لماذا أحرقوا مصحفنا؟ (وجهة نظر)

Cover Image for لماذا أحرقوا مصحفنا؟ (وجهة نظر)
نشر بتاريخ

قد تتطاول بعض الأيدي على المصحف الشريف فتحرقه متجرئة على أقدس كلام يتعبد به المسلمون ربهم. وما هذا إلا هراء الحضارة الغربية عندما تنتج عقولا حاقدة متشبعة بالكراهية لكل ما يشكل هوية إسلامية. فكم من قضية بدأت وبدت عدوانية فانقلبت بفضل من الله إلى نعمة كانت سببا لهداية عدد لا يحصى من الداخلين في الإسلام من مختلف بقاع العالم.

يبقى السؤال المطروح في كل هاته الطفرات العنصرية التي تطفو على السطح بين الحين والآخر: لماذا يحرقون المصحف الشريف؟

لا شك أن ثمة أسبابا عدة تتداخل في صنع مثل هذه المواقف الشاذة والمتطرفة، وأود هنا إثارة بعض منها، وبالله التوفيق.

1-  الجهل بمعرفة الله عند المسلمين وغيرهم

 أ- عند المسلمين

صحيح أننا مسلمون، لكن كثيرون منا ليس لهم من الإسلام إلا الرسم، وكثير منا ورثه عن أبويه وذلك من حسن حظه لوْ فَقِه. لم يكن من شغلنا الشاغل في دنيا الشواغل أن نعرف الله أو نرتبط به ارتباطا قلبيا يجعلنا نراه في كل الحركات والسكنات؛ فيكون أهم شيء نفعله ليرضى أن نتقي الله في عياله فلا نظلم ولا نحقر ولا نأتي المنكر إنكارا له وحياء من الله. لو عرفنا الله لسخرنا قلوبنا لترابط في محاريب ذكره، ولا نلتفت عنه إلى غيره. لو عرفنا الله لكانت خدمة خلقه أهم مفاتيح الوصول إليه. لو عرفنا الله لانطلقنا إلى العالم ندل عليه. لو عرفنا الرحمن الرحيم لرحمنا الناس. لو عرفنا الحليم لتغلبنا على نزوات النفس وتخلصنا من كل ما يجعل ربنا عنا غير راض، وهو الذي أحبنا وعلمنا أن نحب، بل أوجب على نفسه تلك المحبة وهو القائل عز وجل (حقت محبتي للمتحابين فيّ). لو عرفنا الله الشكور لتعلمنا جمال الاعتراف بجهد الآخر مهما قل. لو عرفنا الله الكريم لاستحيينا من بخل يقيد أيدينا وألسنتنا وعقولنا..

عندما يتجلى عليك الله بجماله وجلاله تصبح متتبعا لكل طريق ترضيه، شرط أن تتخلص من أنانيتك المستعلية وهواك المتبع وعاداتك الجارفة.

تخيل معي أن تكون مسلما حقيقيا خاضعا لجلال الله، مسلّما له كل أمرك، مستحضرا أنه “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير”، وأن الله يرقُب ظاهرك وباطنك ويسمع سرك ومناجاتك، وأن إرادته فوق كل إرادة وقدرته لا تطالها قدرة.. ساعتها ستجد نفسك ملزما أن تمشي في الأرض هونا وتخاطب الناس سلاما وتتخلق بأخلاق عباد الرحمن لينطبق عليك القرآن قولا وفعلا.

ساعتها فقط ينتشر وصفك وتقتحم قلوب الناس فيهيئ لك الله من أمرك رشدا ومن أمر الناس محبة وقبولا.

ب- عند غير المسلمين

لا يعرف الله إلا من اصطفاه لهذه المعرفة، وقد قدر سبحانه عز وجل أن نكون على مسافة متوازية في الحضور الزمني مع غير المسلمين، بل وفي الوقت الذي نشهد كراهية بعضهم لكل ما يحمل لبوسا إسلاميا لا ننكر وجود فئة تتعايش بإنسانية عالية مع المسلمين. هؤلاء لا ينقصهم الإيمان بالله أو الإسلام، بل ينقصهم الإيمان بالمسلمين باعتبارهم أرضية التطبيق لكل تلك المعاني التي تحدثنا عنها سابقا، لذلك يتأخر الكثير منهم في اعتناق هذا الدين، فلا يفعل إلا بعد مضي عمر كبير في البحث الحقيقي عن الله وتدبر القرآن الكريم، وعندما يأذن الله تعالى تجدهم أسرع ما يكونون لتمثل معاني الإسلام ويتأسفون عما ضاع من حياتهم، يرقبون المسلمين، وكان حريا بهم أن يرقبوا تجليات الله في الآفاق وفي أنفسهم لعلهم يهتدون. يتوصلون بكل ما يملكون من وسائل التحليل والمقارنة إلى أن الله ليس كمثله شيء، لا إله إلا هو، يقتنعون أن الله هو الخالق البارئ المصور، يناديهم منادي الفطرة أن الكون لم يخلق عبثا وأن الله لا يقبل الشريك وكل ما في الكون يدل على وحدانيته، يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. سبحانه.

وهناك فئة ممن ينكرون الحقيقة مهما اتضحت، بل يحملهم العمى وظلمانية أنفسهم إلى شن عدوان مستمر على كل مسلم، فلا تهنأ فتاة بحجاب ولا يرتفع للمآذن نداء، المصاحف تحرق بعنف، وينكل بالمستضعفين أيما تنكيل.. حقد دفين ممنهج تورثه الآلة الإعلامية والأنظمة الباسطة أيديها على مقاليد الحكم فلا تعترف بشيء اسمه أقلية مسلمة فضلا أن تعترف لها بحقوقها. من يتحكم في تحريك هذه الموجة من الغضب؟ ومن له المصلحة في إبقاء الغشاوة جاثمة على أعين أمثال هؤلاء؟ ومن يساهم في التزوير الإعلامي لكل حقيقة تدل على الله؟

من يعطي أوامره لسلب الحريات وتعذيب المسلمين في بلدان الاضطهاد؟ تقتيل جماعي وتنكيل، حرمان من أبسط حقوق الحياة… واللائحة طويلة من قائمة الانتهاكات التي يندى لها الجبين ويشيب لها الولدان مقابل تمسك عجيب لهؤلاء المسلمين بدينهم رغم الحرق والخرق لمقومات الإنسانية.

2- غياب المعرفة بالرسول صلى الله عليه وسلم

من تمام معرفة الله معرفة رسوله الكريم، الذي أرسله الله للناس كافة. كان قرآنا يمشي كما وصفته أمنا عائشة رضي الله عنه وأرضاها. كان قرآنا يمشي لأنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق؛ رحم الضعيف وأشفق على الصغير وحلم عن الجاهل، أعطى كل ذي حق حقه، ضمن كرامة الإنسان، ساوى بين العبيد والأسياد، وحرر الأنفس من الطغيان..

ولكي نتعرف على سيدنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه سأتطرق إلى ثلاثة نقط يمكن تتبعها في السيرة.

أ-  سيدنا رسول الله ﷺ وسط المسلمين

كان أرحم ما يكون بأمته، يحنو على الصغير ويواسيه، ويشفق على المريض فيعوده، ينزل الناس منازلهم، ويبقي لذي كل كرامة كرامته، يعفو ويصفح ويكرم ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يحسن معاملة زوجاته ويقدر قيمة النساء فيجعلهن شقائق الرجال في الأحكام ويستمع لمظالمهن ويوصي بهن خيرا. لا يميزه الغرباء بين صحابته من شدة تواضعه. كان خير من عبد الله وخير من عامل خلق الله، بل ادخر لأمته شفاعته يوم لا تنفع شفاعة الشافعين. لم ينتقم ولم يتسلط على ضعيف، ولم يغصب حق أحد، لم يسمح للقلوب أن تتشتت بسبب عرض من الدنيا، عدل بين الناس، وحارب عادات الجاهلية متتبعا نهجا متدرجا حتى استمكن الإيمان من قلوب أصحابه فانبروا بعد ذلك للدفاع عن دينهم طوعا، واحتلت محبة نبيهم في قلوبهم مكانا عميقا لا يستقيم لهم إيمان حتى يجعلوه أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم، يفدونه بالمال والروح ولا يبالون بما يصيبهم بعده.

ب- سيدنا رسول الله ﷺ بين اليهود والنصارى

كان سيدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه يكرم جوارهم، ويحترم بيعهم وكنائسهم، ويتفهم نفسياتهم، ويزور مرضاهم، ويتقاسم مع جيرانه ما جاد به عليه المولى من طعام، فقد ثبت أنه ذبح شاة وأوصى خادمه أن يتعهد جاره اليهودي. صبر على إيذائهم فكان حِلمه هذا مفتاح دخول الكثير منهم في دين الله. وكانوا يعيشون في كامل طمأنينتهم رغم اختلاف معتقداتهم، ويفهمون جيدا حقيقة أنه لا إكراه في الدين. رغم أنه كان يعي أنهم ليسوا سواء؛ ففيهم المنافق الذي لا يؤمن له جانب، لكن مكارم الأخلاق كانت عنوان تعامله مع الجميع بدون استثناء.

ج- سيدنا محمد ﷺ في الغزوات

لم يكن سيدي رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه يخرج إلى قتال إلا بعدما تستنفد كل الحلول، ولم يسمح بأن يقتل طفل أو امرأة أو شيخ.. بل من لم يحمل من الرجال سلاحا كان حظه السلامة. يسعى إلى حقن دماء الناس، فإن دعي إلى صلح أجاب، وكان يؤمِّن الناس على أرواحهم وأموالهم وأبنائهم وزوجاتهم.

د- سيدنا محمد ﷺ مع الأسرى

لم أجد أحن على الأسرى من سيدي رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، فقد رفض قتلهم، وفي غزوة بدر جعل مقابل حرية الأسير تعليم عشرة من أبناء المسلمين. لم يأمر بغصب أرض ولا هتك عرض، لم يجرد من ثياب ولا حرق الأجساد، لم يجوع منهم أحدا.

تعال إلى سجون الاحتلال لتفهم قصة الحقد على المسلمين عن قرب؛ حكايات الأسرى أساطير لا تصدق، سلسلة من الشرور التي لا تنتهي؛ يبدعون في التحقير والإهانة، يعبثون بالأسيرات العفيفات المجاهدات، يضرمون النار في أجسادهن بكل أنواع عفنهم، ثم لا تجد أصواتا تكاد تهمس بهاته الحقيقة المؤلمة إلا بضع صفحات يتيمة أو مواقع تتبنى الدفاع عن المظلومين عبر العالم.

3- غياب الاقتداء

أين المسلمون؟ إنهم حاضرون لكنهم متشرذمون وغير قادرين على احتواء الاختلاف، وبعضهم تعرض للتحريف الممنهج، النتيجة شباب متدين يتربى على إنكار المنكر ببضاعته المزجاة من الحكمة وخفض الجناح. وهناك فئة تعلوها الغثائية؛ لا تنكر منكرا ولا تأمر بمعروف، أصابها الوهن وابتعدت عن المعين الصافي استعدادا من أنفسهم وتخطيطا من أعداء الأمة. الآلة الإعلامية أتقنت دس السم في العسل فاختارت الهدف بدقة واشتغلت على المدى البعيد، ثم خلا المسلمون من دينهم؛ فلا إيمان في القلب يرهب عدوهم، ولا شكل في الظاهر يترجم إسلامهم، وانمحت الغيرة.. بعض المسلمين لم يحرقوا أوراق المصحف لكنهم حرقوا أخلاقه؛ كلام ساقط مخجل، لباس شبه عار، عقوق فاضح، إباحية ماجنة… ماذا تنتظر بعد ذلك؟ لا تستغرب إذا استبيحت الحرمات وحرق المصحف جهرا وذبحت النخوة علنا.

مقترحات

كل هذه عوامل لو استمرت دون تغيير لأفقدت الأمة القدرة على الوقوف، لكن لابد من وقفة مع الذات لجرد العثرات وجبر السير. لا يقابل التخطيط إلا بتخطيط مثله، والتغيير ليس مجرد أمنيات. كلنا يقف على ثغر عظيم فلا يؤتين من قبله. لابد من الوعي بقيمة التغيّر قبل التغيير. أنت أيها الذي أضاع عمره في الاستهلاك حان موعد الإنتاج؛ إنتاج الأفكار القادرة على مجابهة خطط خارجية، خطط ليس لها شغل سوى تلميع صورة “الحرية” المزعومة وإن تطاولت على مقدسات المسلمين. نجحوا في إحداث الفجوة فتسللوا منها بسهولة والمطلوب منا سد تلك الفرج.

– التوعية بالخصاص المهول في الطاقات المقتحمة للتغيير.

– التعالي عن الأنانيات والاشتغال على ما يجمع الأمة وكف اللسان عما يفرق.

– إبداع أشكال التعاون بين مختلف الكفاءات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

– إنتاج عقليات قوية وأدمغة حرة بقناعات إيمانية راسخة.

– تفاعل جميع الغيورين مع هذه الأحداث بمزيد من حسن التدبير بعيد المدى، فلن يكفي بيان هنا أو عريضة موقعة هناك لوقف هذا النزيف.

– إبداع برامج تعليمية موازية تغطي النقص الذي تفتقر إليه مقرراتنا الدراسية بخصوص الأخلاق. فلا يعقل أن نبدأ العام الدراسي بالتربية على قيمتي العفة والحياء ونختم المقرر بالرقصات التي تهدد توازن المراهق الذي لم يعد يقبل بتحكم الكبار في اختياراته.

– إبداع طرق جديدة لتعليم القرآن الكريم للأجيال، وربط الحفظ بالتربية الروحية لدى المربي قبل المربى.

– التصدي بقوة اليقين والعلم لموجة الإلحاد التي تحوم حول شباب لم يتحصن ضد أي هجوم يمس عقيدته. شبابنا هم سواعد الأمة والمس بهم مس بالأمة وجوهرها.

وإن الله لن يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وفاقد الشيء لا يعطيه، لذلك فإن أول الأهداف أن نشتغل على أنفسنا متوسلين من الله عز وجل أن يلهمنا الطريق الصحيح، وأن يستعملنا في خدمة أمة الإسلام، وأن يكتبنا ممن أعتقوا رقاب أبناء المسلمين من رق العبودية للأفكار إلى عبادة الواحد القهار.

الكينونة بالله قوة والسير إليه سلوك وإماطة الأذى عن عباده واجب الوقت. ولا حول ولا قوة إلا بالله.