لنحبه على علم

Cover Image for لنحبه على علم
نشر بتاريخ

لا شك أن مفتاح الدخول في دين الله يقتضي الشهادة بشطريها: التصديق بوحدانية الله جل جلاله، والإيمان بصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم باعتباره النبي الخاتم، اجتباه الله ليهدي البشرية إلى ما يحقق لهم السعادة الحقيقية الدائمة، وألزم عباده بطاعته واتخاذه إسوة، بل وجعل اتباع نهجه دليل صدق محبتهم إياه عز جل، قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (1)، ومن ثم لا يستقيم سير السائر في طريق الله الراغب في غافر الذنب إلا بالإحاطة بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء عما نهى عنه، قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا (2)، وما أتانا الرسول وما نهانا عنه لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال العلم بسنته القولية والفعلية والاطلاع على سيرته ومنهاجه، فيسوق العلم به إلى محبته وتعظيمه والاعتزاز بالانتماء لدعوته.

المعرفة مفتاح المحبة

إذا كانت المحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، فإن جذوة المحبة تنمو بمعرفة المحبوب، لذا يلزم كل عبد طامح في الفوز بمعية رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينهج طريقين: الأول فكري وسيلته دراية العقل المتفكر الناظر، والثاني وجداني وسيلته تلقي القلب المستمد للحب من قلب محب، فالأمر كما قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى ما هو (معلومات وإقناع فكري، بل هو إقناع قلبي عقلي وجداني أفاضه جيل على جيل، وجليس على جلساء، ومحبوب في الله على محبين في الله) (3)، فالسنة النبوية نبع متجدد وكتاب مفتوح محفوظ بما حفظ به الله ذكره لأنها  متممة له ومفسرة ومبينة، تحمل مقومات الصلاحية لكل زمان ومكان وحال، وتحفل بأسباب الهداية، لا يستغن عنها باحث عن طريق الاستقامة.

كتب ابن قيم فصلا يبين فيه اضطرار العبد لمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه: (من ها هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى والضلال) (4).

وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج بها عن الجاهلين به، ويدخل بها في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (5). فإذا كان التأسي برسول الله واجب فإن معرفة وجه فعله صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات تندرج ضمن مسائل العقائد الإيمانية، قال الإمام عبد السلام ياسين: (معرفة أحواله وشمائله صلى الله عليه وسلم واجبة لنحبه على علم، كما أن معرفة أقواله وسنته واجبة لنتخلق ونعمل، حبه عقيدة، والعمل على سنته بنية الاتباع برهان سلامة العقيدة) (6). فبحسب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم يحصل طيب العيش وتتحقق العزة والهداية والفلاح والنجاة، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته ومحبته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، والله عز وجل أقسم في كتابه الحكيم بأن لا يومن أحد حتى يحكّم رسول الله عليه أزكى الصلاة والسلام في كل ما عرض له ويرضى بحكمه ولا يجد في نفسه حرجا مما حكم به ويسلم به تسليما. (فأنّا لنا الفلاح إن لم نحبه ونوقرة ونتبرك به ونتقرب إلى الله عز وجل باتباعه ومحبته والصلاة عليه؟) (7).

المحبة تقتضي النصح

النصيحة لرسول الله شريعة علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أقر أن الدين النصيحة، ومنه النصيحة لرسول الله التي تقتضي بعد معرفته التوسل بكل الوسائل للتعريف به، والتبليغ عنه والوقوف أمام كل من عمل على الطعن في شخصه وسنته ليطفئ جذوة محبته في قلوب المؤمنين به، هذا البلاغ ينبغي (أن يكون مفعما بالحب لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم مفعما بالتقدير لمكانته عند الله عز وجل، وبالاقتناع بعصمة سنته وقيادته، فطالما طعنوا في الشخص الكريم ليوهنوا في قلوبنا حب من جعل الله حبه مقرونا باتباعه، وتعزيره وتوقيره ونصرته وفدائه بالمهج، والأدهى من ذلك أن من المخربين من هم أبناء الإسلام ودعاته ورثوا جفوة الأعراب وجفاء من لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقوا على إسلام حرفي) (8)، فمن موجبات محبته ودلائل صدقها إحياء سنته وتعظيم أمره والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه وبث دعوته ونشر شريعته وتعليم سيرته والعناية بأحاديثه حفظا وفهما وتطبيقا. ومن حقه صلى الله وسلم علينا نقل سنته إلى الأجيال القادمة حتى تبقى السلسلة النورانية متصلة بكل من آمن به ولم يره.

وأخيرا أقول قول ابن القيم (هذه كلمات يسيرة لا يستغني عن معرفتها من له أدنى همة لمعرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره، مع البضاعة المزجاة التي لا تنفتح لها أبواب السدد) (9). اللهم صل على سيدنا محمد عدد ما ذكرك وذكره الذاكرون وعدد ما غفل عنه الغافلون.


(1) آل عمران، من الآية 31.

(2) الحشر، من الآية 7.

(3) ياسين عبد السلام، تنوير المؤمنات، الطبعة الأولى، 1996، ج 2، ص 19.

(4) شمس الدين ابن قيم الجوزية، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، زاد المعاد في هدي خير العباد، فصل في اضطرار العباد إلى معرفة رسول الله، ج 1، ص 7.

(5) نفسه، ص 24.

(6) ياسين عبد السلام، تنوير المؤمنات، م. س، ص 11.

(7) ياسين عبد السلام، القرآن والنبوة، الطبعة الأولى، ص 54.

(8) نفسه، ص 53.

(9) شمس الدين بن قيم الجوزية، زاد المعاد، م. س، ص 24.