كيف تكتمل شخصية المومنة؟

Cover Image for كيف تكتمل شخصية المومنة؟
نشر بتاريخ

ما أحوجنا ونحن في غثاثة أنفسنا ومأزق أمتنا وخمول إرادتنا وفداحة ابتلائنا إلى مثال قوي، إلى نموذج حي منتصر جاهد نفسه فطوعها لتسير مجاهدة في سبيل الله، ولتكون لمن خلفها قدوة وسراجا منيرا، يستنير به كل غارق في ظلمات بحر الدنيا، وينتقل من ضلال السعي في الدنيا للدنيا، ومن الاستهلاك في الدنيا مع بنات الدنيا وأبناء الدنيا، إلى السير المهتدي، إلى إرادة الآخرة، إلى إرادة وجه الله عز وجل، بعلم إمامه العمل لتعميق المعرفة به سبحانه وللترقي في مدارج الآخرة. هذا العلم وسيلته الأولى الصحبة بما هي: “سماع فطري وصحبة عملية، وملازمة وأخذ عن أكابر العلم الإيمان” 1 تستلهم بصحبتهم الصحبة النبوية، في تجسيد معاني الأخوة والمحبة في الله، وتنشد الكمال الذي وصل إليه الصحابة والصحابيات الجليلات، ونحن أحوج ما نكون ليعرف كل مؤمن منا ومؤمنة معايير التربية الإيمانية التي تربوا عليها، وطرائق تجديد الإيمان في القلب، حتى يستيقظ الحافز الجهادي في النفوس ويستنير العقل المؤمن بنور العلم الذي به ندبر الجهاد.

ما هو الكمال؟ وأين نبحث عنه؟

الإنسان المثال يُبحث عنه بين من تلقوا العلم مباشرة عن الله عز وجل؛ هم الرسل عليهم السلام، خلفاء الله وأحباؤه، ويبحث عن النموذج المثال بين من تلقوا ومن تلقين عن رسل الله العلم، ذاك العلم الذي يربط الروح بخالقها، ويهتم بالحياة الخالدة، يسير بها إلى الجنة ويجنبها النار.

وما سمي الصحابة صحابة إلا لمعيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحبهم له، في أحضان النبوة تربوا، ومنها رشفوا واستقوا، حتى تفجرت في قلوبهم ينابيع الإيمان وكانوا أبر الناس قلوبا وأعمقهم علما، ذاك سر التربية النبوية التي خرجت كبار الصحابة، عظماء الأمة، نخبة الإنسانية حتى صاروا خير القرون بالأحاديث الصحيحة.

لكن هل يكفي أن نذكر الناس بالمومنين الأولين الذين جاهدوا تحت لواء الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين؟ أولئك أعدوا ما استطاعوا من قوة على مستوى عصرهم، ونحن مطالبون بتغيير واقع الفتنة، لابد أن نحسب حساب الواقع، ونتعلم كيف نقتحم، سباقا مع أبناء الدنيا، عقبات كسب القوة في الدنيا، وعين القلب على من جعلهم الله لنا أسوة، تلك التعبئة الجهادية وحدها تعز بها الأمة ويشرف بها مثوى المومنات والمومنين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر 2.

كيف نرقى إلى هذه الشخصية الكاملة؟ وماهي وظيفتنا الرسالية؟

منطلقات بانية:

قبل الحديث عن الوظيفة لابد من التركيز على مجموعة من المنطلقات البانية أساسها فهم ديننا على أنه مراتب ومدارج، ثم بناء الشخصية القوية المتكاملة للمؤمن والمؤمنة والتي تنطلق من تحرير إرادتهما من شرك النفس ومن شرك التقاليد والعادات والأنانيات، ومن الانغماس في حب الدنيا، لطلب وجه الله تعالى بما من عليهما من وقت وجهد ومال وقدرات، ثم أن يتحليا بالأخلاق النبوية الكريمة، وأن يتخليا عن الطباع الجاهلية الموروثة، ويعملا على اكتساب حظ من العلوم والتكوين، مع استحضار أن مشروعنا موجه للأمة مما يتطلب أن يكون العلم بالله هو المفتاح الأول.

الوظيفة الأولى: فهم الدين والارتقاء في مدارج الآخرة

أول مراتب الدين الإسلام، والإسلام أركان خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلا. هي بديهيات عند كل مسلم، ومن النخبة المثقفة الطافية على السطوح المغربة عن دين آبائها من هذه البديهيات عنده آثار عتيقة وموروث شعبي لم يتنور بعد.

لتعلم المسلمة أن بيت دينها خراب إن كانت أركان إسلامها نفاقا، وشهادة زور، وتركا للصلاة، وبخلا بالزكاة، وصوما لئلا يقال، وحجا لتلقب حاجة، وذاكرة تاريخية عن عهد مضى وانقضى… بل الإسلام اعتراف بالقلب، ووفاء بالعمل، واستسلام لما أمر الله به ورسوله.

ولتفهم المومنات أن دينهن مدارج ومعارج للترقي في درجات الآخرة والقرب من الرب الرحيم سبحانه، روى الترمذي في حديث صحيح عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، فقد استكمل إيمانه”. وهذا الحديث يضع في المرتبة الأولى من الاعتبار إخلاص العمل لله عز وجل، ويحيلنا على الحديث العظيم الذي يعتبر من أسس الإسلام وقواعد الإيمان ودوافع الإحسان، الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى…” (رواه الشيخان وغيرهما).

ومن الوسائل المعينة على بلوغ الإيمان واستكماله؛ صحبة تدلك على الله، وذكر لله، وصدق مع الله. والذكر ليس فقط مناجاة في الضمائر وكلمات على اللسان وشعائر ظاهرة يعظمها المؤمن، بل الذكر وقوف بين يدي الله صفا في الصلاة، وصوم عن المعاصي والهفوات، وحج إلى الله هروبا من حال الغفلة والهذيان إلى طاعة الله وحسن عبادته وتنفيذ أوامره. فكمال الإيمان هو كمال المؤمنة في معناه، وما تحصله المؤمنة في “مجموعها” من التحلي بصفات الإيمان والتخلق بشعبه، وهو كمالها الذاتي الذي تبعث على صورته إن ختم الله لها بالحسنى، وهو مقامها عند الله أبد الآبدين. فإذا اكتمل الإيمان من كل جوانبه واستمد قلب المؤمنة من كل شعبه ارتفع إلى الإحسان.

فما هو الإحسان؟

لفظ “الإحسان” يدل على معاني ثلاثة ورد بها القرآن والسنة:

“الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.

– الإحسان إلى الناس: كالوالدين والأقربين واليتامى والمساكين والمسلمين وسائر الخلق أجمعين.

– إحسان العمل وإتقانه وإصلاحه، سواء العمل العبادي أو العادي أو المعاملاتي.

فالإحسان رتبة في الدين ودرجة في التقوى، درجة ثالثة بعد الإسلام والإيمان، فوقهما، بناء عليهما، لا تحليقا، لا إيمان بلا إسلام، ولا إحسان بلا إيمان، يعني لا إحسان بل لا إيمان، لمن لا يتقن فرائض وأركان الدين وأبجدياته؛ صغار الأمور قبل كبارها.

فهم الدين وتمثله في سلوكنا عقبة تقتحم، والوعي بمسؤولياتنا ووظائفنا الرسالية عقبات متعددة المظاهر.

الوظيفة الثانية: جهاد التعبئة والبناء

ماذا ينتظر المومنات لكي ترفع هممهن متجاوزة الهموم المقيمة؟ وهل يستطعن الخروج من ربقة المظلومية والرق والفقر والتهميش ليشاركن في اقتحام العقبة؟

على المومنات جهاد لاقتحام عقبات التقاليد، وعوائق العقل الذي ينبغي أن لا ينقاد إلا للحق، وعوائق العادات والأنانيات والذهنيات المتخلفة، ليخضن جهادا لا يخوضه غيرهن ويتغلغلن في الواقع، ويصبحن فعلا حاضرا ومؤثرا ناجحا له نتائج واضحة وقاصدة ومتقنة. “التعبئة جهاد نفس، إصلاح ذات قبل مناداة غير” 3، إصلاح ذات بتحريرها من أسر الشهوات وأسر شرك الدنيا وشرك التقاليد والعادات.. ينبغي للتربية الإيمانية الإحسانية أن تربط جهاد النفس لترويضها على الحق بجهاد العلم والعمل، هذا العلم مضمونه ولبناته: الخصال العشر وشعب الإيمان؛ وواسطة عقدها خصلة العلم مع صاحبتها خصلة العمل، وذروة سنامها الجهاد في سبيل الله. معناه أن حظ المومنات من الجهاد هو التعبئة للاهتمام بقضايا الأمة والانصهار فيها والتهمم بأحوالها والاهتمام بقضايا المسلمين حتى تصبح وتمسي وهمها الله والدار الآخرة، هموم الأمة حاضرة في كيانها ووجدانها، وهمّ الله حاضر في واقعها، فتنبعث للعمل والبناء تمثلا لقوله صلى الله عليه وسلم: “من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”.

الوظيفة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ومن كمال المومنات الجهادي في التعبئة والبناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك واجبهن السياسي، والعمل للمدى الأبعد وتعبئة الأمة وصناعة المستقبل واجبهن المصيري. فعموم القرآن أهاب بالمومنات إلى تعبئة شاملة تدعمنها بما يفيض من وقتهن وجهدهن بعد أداء واجبهن التربوي الأساسي، وليست تربية الأجيال إلا ترسيخا للمعروف وإبادة للمنكر. فالمرأة تزاول السياسة في البيت والمدرسة والمعهد والجمعية وميدان الشغل والكسب لمن كانت كاسبة أسمى ما تكون السياسة.

ما تنسخ مسؤولية المرأة في بيتها مسؤوليتها خارجه إلا كما تنسخ سائر التكاليف الشرعية عنها، وهي لا تفعل، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليفان على المرأة منهما مثل ما على الرجل، مثل ما عليهما من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله، لو جاز للمرأة أن تترك الصلاة أو بعضها بدليل الحديث الحكم الذي وزع المسؤوليات وعين الرعيات: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، لجاز لها أن تنسحب من ساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية مشتركة بين الرجال والنساء، هما العمل التضامني الذي يوقف الولاية بين المؤمنين والمومنات على قدم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ركنان من أركان الإسلام، وطاعة الله ورسوله أمراً بالمعروف ونهيا عن المنكر ولاية إيمان. تدخل الصلاة وتدخل الزكاة في طاعة الله ورسوله كما يدخل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دخولا اندماجياً لا فصل معه بين الدين والسياسة، الدين سياسة والسياسة دين، والمرأة المؤمنة كالرجل المؤمن نصيبها من المسؤولية السياسية مثل نصيبه مع اعتبار الدرجة التي خولها الله له ليقود السفينة.

خاتـمة

“إن اصطفى المولى عز وجل المومنة كانت منبتا وأصلا للبذور الطيبة، ومنبتا للشجر الطيب… اكتمل فيها الوعي وتكامل بين وظيفتها الأمومية، وجهادها الحركي، وإعدادها القوة للتغيير” 4. إلى هذه النماذج الكاملة من بنات البشر تشرئب أعناق المومنات، وإلى جهاد يلحقهن بهن على درجة من الكمال، يتعبأن ويعبئن أجيالا، باحتذاء النماذج الأكمل، وهم الرسل عليهم السلام وبصحبتهم والاتصال بهم أمهات وزوجات وبنات، نالت مريم وآسيا وخديجة وفاطمة وعائشة كمالهن.

فكما يصطفي الله عز وجل من الرجال عباداً، يصطفي من النساء إماء، وباب كرمه مفتوح للمرأة كما هو مفتوح للرجل، وكما اصطفى سبحانه وتعالى نساء ورجالا من الأولين، فهو جدير بأن يصطفي رجالا ونساء من الآخرين، وإن طاعته سبحانه وعبادته والقنوت إليه والجهاد في سبيله هي الأعمال التي تشرف بها المرأة ويشرف الرجل لأنها أعمال خالدة، تموت الحضارات ويبعث الخلق فرادى، ما يجدون عند مولاهم إلا ما قدموا.


[1] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 1، ص 114.
[2] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، طار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 2، ص 256.
[3] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، م. س. ج2، ص 305.
[4] تنوير المومنات، م. س. ج 2، ص 215.