لئن كان قال ذلك لقد صدَقَ

Cover Image for لئن كان قال ذلك لقد صدَقَ
نشر بتاريخ

الحمد لله الذي لا تراه العيون، ولا تحيط به الظنون، أشهد أن لا إله إلا هو سبحانه إذا أراد شيئا فإنّما يقول له كن فيكون، وأشهد أنّ سيدنا وحبيبنا محمّدا عبده ورسوله الدّر المكنون والجوهر المصون ما رأت مثله قبله ولا بعده العيون، اللهم صلّ عليه وعلى آله وصحبه عدد ما كان وما يكون.

لله في الآفاق آيات لعـــــــــل

أقلها هو ما إليه هـــــــــداك
ولعل ما في النفس من آيــاته

عجب عجاب لو ترى عيناك
والكــون مشحون بأســرار إذا

حاولْتَ تفسيرًا لها أعيــــاك
قل للطبيب تخطَّفته يد الردى

من يا طبيب بطبِّـــه أرْدَاك؟

تحملنا ذكرى الإسراء والمعراج على جناح الشوق إلى رحاب ذلك التكريم الإلهي الذي خصّ به المولى الكريم سبحانه عبده ونبيه وحبيبه محمدا بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.

إنّها رحلة عجيبة لم يسبق لبشر أن حظي بمثلها. وإنّها لدعوة ربانية لزيارة الملأ الأعلى والسياحة في ملكوت ربّ العالمين.

إنها رحلة أذهلت وأعجزت -وما زالت- عقول أعداء الإسلام لدرجة تكذيب حدوثها، ونعتها بالخرافة، مستهزئين بمن يتحدّث عنها كمعجزة من معجزات النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.

لقد أبهرت حادثة الإسراء أهل مكّة لدرجة أن ارتدّ بعض من قد كانوا آمنوا برسول الله ﷺ … فقد كان الخبر فوق إدراك عقولهم الصغيرة. إذ كيف لرجل أن يسير في جزء من الليل مسافة يقطعونها هم على أظهر الإبل في شهرين؟

ما علم المساكين أنّ الله على كلّ شيء قدير، وأنّه خلق الخيل والبغال والحمير والإبل ليركبوها متفاوتة في سرعتها، مختلفة في أشكالها، وخلق كذلك ما لا يعلمون.

حقّا؛ لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج مليئة بالعجائب والأسرار، حبلى بالحكم والأنوار. ولقد أخرج الله تعالى حبيبه المصطفى المختار، من ضيق الحصار، وعتمة ظلم الكفّار، إلى سعة الملكوت فرأى عجيب صنع ربّه العزيز القهّار.

وكأنما يقول له لا يُهمّنك أمر هذه البقعة الصغيرة من ملكنا، ولا يشغلنّك عنّا كفر وعناد هؤلاء الرهط من خلقنا، فإنّك بأعيننا. فنحن نملكهم وما يملكون. انظر إلى الآفاق حولك وتأمل، ولا يصيبنّك اليأس والملل، اصبر وتحمّل، توكّل علينا ولا تعجل، احلم عليهم ولا تجهل، واحمل دائما في قلبك الأمل، فنحن ما غضبنا عليك ولسنا نفعل، فأنت حبيبنا وخليلنا وأنت في خلقنا الأفضل، أنت المحمود ومقامك محمود وأنت خير مرسل.

عجيب كيف سافر وانتقل! عجيب كيف جمعت له الأنبياء والرسل ! عجيب كيف عرج إلى السماوات العلى ففتحت له أبوابها ودخل ! عجيب كيف التقى بربّه عزّ وجلّ ! عجيب كيف خلع عليه الحُلل والنِّحل ! عجيب كيف ارتقى ونزل ! عجيب كيف عاد إلى فراشه فوجده دافئا لم يَزَل ! وعجيب… عجيب أمر ابن أبي قحافة الذي ما ضلّ ولا زلّ، وظلّ على إيمانه وتصديقه ثابتا كالجبل !

لله درّ أبي بكر

رجل وأي رجل!

رجل سبقت له من الله الحسنى، فعرجت روحه يوم عُرج بحبيبه وخليله وقدوته مولانا رسول الله ﷺ، فبلغ مقاما قلّ الواصلون إليه، وحلّ ثانيا في ترتيب من أنعم الله عليهم.

فإذا كان ضعاف الإيمان والشّاكون والمشكّكون قد اعتبروا هذا الأمر كذبا وبهتانا، فإنّ سيدنا أبا بكر ما زادته الحادثة إلا تسليما وإيمانا.

ولنترك الكلمة لأمنا عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها تحدّثنا عن هذه الواقعة:

«لما أُسرِيَ بالنبيِّ إلى المسجدِ الأقْصى، أصبح يتحدَّثُ الناسُ بذلك، فارتدَّ ناسٌ ممن كانوا آمنوا به وصدَّقوه، وسَعَوْا بذلك إلى أبي بكرٍ، فقالوا: هل لك إلى صاحبِك يزعم أنه أُسرِيَ به الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدَقَ، قالوا: أو تُصَدِّقُه أنه ذهب الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ وجاء قبل أن يُصبِحَ؟ قال: نعم إني لَأُصَدِّقُه فيما هو أبعدُ من ذلك، أُصَدِّقُه بخبرِ السماءِ في غُدُوِّه أو رَوْحِه، فلذلك سُمِّي أبو بكٍر الصِّديقَ» 1.

حدّثوه عن الإسراء، فحدّثهم عن المعراج.

كانوا يظنّون أنّ أبا بكر مثلهم يظنّ برسول الله ﷺ الظنونا، وما علموا أنّ قلبه قد امتلأ إيمانا وتصديقا ويقينا.  

«لئن كان قال ذلك لقد صدَقَ» هذه التي رفعته إلى مقام الصديقية.  

لقد سعوا للإيقاع بينه وبين حبيبه رسول الله ﷺ، وأخبروه بخبث قائلين: «هل لك إلى صاحبِك يزعم أنه أُسرِيَ به الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ؟» وما يشكون أنّ هذه ستكون القطيعة بينهما، إذا ما اكتشف كذبه. لكنّه فاجأهم بقوله: «لئن كان قال ذلك لقد صدَقَ». أي ما أخشاه هو أن تكذبوا أنتم عليه وتنسبوا إليه -زورا- ما لم يقل، أمّا إن صدقتم وكان ما أخبرتموني عنه حقّا، فوالله ما زادني ذاك إلا تصديقا وتسليما. فقالوا: «أو تُصَدِّقُه أنه ذهب الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ وجاء قبل أن يُصبِحَ؟» فأجابهم: أنا أصدقه في أبعد من هذا بكثير؛ أنتم لا تصدقون أنّه قام برحلة أفقية إلى بيت المقدس في جزء من الليل، وأنا أصدّقه في رحلة عمودية يصله بها خبر السماء في غدوة أو روحة.

ما أحوجنا اليوم، وقد تداعت علينا الأمم من كلّ جانب، تنخر معتقداتنا، وتتّهم ثوابت ديننا، وتشكّك في كتاب ربّنا، وتمتري في حديث نبينا، إلى إيمان كإيمان أبي بكر، إلى قاعدة سلوكية نافعة رافعة دافعة: «لئن كان قال ذلك لقد صدَقَ».

لا يهمنا –ما دام قد قال- إن كان قوله يوافق أم لا، النظريات العلمية أو التجارب المعملية للغالب بالسيف المتمكّن من العلوم الكونية، المالك لزمام التكنولوجيا العصرية، المتحكم في رقاب النّاس بما معه من قوة عسكرية وهيمنة اقتصادية وسيطرة سياسية. إنه ﷺ المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، والصادق المصدوق الذي لا يتطرق إلى كلامه كذب، وكفى.

رضي الله عن الإمام الشافعي فقد جمع وأوجز حينما قال: «آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله» 2.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.


[1] رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، رقم: 4461.
[2] كتاب لمعة الاعتقاد لابن قدامة، مجلد 1، ص7.