قراءة منهاجية لمعركة طوفان الأقصى

Cover Image for قراءة منهاجية لمعركة طوفان الأقصى
نشر بتاريخ

مقدمة

تكمن قوة الحركات المجتمعية الفاعلة في امتلاكها لنسق فكري واضح ترتكز على مبادئه وتنضبط لشروطه بحيث يكون موجها لممارساتها في الميدان، وهذا بالضبط ما يميز حركية جماعة العدل والإحسان وفعلها في الواقع؛ من حيث أنها تستند على تصور منهاجي يؤطر نظريا ويرسم عمليا معالم مشروعها التغييري الذي اقترحه الأستاذ المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله على الأمة والإنسانية جمعاء.

ولعل أهم ما يتفرد به هذا التصور، ليس فقط أنه يقدم إجابات دقيقة وعميقة لأسئلة التربية والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ، وإنما يكمن فيما يحمله من أدوات لقراءة الواقع ومفاتيح لفهم مجريات الأحداث من حولنا.

فماذا يمكن أن تقدمه القراءة المنهاجية لمعركة طوفان الأقصى، هذا الحدث الذي شكل بحق منعطفا تاريخيا وتحولا استراتيجيا في مسار القضية الفلسطينية، وما خلفته من تداعيات على كل المستويات إقليميا ودوليا لم يسبق لها مثيل في التاريخ؟

المحور الأول: قراءة منهاجية في الحدث

تتأسس القراءة المنهاجية على مجموعة من الأبعاد نذكر بعضها: البعد التأصيلي، والبعد الشمولي، والبعد المستقبلي. سنحاول أن نقرأ هذا الحدث من خلالها.

1- البعد التأصيلي

إن ما وقع يوم 7 أكتوبر وما بعدها إلى الآن، لم يكن وليد تلك اللحظة، بل هو حلقة في مسار طويل له امتدادات في الزمن كأقدم وأطول احتلال في التاريخ؛ وهو الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، والأعمق من ذلك ارتباطه الوثيق والمتجذر بالصراع بين الحق والباطل، بين الجاهلية؛ بما هي جهل بمعرفة الله اعتقادا، وتكبر وتعصب وعنف سلوكا، وبين رحمة الإسلام وسماحته وأخوته بين الناس.

إن قضية فلسطين في نظر الإمام المجدد، “بداية المواجهة الحاسمة بين الحق والباطل بين الجاهلية والإسلام، مع الجاهلية تنبؤ يهودي بمملكة صهيون الألفية، ومع الإسلام وعد الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بالنصر المبين“ 1.

2- البعد الشمولي

القراءة المنهاجية حريصة على توجيهنا للنظر في الأحداث من فوق “من أعالي التاريخ” حتى لا نسقط في منزلقات التجزيء والتبسيط، ونضمن بذلك شمولية المقاربة والتحليل. فلا يمكن فصل ما يقع من أحداث في غزة وكل فلسطين عن واقع الضعف والوهن الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية، ففلسطين كانت وما زالت ذلك الجرح الغائر في جسد الأمة؛ يندمل ويلتئم بحسب حالها، فتاريخ الأمة حافل بمحطات سجلت انتصارات مجيدة تارة، ونكبات تارة أخرى. في مقابل ذلك نجد أن الصمود الأسطوري لشعب غزة ومقاومتها أعاد بعث الأمل لدى الشعوب العربية والإسلامية، بله كل الشعوب المستضعفة، التي وجدت نفسها في غزة، وهي الآن تعيش لحظة إعادة اكتشاف الذات واستعادة وعيها الإنساني وطموحها الموءود في الانعتاق من جديد، خصوصا بعد الانتكاسات التي تلت الموجات الأولى من الربيع العربي من جهة، والأزمات العالمية الاقتصادية والاجتماعية والتي كانت من مخلفات كورونا والحرب الأوكرانية وتغول الرأسمالية المتوحشة.

3- البعد المستقبلي 2

تعد الدراسات المستقبلية اليوم مدخلا مهما لا غنى عنه في التخطيط الاستراتيجي، ومن اللافت هنا أن كتب الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله وأدبياته كانت جد متشبعة بهذا الأمر منذ بداياته الأولى، ولعل كتابه الموسوم بعنوان “الإسلام غدا” خير دليل على ذلك. فقد أورد رحمه الله في فصل الجرح الفلسطيني من كتابه “الإسلام والحداثة” مقولة للفيلسوف اللاتيني “سينكا“: “لا يمكن للمركب الذي يجهل وجهته أن يحسن استغلال الرياح المناسبة“، وأضاف معقبا: “فوعد الله هو المنار الذي يوجه إلى شاطئ الأمان ويدل على أنسب الرياح للإبحار، ويبقى علينا أن نحسن استشراف الأفق، ونحذر فخاخ الجزر القاتلة“عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ط 2023/3، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستانبول، ص 109..

إن معركة طوفان الأقصى كما أن لها سياق في الماضي فإن لها مآلات في المستقبل القريب المرتبط بالمنعطف الذي ستعرفه القضية الفلسطينية بكل ملفاتها الحارقة، بما فيها حصار غزة وملف الأسرى ومستقبل السلطة في الضفة الغربية والقدس، والمستقبل البعيد المرتبط بموعود الله عز وجل وبشارة نبيه صلى الله عليه وسلم: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (سورة القصص، الآية 5).

المحور الثاني: تداعيات الحدث على الرأي العام الغربي

لعل من أهم الدروس المستقاة من كل التجارب التاريخية في التغيير والحراكات المجتمعية، أن الشعوب قادرة وفي أي لحظة على نصرة ودعم قضايا الحق، والانحياز اللامشروط لكل القضايا العادلة، بالرغم مما يمارس عليها من تمويه وتدجين وتخويف.

فلا غرابة أن نرى اليوم هذه الحشود من الناس تملأ الساحات والشوارع، وتعلو أصواتها بهتافات وشعارات داعمة لأهل غزة ومقاومتها، ومنددة بالمجازر الوحشية التي يرتكبها الكيان الصهيوني الغاصب، وفاضحة لتخاذل الأنظمة الرسمية وتلكؤ المنتظم الدولي الذي يكيل بمكيالين.

بلا شك أن هذا الغليان الذي تعرفه الشعوب اليوم مؤشر إيجابي على أن ثمة تحولات مهمة في الرأي العام الغربي اتجاه القضية الفلسطينية، وبداية أفول السردية الصهيونية التي كانت منتشرة هناك، ففي مخيلة المجتمع الغربي كانت “إسرائيل“ دائما تلعب دور الضحية باستغلال نفوذها في وسائل الإعلام الرسمية وتوظيفها لمحرقة الهولوكوست بشكل مبالغ فيه لحشد العالم من حولها، فهي ومنذ تأسيسها تحاول جاهدة وبكل الوسائل صنع علاقات عامة مؤثرة ونافذة دوليا، لأنها تخاف من العزلة الدولية بقدر خوفها من التهديد الأمني لكيانها.

فالتحولات التي شهدتها الثورة الإعلامية الرقمية والانتشار الواسع لمنصات التواصل الاجتماعي وإحلاله بديلا للإعلام التقليدي الرسمي، أصبحت تكشف لدى المجتمعات الغربية وخصوصا الشباب الصورة الأخرى للأحداث، وأن هناك رواية مقابلة للرواية الصهيونية.

إن وعي المقاومة بأن هناك بالموازاة مع كل معركة عسكرية معركة إعلامية مرافقة لها يستوجب إدارتها وهندستها بنفس الدقة والتركيز، مكنتها من القيام بأدوار طلائعية منذ حرب غزة 2015، حيث نجحت في إيصال المشاهد الحقيقية على الأرض، والتي تنقل بالصوت والصورة الممارسات الوحشية التي يرتكبها جيش العدو الصهيوني في حق المدنيين العزل، وحجم الدمار الذي تحدثه آلته العسكرية في المنشآت العامة الحيوية من مدارس وجامعات ومستشفيات ودور العبادة وغيرها. كل هذا ساهم في زعزعة التمثلات والتصورات والأفكار لدى طبقات مختلفة في الغرب اتجاه قضية الشعب الفلسطيني ومقاومته التي كانت تنعت غير بعيد بأنها “إرهابية“.

“إن من يمتلك أدوات الإعلام يمكنه إعادة صياغة الأحداث ورفع معنويات جهته وخفضها لدى العدو” كما يقال؛ وعليه يمكننا أن نجزم استباقيا أن المعركة الإعلامية المرافقة لمعركة طوفان الأقصى على الأرض، قد حققت انتصارا ساحقا ومشهودا وعابرا للحدود، مادامت أنها استطاعت في ظرف وجيز أن تعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث عبر العالم. وأنها ما زالت تكتسي رمزية سياسية قوية وقادرة على إشعال موجات عارمة من الغضب في مختلف أرجاء هذا الكون.

المحور الثالث: أي موقع للمرأة ضمن هذه الأحداث؟

أستهل هذا المحور بآخر تحديث للإحصائيات التي ترصد ما خلفته المجازر الصهيونية التي خلفت إلى حدود الآن أكثر من 31 ألفا بين شهيد ومفقود، 70 بالمائة منهم من النساء والأطفال، وتم التشطيب على عشرات العائلات بالكامل من السجل العائلي.

وقدرت هيئة الأمم المتحدة للمرأة أن والدتين تقتلان كل ساعة، و7 نساء كل ساعتين، وأن هناك ما يقرب من 493 ألف امرأة وفتاة تم تهجيرهن من منازلهن، كما تزايد عدد الأرامل، حيث أصبحت نحو 900 امرأة تعيل أسرهن بعد فقدان الزوج أو الأب.

ناهيك عن المعاناة اليومية التي تعيشها هاته النساء والفتيات اللواتي فقدن أسرهن جزئيا أو كليا، خصوصا في ظل حالة النزوح بحثا عن مكان آمن، وإن كانت هذه العبارة لم يعد لها وجود ولا معنى في غزة الآن.

دون أن ننسى المآسي الصامتة التي لا تصلها عدسات الكاميرا، ولا تستطيع تغطية صحفية مهما بلغت من المهنية والاحترافية أن تنقلها للمشاهدين، والتي نتحرج للتطرق إليها في هذا المقام.

وقد حذرت هذه الهيئة مرارا وتكرارا أن هذه الأوضاع في تفاقم متزايد في ظل استمرار القصف الهمجي، داعية إلى ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار للأغراض الإنسانية وإيصال الإغاثة دون عوائق، بما في ذلك الغذاء والمياه والوقود والإمدادات الصحية الضرورية لبقاء النساء والفتيات في قطاع غزة على قيد الحياة.

إن كل ما ذكر ومالم يذكر يدعونا للقول بأن المرأة الغزاوية خاصة، والفلسطينية عامة، هي المستهدف الأول والأخير من هذه الحرب وسابقاتها من حروب الإبادة الجماعية، على اعتبار أنها تشكل تهديدا حقيقيا واستراتيجيا لهذا الكيان الغاصب، لأنها هي من تربي المقاوم ابنا وتحتضن المقاوم زوجا، فهي جزء لا يتجزأ من المقاومة نفسها، وهي الضامنة لاستمراريتها عبر الأجيال.

لقد ساهمت المرأة الفلسطينية تاريخيا في حماية الأرض؛ عن طريق جمع التبرعات لشراء الأراضي المزمع بناء مستوطنات عليها، كما كن يبعن ذهبهن بغية شراء الذخيرة، وشاركن بحمل السلاح ونقله. ونجحت المرأة الغزاوية الأسطورة بإرادتها في تحدي قيود الحصار، واستطاعت تنشئة جيل هو اليوم يضرب نموذجا للصمود في أرقى صوره.

وهنا لابد أن نفتح قوسا لنشير إلى موضوع في غاية الأهمية والخطورة، وهو أن الكيان الصهيوني لم يكتف طيلة مدة الاحتلال بخوضه حروبا عسكرية ضد الفلسطينيين، بل إنه لم يتوقف أبدا منذ تأسيس “دولته” عن خوض حروب ديموغرافية ممنهجة في مواجهة التزايد المطرد لأعداد الفلسطينيين سنة بعد سنة.

فليس من المستغرب أن يثير التهديد الديموغرافي من أعداد الفلسطينيين المتزايد هواجس الكيان الصهيوني، حيث عمدت حكوماته طوال عقود ماضية على توفير برامج تشجع الأسر على الإنجاب وتسهيل العلاجات المرتبطة به.

من هنا نفهم أن المخاوف الديموغرافية هي التي فرضت فكرة “حل الدولتين“ ضمن مسلسل التسوية، لأنها، وبحسب أحزاب اليسار والوسط، الخيار الأمثل للحفاظ على الدولة اليهودية بدلا من إقامة دولة واحدة ثنائية القومية تكون فيها الغلبة السكانية للفلسطينيين.

وهذا يعني أن التغير السكاني ورقة رابحة بيد الفلسطينيين، خصوصا إذا اجتمع في التكاثر العددي جودة التنشئة والتربية والتوجيه، وهو الأمر الذي حازت فيه الأم الفلسطينية شرف السبق والاستحقاق، وتأكد بالملموس على أرض غزة في معركة طوفان الأقصى.

خاتمة

أختم بسؤال ربما يراود كل متتبع لهذه الأحداث، التي أضحت جزءا من حياتنا اليومية، وغيرت عندنا الكثير من المفاهيم:

هل كانت الإنسانية في حاجة إلى كل هذه الدماء وهذا الدمار لتستيقظ من غفلتها؟

هل كانت تنتظر من الكيان الصهيوني الغاصب أن يخرج أسوأ وأبشع ما عنده من وحشية سادية، لتستوعب الخطورة والتهديد الذي تشكله الصهيونية على شعب فلسطين، بل وكل البشرية؟

نعم، للأسف الشديد لا نملك جوابا إلا هذا، لكنها سنة الله في الكون أن يسخر أحداثا مزلزلة وأقواما من نوع خاص “عبادا لنا“؛ يعيد بهم صناعة التاريخ وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فتكون بذلك عوامل مسرعة تدفع نحو التغيير المنشود.

 يقول الإمام المجدد رحمه الله: “لِطول ما عانت الأمة من تعسفٍ واستبدادٍ فَقَدَتْ حِسَّ المبادرة، وفقدت القدرة على الاستقلال بالفكر والتدبير. جماهيرُ مهزومة أمامَ الفقر والجهل والمرض، أمامَ هم السَّكَنِ، أمامَ الخوف من الحاكم، أمامَ عادةِ الخمول المتجذرةِ، الموروثة” 3.

ويضيف منبها: “إن تحريك الساكن، وإيقاظَ الوسنان، وشحْذَ الكالِّ من الهِمم، يتطلب حركة دائمة، ونشاطا موفورا. حركةَ أجسام، وحركةَ فكر، وحركةَ عواطف، تتناسق لتُحْيِيَ وقتَ العامة النائمَ في الأحلام، المضطربَ بالتوافِه، ولتخاطِب الحواسَّ، وتستفِزَّ الفكر، وتَنْهَض بالإرادة البليدة” 4.


[1] عبد السلام ياسين، سنة الله، ط 2005/2، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ص 119.
[2] 3- البعد المستقبلي الاستشرافي
[3] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ص 41.
[4] المصدر نفسه، ص 43.