قراءة في مكانة الأخلاق والقيم في الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان

Cover Image for قراءة في مكانة الأخلاق والقيم في الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان
نشر بتاريخ

المشروع الدعوي العام لجماعة العدل والإحسان يضع نصب عينيه بناءَ شروطِ ميزة الخيرية في الأمة، خيرية منطلقها ومرماها وضمان استمرارها إنسان قدمه متجذرة في أرض التربية الإيمانية مصدر الخلق الحسن والقيم السامية المحدِثة للتغيير، سواء على مستوى سلوكات الفرد، أو على مستوى الارتقاء بالمجتمع، أو على مستوى التميّز الحضاري للأمة.

وإذا كان هذا هو سعيها، فإن الجماعة لا تدعي قدرتها لوحدها على “حل معضلات المجتمع والعالم من دون إسهامات باقي التصورات على قاعدة الحوار البناء، والتعاون المثمر الهادف” (ص 18). ولعل التركيز على فضيلة الحوار والتعاون ينفي عن الجماعة فرض فهمها للإسلام على غيرها، أو الانغلاق على الذات في تفكيرها أو حركتها، بل يجعلها تتفحص “كتاب العالم والحكمة البشرية” (ص 18)، من أجل الوقوف على المشترك الإنساني الذي تعلن العمل على ترسيخه إلى جانب القيم الإسلامية في مشروعها السياسي، والذي “يمتد أفقه إلى إحداث تغيير تاريخي يتأسس على بناء الإنسان، وتشييد مجتمع العمران الأخوي، وترسيخ القيم الإسلامية والقيم الإنسانية المثلى” (ص 20).

فما المقصود بعملية بناء الإنسان الواردة في الوثيقة؟

وماذا عن مجتمع العمران الأخوي؟

وماهي القيم الإسلامية والإنسانية التي يتم التركيز عليها؟

جعلت الوثيقة من “الإنسان مركز الكون” (ص 20)، وهذه المحورية تفرض أن يكون هذا الإنسان صالحا حتى يكون أهلا لـ”وظيفة الاستخلاف” (ص 20)، وحتى يكون سعيه “في الكون بموجب أخلاقِ التسخير والصلاح” (ص 20)، أخلاقٍ، مُنطلقُها إرادةٌ قوية موجَّهة نحو سياسات التغيير، راسخةٌ ومتجددة باستمرار، بحكم “أن الإنسان هو الفاعل في التاريخ وهو من يصنع السياسة وليست هي من تصنعه” (ص 20). وإذا كان تحصيل صلاح الإنسان، صاحبِ إرادةِ التغيير الموصوفة، لا يقف عند كونه صالحا لنفسه وإنما يتعداه إلى أن يكون صالحا لمجتمعه ووطنه وأمَّته كما تؤكد على ذلك الوثيقة السياسية، فإن الأمر يتطلب فعلا تربويا يشمل مَخبرَ ومَظهرَ هذا الإنسان، “فالتربية.. عملية ديناميكية متكاملة الأركان، تشتغل على إعادة صياغة الإنسان إيمانا ورحمة في قلبه، وفهما وحكمة في عقله، وتوفيقا وسدادا في حركته” (ص 21).

وبهذا تتوطد علاقة الإنسان بربه فيخرج من عباءة عبادة العباد وعبادة الأشياء إلى عبادة رب العباد خالق كل شيء، فيكون حينها مُخَلقا بـخلق “التحرر المطلق” (ص 20)، مهذبةً “علاقتُه بالكون” (ص 20)، فلا استنزاف ولا إفساد للبيئة الكونية، فتغدو جموع “الهمم والعقول والسواعد نحو فعل الخير والتنمية والبذل والعطاء” (ص 20 – 21).

وبما أن المشاريع التنموية في عالمنا المعاصر تركز على متطلبات النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي والاجتماعي والتنظيمي، الذي به يتم تطويعُ الموارد خدمة للحاجات الحضارية والمعيشية والدفاعية، فإن إنسانية الإنسان 1 تُطوَى بين دفّـتي الإنتاج والاستهلاك، فيصبح الإنسان عبدَ رفاهية مادية لا حد لها في إشباع شهواته وغرائزه، ما يجعله فاقدا لمعنى وغاية الحياة. وتجنبا لهذه الخلاصة الأخيرة فإننا نجد أن الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان تنحو نحو رؤية تكاملية تجمع بين المادي والمعنوي حين تؤكد على “أهمية الأبعاد المادية للتنمية، لكن لا (تتصور) تحقيق أي نمو اقتصادي أو تقدم تكنولوجي أو تطور سياسي وتنظيمي دون استحضار الأبعاد التربوية والأخلاقية” (ص 22). فاستحضار الأبعاد الأخلاقية هنا ليس من باب الترف الفكري وإنما هو من صميم نظرة الجماعة لبنية المجتمع الذي تطمح إلى بنائه، حيث تأتي الروابط المجتمعية الجامعة ذات البعد القيمي والأخلاقي لتحصن لحمة المجتمع إلى جانب توفير سبل العيش الرغيد. مجتمع “تتلازم فيه قيم العمل والسعي والإنتاج والإبداع بقيم التقوى والخير والفيض الروحي والتماسك الاجتماعي والتعاون والتكافل” (ص 22). مجتمع سبق أن نظّر له الإمام المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله ووسمه بـ”مجتمع العمران الأخوي” 2، وهو توصيف، توضح الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، “نجمع فيه إلى جانب كل الوسائل المادية للحياة الإنسانية اللازمة لعمارة الأرض وإنمائها والحياة فيها وتجنب الإفساد فيها، معاني الولاية العامة محبة وتعاضدا وتعاونا وتكافلا، على قواعد الأخوة الإيمانية والأخوة الإنسانية” (ص 21 – 22). بهذه الصفات المجتمعية تكتمل الحلقة الثانية من التغيير التاريخي المزمع إحداثه، في تناغم تامٍّ مع سابقتها التي ركزت على بناء نموذج الإنسان الفاعل في مجتمع العمران الأخوي.

وإذا كانت الرؤية المرجعية للمشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان “تقوم على الاتصال بين القيم الإسلامية والحكمة البشرية في تفاعلها مع الواقع الإنساني والاجتماع البشري” (ص 23)، فإن مطلب ترسيخ هذه القيم ينبني على عدة أسس نلخص بعضها فيما يلي (ص 23):

1- ترسيخ للقيم الإسلامية من منطلق تربوي مع تجنب الإجراءات الزجرية؛

2- تبني رؤية نقدية لتجربة “الإسلام التاريخي” 3 والاجتهادات السابقة؛

3- مراعاة متغيرات الواقع وتحولات المجتمع من دون إهدار المقاصد الكبرى.

وفي الأخير، وبحكم أن “جماعة العدل والإحسان حركة إسلامية… وجماعة دعوية تربوية… ثم هي أيضا حركة مجتمعية سياسية مكانها الأساسي والطبيعي هو المجتمع بما هو حاضنة شعبية” (ص 17)، فإن الوثيقة السياسية عرَضت مجموعة من المعالم الكبرى المؤطرة لنظامِ مجتمعِ العمران الأخوي المنشود، حزمة لأمهات المطالب ذات الأولوية القصوى على مستوى الوطن وعلى مستوى الأمة ككل، يلتقي فيها البعد القيمي الإسلامي والإنساني، ويمكن أن تنبثق عنها معظم التفاصيل والإجراءات الفرعية. عرضتها على شكل أهداف عامة للمشروع السياسي للجماعة 4، وعرَّفتها بناء على وظائفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وبما أن بلوغ الهدف الواحد يمكن أن يكون مادة لأكثر من مقاربة تتكامل فيما بينها، فإننا نرى أن الأهداف/المطالب المذكورة في الوثيقة، وبحكم تأثر بعضها ببعض سلبا وإيجابا، يمكن أن تكون أيضا دعامات رئيسية لمشروع تربوي مندمج ومتكامل وهادف يُنفَّذ في فضاء منظم وتحت رعاية مسئولة، يتربى عليه الأفراد بشكل عملي ويطبقونه في محيطهم الأقرب فالأقرب، فيترسخ ليصبح خُلقا جماعيا يضبط العلاقات والسلوكات والأفعال داخل المجتمع على سكة الصلاح، فيتحقق بذلك تخليقُ الحياة الخاصة والحياة العامة على أرضية مشتركة تجعل من مؤسسات المجتمع ومؤسسات الدولة شركاء متناصحين يُقوِّم بعضهم البعض، ومتنافسين في فعل الخيرات.


[1] بمعنى: الجوهر الإنساني والأخلاقي الذي يميز الإنسان، وهي عند كانط هدف الأخلاق وأساس الواجب.
[2] عبد السلام ياسين، “محنة العقل المسلم”، ص 60.
[3] «الإسلام التاريخي» بفتراته البيضاء والسوداء والمعروض على «الإسلام المنزل» والذي به نقيس إسلام كل فترة وكل مرحلة وكل مجتمع وكل حاكم… مجلة الجماعة، العدد السادس، ص 88.
[4] وهي كالتالي: بناء نظام شوري؛ تحقيق العدل؛ صون الكرامة؛ تحقيق الحرية؛ ترسيخ الوحدة والتعاون. الوثيقة، ص 25.