لذة السجود لله

Cover Image for لذة السجود لله
نشر بتاريخ

السجود عبادة من أهم العبادات، وركن متين من أركان الصلاة، لا يجب تركه بأي شكل من الأشكال، يكون في جميع الصلوات سواء منها الواجبة أو المندوبة، وعدده سجدتان في كل ركعة. وهو أقصى درجات العبودية ولا ينبغي لغير الله، وقد وردت كلمة “سجود” في أكثر من 92 موضعا من القرآن. إنه عبادة كل الكائنات طوعا واختيارا؛ من إنس وجن وملائكة وجبال ونجوم وشجر ودواب.. وحتى الجماد، بدليل قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ (1).

إن الصلاة خضوع لله وتذلل، وجعل الله السجود منتهى الخضوع، فأكثر ما يكون العبد منكسرا ضعيفا ذليلا خاضعا وهو ساجد.

وقد خلق الله ملائكة ساجدين وآخرين راكعين، هذه وظيفتهم منذ خلقهم الله إلى أن تقوم الساعة وهم لا يفترون، فإذا قامت القيامة قام الراكعون والساجدون من الملائكة وقالوا: (ربنا سبحانك ما عبدناك حق عبادتك).

وقد قيل إن أجمل وأروع ما في السجود أنك تهمس في أذن الأرض فيسمعك إله السماء، نعم هو سبحانه الذي “يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء”، فإذا كنت تريد أن تصعد بروحك إلى الأعلى فلا بد من أن تنزل بجسدك إلى الأسفل، وليس الجسد وحده من يسجد، فكذلك القلب، لكن سجود القلب أصعب من أن يأتى وليس كسجود الجسد.

والسجود يكون على سبعة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة – وأشار بيده على أنفه – واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين). وهو أنواع، فهناك إضافة لسجود الصلاة؛ سجود السهو، وسجود التلاوة، وسجود الشكر.

و للإنسان أن يدعو في سجوده، ويطلب من خيري الدنيا و الآخرة ما شاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: (.. و أما السجود فاجتهدوا في الدعاء) (2). 

من أسرار السجود

إن أكرم وأعز وأشرف وأرفع منطقة في جسد ابن آدم هي الجبهة أو الناصية، وإن أذل مكان حوله هي الأرض أو التراب الذي يدوس عليه. إذن يا بن آدم ضع جبهتك على الأرض، ومرغ أعز ما تملك لتحقق عبوديتك وتواضعك وخنوعك لله، وهذا من التواضع، و(من تواضع لله رفعه).

قد يدخل العبد في صلاته وهو مكروب  مثقل الكاهل  بالهموم، لكنه حينما يضع جبهته على الأرض، ويناجي ربه، ويخرج ما في صدره، ويذرف دمعته، ويبث شكواه لمولاه، سرعان ما تنجلي سحابة حزنه وغمه، وتفرج كل همومه. فكم من كربة نفست، وكم من دعوة استجيبت، وكم من حاجة قضيت.. بالسجود، لكن شرط أن يكون السجود لله بصدق، ويكون بالقلب والبدن والروح والعقل، جرب أيها الإنسان أن يكون سجودك بنية التقرب إلى الله والتلذذ بالطاعة وسترى العجب..

ومن علامات حسن خاتمة العبد أن يقبض الله روحه وهو ساجد يصلي، وكم من عبد تمنى هذا النوع من الميتة، طلبها بصدق فنالها، والمرء يبعث على ما مات عليه.

فيا ابن آدم اسجد واقترب؛ اسجد في فرحك وفي حزنك، اسجد في سهوك وفي تلاوة ذكرك، اسجد في ندمك وحين أوبتك وتوبتك، اسجد لإغاظة عدوك وشيطانك.. اسجد.. واسجد.. لعل كل تلك السجدات في ظلمة وهدأة الليل تغفر زلاتك، وتزيد قوة لقلبك وإيمانك، وترفعك مقامات ودرجات عند ربك، فمن لا يسجد لله في الدنيا لا يستطيع السجود يوم القيامة وعلى أرض المحشر، ومن هؤلاء الكافرون و المتكبرون والمنافقون، قال تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (3).

من ثمار السجود

– السجود صعود في الدرجات: فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة” (4).

– السجود رفعة عند الخالق: فهو مما يرفع مقام العبد عند ربه، وإبليس طرد من الجنة لأنه رفض السجود حين أمره الله، وهو يغار من العبد حين يسجد، ويبكي بحسرة وندامة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت ولي النار) (5).

– السجود قرب واقتراب: فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، والمصلي في سجوده ينزل إلى أسفل لكنه في الحقيقة صعود وارتقاء واقتراب من الله، قال تعالى: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب (6)، يقول ابن تيمية: (روح المصلي تقرب إلى الله في السجود وإن كان بدنه متواضعا، وهذا الذي دلت عليه نصوص الكتاب..) (7).

– السجود وِجاء من النار: فالنار لا تأكل أثر السجود على ناصية المؤمن، والساجدون يبعثهم الله يوم القيامة غرا من كثرة السجود، ومحجلين من أثر الوضوء، كما أخبر بذلك نبينا الكريم، قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ (8).

– السجود تذكير للإنسان بأصله: فعندما يضع العبد جبهته على الأرض، ويمرغ وجهه في التراب، يتذكر أصله وأن الله خلقه من تراب وأنه عائد إليه، قال عز من قائل: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ (9).

– كثرة السجود تستوجب مرافقة النبي في الجنة: الإكثار من السجود هو المفتاح، بل هو البوابة لمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وفي الفردوس الأعلى، ويا له من مقام.. واسمع  ربيعة ابن كعب الأسلمي، وكان في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من كبار المهاجرين، يحكي قصته فيقول: “كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: (يا ربيعة سلني حاجتك) قلت: يا رسول الله، صحبتك في الجنة، قال رسول الله (أو غير ذلك يا ربيعة؟) قلت: لا، هو ذاك، فقال رسول الله: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) (10).

أية همة عالية تلك يا ربيعة، وأي مطلب ذاك الذي وفقك الله لطلبه، وأي منزلة عظيمة تلك التي كنت تصبو إليها؟ طلبت مرافقة الحبيب، ولم تطلب أقل الدرجات في الجنة بل أعلاها.

ومجمل القول؛ إن الإكثار من السجود يشعر المرء بالهدوء الروحي والراحة النفسية والقرب من الله، وهو سر الفرح والسعادة، لهذا كان نبينا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه كلما أتاه ما يسره سجد لله (وهو سجود الشكر).

وللسجود تأثيرات كثيرة على الجسم، ناهيك عن الفوائد الصحية التي اكتشفها الطب الحديث؛ كالتخلص من الشحنات الكهربائية الزائدة، وعلاج تصلب الظهر وتيبس المفاصل، وتقوية العين، والحماية من جلطات الدماغ لتدفق الدم إلى الجبهة بفعل الجاذبية..


(1) سورة الحج، آية 18.

(2) رواه مسلم.

(3) سورة القلم، الآية 42.

(4) رواه مسلم.

(5) رواه مسلم.

(6) سورة العلق، آية 19.

(7) الفوائد العلمية من مجموع فتاوي ابن تيمية (المجلد السادس).

(8)  سورة آل عمران، آية 106.

(9) سورة طه، آية 55.

(10) جاء هذا الحديث في صحيح مسلم في كتاب الصلاة – باب فضل السجود والحث عليه.