهو صبر عمر وأعمار، لكن الباعث والتربية ومصدر القوة لا يختلف.

قاتلت الصحابيات رضي الله عنهن جنبا إلى جنب مع الصحابة، قاتلن وليس القتال علين فرضا، استأذنت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: “جهادكن الحج”( رواه عنها البخاري). لكن عائشة وغيرها من الصحابيات قاتلن متطوعات وأبلين البلاء الحسن” 7.

الواقع وما نرى فيه، أن مسلمو هذا العصر  تقاعسوا إلى حد كبير عن أداء واجبهم نحو المقدسات الدينية وقولهم الحق والدفاع عنه، وإنها لجريمة لا تغتفر، فقد باتوا غارقين في كسب متاع الدنيا كغيرهم من الشعوب تماما، مما يدل على أنهم لم يعودوا  مدركين بأنهم حملة رسالة الحق والدعوة والدفاع عن المظلوم وعن الأقصى وعن إخواننا في غزة وفي كل مكان، فلقد خلق الله الإنسان لأجل الامتحان والابتلاء، وما يقع لغزة من إبادة ودمار وسفك لدمائهم الطاهرة ما هو إلا امتحان لنا ولهم؛ هل نحن مع الحق ومع موعود الله، أم مع الباطل والسكوت عنه والتجاهل والتغافل، أساس النتيجة النهائية لهذا الامتحان تحدد مصير كل واحد منا.

فالأمة المحمدية هي المسؤولة الآن عما يقع لغزة وفلسطين، وإنها مسؤولية أشد وأعظم من كل المسؤوليات، ذلك إن لم يتم إخبار الناس بحقيقة الصهاينة الغاصبين، دخلوا أرضا فأفسدوها ولا يزالون يقتلون ويقصفون ويضربون بدون رحمة أو شفقة، وهذا لا يخفي علينا أنهم ظلمة معتدون لا رحمة فيهم ولا دين، وإنا لمسؤولون أمام هذا الوضع الخطير إن لم نكن عونا ولو بكلمة، ودعوة وبكاء، والخروج للوقفات والمسيرات التضامنية التي تهتف بالحق وبالنصر لإخواننا في غزة وفي الأقصى، ومقاطعة للبضائع “الإسرائيلية”، وإظهار حقيقة الصراع إعلاميا بما يتاح لنا وتربويا لأطفالنا ومحيطنا..

أختم بقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: “لا يهمنا عدد اليهود الذين ذاقوا الأمرين تحت حكم هتلر لأننا نشمئز من معاناة ضحية بريئة واحدة مهما كان دينها أو عقيدتها أو عرقها، ستبقى إذن الصورة الرهيبة لمعسكرات الاستئصالي منقوشة إلى الأبد في جبين الحداثة الجاهلة العنيفة.

نعم، لليهود باعتبارهم بشرا، الحق في شفقتنا مثلما لكل مستضعف في الأرض، فرغم أن الغرب يشجع ويدعم الصهيونية اليهودية للتكفير عن جرائمه الماضية وحماية مصالحه الحاضرة والمستقبلية في ديارنا رغم أنفنا، فنحن ملزمون بأن لا نحقد على اليهودي باعتباره يهوديا، خاصة إذا كان معاديا صراحة وباقتناع للصهيونية، إذ للجمعيات المعادية للصهيونية وجود.

بعد الحرب العالمية الثانية صدرت منظمة الأمم المتحدة برنامجها ببند الدفاع عن حقوق الإنسان، نية طيبة نبيلة لولا أن الممارسة تكذب المبادئ المعلنة، فمنذ البداية سيطرت الدول الخمس الكبرى (أي القوى الخمس التي تملك أعتى أسلحة العنف) على مجلس الأمن الذراع المتحركة للمنظمة، والمسلمون مطالبون بتحقيق التحالفات التي تمكنهم من إعادة تشكيل هذه المؤسسة على أساس توفير قدر أوفر من العدل للدول المحرومة. تقام الدعوى على الإسلام مطالبة بمحاكمة نياته في مجال حقوق الإنسان: هل ستحترم الحكومة الإسلامية حقوق الإنسان حينما!…” 8.

رحم الله تعالى الشهداء؛ شهداء القضية الفلسطينية، شهداء المقاومة الإسلامية، رحم الله الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، وحفظ الله إخواننا وأخواتنا في غزة وفلسطين والإخوة المجاهدين المقاومين، وعجل لهم بالنصر والتمكين.


[1] رواه الترمذي.
[2] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ج 2، ص 261.
[3] رواه البخاري، باب مداواة النساء الجرحى في الغزو.
[4] رواه البخاري، في كتاب الجهاد من صحيحه أربعة أبواب: باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال.
[5] رواه سعد وغيره.
[6] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، م. س. ص 261.
[7] المصدر نفسه، ص 264-263.
[8] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ط 2023/3، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستانبول، ص 179.