لا تنقض غزلك بعد رمضان

Cover Image for لا تنقض غزلك بعد رمضان
نشر بتاريخ

إن لله في دهركم لنفحات

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله عز وجل نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم” [أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله عنه]. النفحات هي الأوقات المباركة كالأشهر الحرم، والثلث الأخير من الليل.. ومن أعظم هذه النفحات شهر رمضان المعظم، شهر البركات والخيرات، والتوبة وتجديد الصلح مع الله وطلب غفرانه وإحسانه، وعتق الرقاب من النار. شهر يفطم الجسم عن طبعه من شهوة الطعام وحاجة الشراب ولذة الأجساد، ليتعلم الإنسان ضبط نفسه، وإلجام هواها، والتحكم في أوصافها الحيوانية لتسمو الروح وتتطهر وتتدرب على تغليب الأوصاف الملائكية.

ولا تنقض غزلك

حري بمن جمع همته في رمضان، واغتنم وتزود فيه فضائل الأعمال من صيام وصلاة وقيام وذكر وبر وإحسان، حتى نال من الله جزيل الخير والأجر والمغفرة والعتق من النار، حري بهذا المؤمن أن يحذر فتور عزمه ونقض غزله من بعدما نسج بينه وبين ربه خيوط الوصال، قال الله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا(النحل، 92)، وقال كذلك: فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ (الفتح، 10).

إن رب رمضان هو رب شوال ورب كل العام، وعبادة ربنا لا تقتصر على رمضان، إنما رمضان نفحة من النفحات، ومدرسة تتخرج منها وفود التائبين بالإقبال على الله بالعبادة والقربات، لتنال عنده أعلى المقامات.

يريدون وجهه

إن الطاعات بأنواعها غير مطلوبة لذاتها، وإن ترتب عليها كثير من الأجر والثواب. بل يأتيها العبد تحقيقا للعبودية، وطلبا لوجه الله ومحبته كما أمر المولى سبحانه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (الكهف، 28).

إن الله سبحانه وتعالى يُطلب، وإنه عز وجل يُحِب ويُحَب. أخبر بذلك سيد المحبين وإمام الطالبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بأحب ما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته” [رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنهما].

ما يزال المؤمن يفعل ويكرر الفعل، يسعى أبدا ليرضي سيده ويتقرب منه بالفرض والنفل. يتقلب المؤمن من فرض لنفل ومن نفل لفرض، يقظة منه وحضورا دائما مع مولاه، لا يفتر حتى يتحقق له من الله المحبة والقبول.

إن الله في كل ليلة يناديك، وفي كل طاعة يفرح بك

إن حظي رمضان بليلة القدر، وهي ليلة واحدة في العام، فإن ربنا ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ينادي: “هل من داع فأستجيب له، هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له[من حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة].

إن انتظار الصلاة بعد الصلاة والجمعة إلى الجمعة مكفرات، وصيام الإثنين والخميس من كل شهر والأيام البيض وعشر ذي الحجة سنة ثابتة عن سيد الخلق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، ويوم عرفات.. وأوقات الاغتنام كثيرة، وكلها نفحات إن حرصنا عليها، وتعرضنا لها، كنا دائما وأبدا مع الله، فصرنا ممن كان لهم مع الله حضور دائم، وكان النسيان في حقهم طارئ، فاستحقوا أن يوصفوا بما وصف الله به عباده اليقظين الذين لا يرضون به بدلا. قال عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (الأنعام، 162).

المؤمن ضعيف بنفسه قوي بإخوانه

إذا كان سر هذه الهبة واليقظة التي نراها من الناس في شهر رمضان ونفتقدها في غيره من الأشهر، هي تلك الروح والإرادة الجماعية التي توحد الناس وتقوي عزائمهم، فيتسابقون ويتنافسون في الخيرات، فحري بنا أن نحافظ عليها ونأتمر بأمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ونصبر أنفسنا مع من يريدون وجه ربهم، نستعين بصحبتهم على طول الطريق ووعورة المسالك.

فالمؤمن ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، قال صلى الله عليه وسلم: “الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب” [رواه أبو داود]. أبعد ما يكون الشيطان عن الإنسان وهو في حضن الصحبة الصالحة، فإذا انطوى وانفرد بنفسه احتوشته النفس بهواها والشياطين بغوايتها حتى تثبط عزيمته كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية” [رواه أبو داود]، فلنتخيل أن هناك قطيعا من الأغنام شردت وانعزلت عنه واحدة، وجاء الذئب، فماذا يأكل؟ بالطبع سيأكل الغنم الوحيدة لأنها ستكون سهلة عليه ولن تجد من يعينها على المقاومة.

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك. آمين والحمد لله رب العالمين.