كريمة اليتيمة

Cover Image for كريمة اليتيمة
نشر بتاريخ

دخلت كريمة إلى قاعة الدرس بخطى متثاقلة تجر نعلا أخذ منه الزمان مأخذه؛ لا لفقر وفاقة بل ليأس وعدم اهتمام، يحمل رأسها الصغير المدور المكسو بشعر كستنائي جميل جسد هزيل كأن كل عوادي الزمان أنهكته، فقَدَ نضارته وقوته، وشحب لونه حتى صار إلى الموت أقرب منه إلى الحياة. تدور عيناها الواسعتان يمنة وشمالا كأنها تستجدي الغياث والحب والاهتمام.

لاحظت حليمة معلمتها في المستوى الإعدادي تغيرها اللافت في الآونة الأخيرة خاصة بعد وفاة أمها المفاجئ، ثم أبيها بعد مرض عضال انقض عليه وهو بعد في فورة القوة والشباب… موتٌ قلَب كيانها رأسا على عقب حتى اعتقدت أن الحياة بعد منبع الحياة لغو وترف، ما قيمة الاستمرار في دنيا رتيبة مملة بعد هذا الفقد الكبير؟! من يملأ قلبها الفارغ الذي كان يتربع أبواها فيه بامتياز؟ من يعوضها حنانهما؟ من يربت على كتفها الهزيل الذي لم يعد يقوى على الاستواء؟ من يوقف العبث الذي أصبحت تتجرعه في حياة بلا معنى؟ من يعيد إلى محياها بسمة الطفولة التي غادرت مبكرا؟ من تسر إليه بخبايا قلبها الصغير وبأحداث اليوم والليلة فيوجه ويرشد مثلما كان الغاليان يفعلان بلا كلل ولا ملل؟

كأن الحياة قد توقفت مرغمة وإن بقيت في جنباتها أشباه أرواح تطير، وأشباح أجساد لا تراها إلا كليلة كما شبحها، عليلة لا تقوى على المسير، آه ثم آه فآه… لو بقيت الغالية تزين الحياة برقتها وخفتها وحكمتها وحنكتها التي جعلت منها ملاذ العائلة الدافئ وحضنها الكبير، لو بقي الرجل الشهم الجواد يحنو ويكرم كأنه الريح المرسلة في العطاء.

لكن هيهات هيهات أن يعود الحبيب إلى محبوبه وقد لفه التراب ولم يعد إلا أثرة من ماض بعيد، ذكرى صورة تزين حائطا تغيرت ملامح طلائه حزنا وكمدا لفقد سيدة الدار، وزاد سوءا بعدما ذبل الأب ثم ذهب لغياب شقه الجميل.

أصبح البيت جزءا من المقبرة التي اعتادت زيارتها لمناجاة الغالية وهي تجر أخاها الصغير؛ بلا طعم أضحى حينما توالت مصائبه، قفرا يعلوه النحيب كل حين، وتتدفق على جنباته مشاعر الحزن والكمد وأنين البعاد الدائم.

كأن أباها الذي كان إلى زمن قريب كالطود الشامخ يتهاوى تحت وطأة الانجراف المهول، ذب الهزال بغتة إليه وكأنه ليس هو، احدودب ظهره كأنه في خصام مع قدر أفقده من يحب، فقد بريق عينيه اللامعتين وتولى عن الكل وهو كظيم أسفا على الغالية، فما من صباح بئيس حتى نعته ممرضة قسم المرض الخبيث… ذهب هو الآخر إلى حيث لا عودة، أتم الشرخ وحكم على لمة الأسرة الناقصة بمؤبد الحَزَن، وكأن الحبيبين قد تواعدا على اللقاء القريب… شهر وحيد والتقيا بعد فراق وجيز، ومن بقي لأسيري الدنيا؟ من لي ولأخي الذي لا يتجاوز عمره أصابع اليد الواحدة؟ كيف ألملم شعثه وقد علاني الشعث كلا؟ كيف أصونه وقد تركه الغاليان أمانة دون أن يوصيا؟ وهل أنا قادرة على حمل نفسي حتى أحمل من سواي؟

كيف لا أفعل وهو بقية خير الوحيدة التي تذكرني بمن أحب؟ تذكرني أننا في ذات يوم كنا أسرة متماسكة متوادة جميلة تفيض بالحنان قبل أن تتحول إلى ركام. لكن ما السبيل؟ مهمة شاقة لا أجدني أتقن تفاصيل إنجازها على أكمل وجه؟ هل أترك الدرس لأعتني بأخي اليتيم؟ وأي يتم أعظم من يتم من لم يدرك الحلُم؟…

دخلت كريمة الصف هذه المرة بنية المودع الذي لا ينوي العودة مرة أخرى… حز في نفسها أن تنقطع دون إعلام معلمتها التي لم تبخل عليها يوما بنصح ولا توجيه، حز في نفسها أن تفطم نفسها من دروس تنور عقلها وقلبها بالجديد المفيد، شق عليها أن تغادر بلا سلام ولا إعلام، لا تقوى على ترك جنبات مدرسة شهدت ملاحمها الطفولية في الركض واللعب في فترات الاستراحة مع قريناتها اللواتي لا يزال آباؤهن معهن على العهد، لا تريد مغادرة حلمها الذي تقاسمته مع أبويها في لحظات الأنس التي مرت سريعا… في أن تصير طبيبة تعالج الناس وتسعف الفقراء الذين تعوزهم الإمكانات عن أن ينالوا حظهم من العلاج، والذين تكتظ بهم جنبات وطننا العزيز.

تتذكر عيني أمها المشرقتين المتوقدتين ولسانها اللاهج لها بالدعاء أن يسددها الله الوهاب وأخاها ويحفظهما من كل بأس، ويحقق مرادها وأبيهما فيهما. تتذكر كلماتها التي ما زالت تعزف على مسامعها وكأنها سمفونية الخلود: “الطب مهنة شريفة بنيتي، متشوفة أن أراك ببذلتك البيضاء النقية بنقاء قلبك الطاهر، تواسين الناس وترفعين بإذن الشافي عنهم الأسقام وتخففين الآلام. كدي واجتهدي ولن يضيع الكريم أجر من أحسن عملا”.

ما العمل؟ هل المغادرة خيانة للمشمولين برحمة الله تعالى أو لطموحها ومقصدها من الحياة أو هما معا؟ وهل ستكفي التركة الصغيرة من أجل الاستمرار في تحقيق الأحلام الكبيرة؟ كيف يمكن للدافعية التي خلقتها فيها معلمتها حليمة أن تخبو وتذبل؟

أنجزت المعلمة حليمة درسها التفاعلي المنظم المستحث لمشاركة متعلميها الفعالة في البناء، الذي من عادتها أن تنوع طرائقه حتى لا يدب الملل إلى تلامذتها الذين تحبهم بلا قيد أو شرط، وتحسن استيعابهم واحتضانهم بحب ومروءة، تكد وتجد دائما وتتابع أحدث النظريات في التعليم حتى تنجح في أداء مهمة الأنبياء عليهم السلام: تعليم الناس الخير؛ فتجدها توجه الأنشطة وتضع التساؤلات وتحفز وتشجع وتقوّم حتى تتأكد من تحقق أهداف درسها ونجاح التعلم.

حريصة كانت على معرفة خصائص تلامذتها النفسية وخلفيتهم الثقافية ومستوياتهم الاجتماعية حتى يسهل عليها التكيف معهم، تسائلهم، تعتني بهم، تنمي دافعيتهم للتعلم وتربطهم بالمعالي والأهداف السامية. قد تكون أحيانا صارمة معهم، تلك الصرامة الأخوية التي تحفظ حقهم في التعلم وتؤدي بها واجبها في التربية والتعليم.

لم تحوجها معلمتها عند نهاية الدرس إلى اعتذار ولا اختيار، لكنها خاطبتها في جلسة خاصة بعد خروج فوج المتعلمين، وبصوت أمومي حان يستوعب أبناء الأمة جميعا قائلة: أي كريمة! منذ مدة وأرى انحسارك وتقوقعك على ذاتك، قدرت الظرف وواسيت لكن لابد من الحسم مع مشاعر متضادة تتجاذب عقلك الفتي، الموت قدر الله الذي لا يرد، لكنه لا يعني موت الحياة فينا وانكسار الطموح على صخرة الواقع الذي قد نظن أنه ظلمنا، إن حِكم الله في خلقه كبيرة باهرة ظاهرة، وتعلمين أنني أمك التي لم تلدك، لكنها تحبك حبا لو يعلم أهل العالم مقداره لقاتلونا عليه بالسيوف. اعلمي حبيبتي أن الله الحكيم لا يضرب بِعَصَوَين، ولا يمنع إلا من أجل أن يعطي، فهلا قبلت بي وأخوك أمّا بعد أمكما وبزوجي أبا بعد أبيكما؟ نرعاكما ونحسن إليكما ونجعلكما بمثابة أولادنا الذين لم نرزقهم لحكمة أرادها الله سبحانه. أمومتي وأبوة زوجي لكما لن تنسيكما أن لكما أبوين كريمين كانا سببا في وجودكما وتربيتكما الحسنة الصالحة، لكنهما ستكونان استمرارا لمجهوداتهما في أن تكونا ولدين صالحين مكتملي الرجولة، قادرين على تحقيق طموحكما الغالي في نفع الأمة وتضميد جراحاتها المتراكمة. أمومتي وأبوة زوجي عنوان حب ومودة ووئام إن رضيتما بهما استكملنا إجراءات تحققه واقعا.

اغرورقت عينا كريمة بالدموع الساخنة التي نزلت مدرارا من عينين هرأتا من شدة النحيب، وارتمت بقوة على صدر طالما استوعب ضعفها ولملم جراحها وأرشدها في طريق مليء بالنتوءات، وهي تتمتم: “أية امرأة يمكن أن تخفف لوعة الفقد أحسن من مدرستي حليمة الحليمة، ما زال في العالم خير موصول…”.

وكذلك كان، فكريمة اليوم شابة نضرة في أوج كمالها العلمي والخلقي، على تربية عالية وخلق نبيل، ارتقت في تخصصها في مجال الطب حتى أصبحت رئيسة قسم، تمارس وظيفتها بصدق وأمانة وكفاءة عز نظيرها، حتى أضحت قبلة لمرضى تحيطهم بالحب والاهتمام، وتخفف آلامهم بحب وتفان. كما أصبح أخوها، كريمُ الخلال طيب الخصال، طيارا مغوارا يجوب البلاد والأوطان، ويؤدي مهامه بإتقان. وقد شكر الله لحليمة الفذة ولزوجها الكفالة بإحسان، وصار بذكرهما الولدان والركبان، واليقين في الكريم المنان… أن يدخلهما الجنان، بوعد غير مجذوذ من سيد الأنام عليه أزكى الصلاة والسلام: “أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين” 1، فكيف بمن كفل اثنين وصانهما وعلمهما حتى نفع الله بهما الخلق والأوطان استجابة لوصية النبي عليه من ربه الحنان أزكى الصلاة وأفضل السلام: “معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر” 2، و”العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة” 3، و”إنَّ الله و ملائكته، حتى النملةَ في جُحرها، وحتى الحوت في البحر، لَيُصلُّون على معلم الناس الخير” 4

ودمتم أهلا لكل خير…


[1] وأشار صلى الله عليه وسلم بأصبعيه الشريفين السبابة والوسطى. صحيح الترمذي، من حديث سهل بن سعد الساعدي، رقم 1918.
[2] سنن الدارمي من حديث ابن عباس رقم 355.
[3] المناوي فيض القدير، من حديث أنس، رقم 5705.
[4] صحيح الترمذي من حديث أبي أمامة الباهلي رقم 2685.