قراءة في المهرجان الختامي لفعاليات الذكرى الأربعين لتأسيس جماعة العدل والإحسان

Cover Image for قراءة في المهرجان الختامي لفعاليات الذكرى الأربعين لتأسيس جماعة العدل والإحسان
نشر بتاريخ

قراءة في المهرجان الختامي لفعاليات الذكرى الأربعين لتأسيس جماعة العدل والإحسان

(مقاربة وصفية تحليلية)

 السياق العام

في القرن الخامس قبل الميلاد وبينما المعلم الفاضل سقراط يجلس بين تلاميذه وهم يتبادلون الكلام ويأخذون ويَرُدُّون ويصححون ويتعلمون، جاء أحدهم وكان وسيما في وجهه وشكله، يتبختر في مشيه، ويزهو بنفسه، فنظر إليه سقراط مَلِيا، ثم قال جملته الشهيرة التي درجت على الألسن: “تكلم حتى أراك”. استخدم سقراط لفظة “أراك” ولم يستعمل كلمات من قبيل “أعرفك” أو “أفهمك”، ولعل المعلم الفاضل صاحبَ المحاورات الوَقّافَ عند المصطلحات والمُوَلِّدَ لمعانيها، لم يستعمل اللفظ اعتباطا بل كان يقصده. ذلك أن أي فرد أو جماعة إنسانية، في غمار معارك هذه الحياة الصعبة والمعقدة، ما لم يُعَبِّرْ عن نفسه بالأشكال التواصلية المتاحة في عصره فسيبقى لا محالة غير مَرئِيٍّ؛ فصوتك يعبر عن وجودك، ويحدد من أنت، ويفصح عما تريد.

على ضوء هذا التوجيه الفلسفي، يجذر بنا اعتبار أن ما قدمته جماعة العدل والإحسان طيلة ثمانية أشهر وهي تحيي ذكراها الأربعين لتأسيسها، وما رسمته من فقرات متنوعة خلال مهرجانها الختامي، بمثابة صوتها الدال على وجودها، والمبرز لصورتها، والمجَلِّي لحقيقتها، والكاشف عن مواقفها في الحاضر والمستقبل. ولعل في هذا الكلام دعوة لكل مهتم بالحركات الاجتماعية ألا يتعقبها فقط في أدبياتها المكتوبة أو ما يُكتَبُ عنها من طرف العدو أو الصديق، وإنما يبذل جهده وَوُسْعَهُ لتتبع أنشطتها وإنجازاتها العملية باعتبار أن هذه الأنشطة خير مُعبِّرٍ عن تَمَثُّلاتِها لمشروعها النظري. في هذا السياق تأتي هذه الورقة لتقدم قراءة تجمع بين الوصف والتحليل؛ وصف ما أُنْجِزَ من أنشطة خلال إحياء جماعة العدل والإحسان لذكراها الأربعين، ثم تحليل معطيات ومخرجات تلك الأنشطة. على ذلك، قسمت الموضوع إلى محورين، يتضمن الأول جردا وصفيا لفعاليات الذكرى وفقرات المهرجان الختامي، ثم يتضمن الثاني تحليلا لهذه الفعاليات ومهرجانها الختامي، لأَعْبُرَ بعد ذلك إلى استنتاج الخلاصات العامة من هذا التحليل.

أولا: عرض وصفي لفعاليات الذكرى الأربعين لتأسيس الجماعة والمهرجان الختامي

أ- عرض وصفي لفعاليات الذكرى الأربعين لتأسيس جماعة العدل والإحسان:

توزعت فعاليات الذكرى الأربعين لتأسيس جماعة العدل والإحسان على جدول زمني قدر بثمانية أشهر، فجاءت على النحو الآتي:

1- الأحد 23 أكتوبر 2022، كلمة الأمين العام الأستاذ محمد عبادي في افتتاح الذكرى الأربعين لتأسيس جماعة العدل والإحسان.

2- السبت 5 نونبر 2022، ندوة فكرية سياسية،  بعنوان “جماعة العدل والإحسان بعيون”.

3- السبت 23 نونبر 2022، ندوة  بعنوان: “قضايا الأمة عند جماعة العدل والإحسان فكرا وممارسة”.

4- الأحد 11 دجنبر 2022، إحياء الذكرى العاشرة لرحيل الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، بندوة قراءة في كتاب الأستاذ عبد الكريم العلمي “السلوك إلى الله عند الإمام عبد السلام ياسين”

5- السبت 24 دجنبر  2022، ندوة بعنوان:  “الاعتقال السياسي بالمغرب: سؤال الذاكرة والكلفة والمآل”.

6- الخميس 5 يناير “نصيحة الوفاء” في موضوع: “الصحبة في الله.. جمع وانجماع على الله“.

7- السبت 08 يناير 2023م ندوة لتقديم كتاب الدكتور أحمد الفراك “صناعة الحرية في التجربة السجنية للأستاذ عبد السلام ياسين”.

8- السبت 04 فبراير 2023 ندوة في موضوع: “الدعوة إلى الله في مشروع العدل والإحسان: منطلقات، تحديات وتجارب”.

9- الجمعة 10 فبراير 2023، جلسة شبابية مفتوحة موسومة ب: ”شبيبة العدل والإحسان؛ منطلقات.. مسارات.. تطلعات“.

10- السبت 18 فبراير، ندوة حول موضوع “القوى المجتمعية وتنمية الوعي السياسي: الأدوار والفرص والتحديات”.

11- الأربعاء 08 مارس 2023، ندوة بعنوان: “العمل النسائي بجماعة العدل والإحسان“.

12- السبت 18 مارس 2023، ندوة بعنوان: “الأمازيغية في المشروع المجتمعي لجماعة العدل والإحسان”.

13- السبت 11 يونيو 2023، المهرجان الختامي لفعاليات الذكرى الأربعين

ب- عرض وصفي لبرنامج المهرجان الختامي لفعاليات الذكرى الأربعين

الافتتاح بالقرآن الكريم/ لوحة الافتتاح (برومو)/ كلمة الوفاء/ تقرير عن فعاليات الذكرى/ أغنية شذى الأربعين/ كلمة الجيل المؤسس/ روبورتاج مسار الجماعة/ قصيدة زجلية/ أغنية فالمدى رحب، يا أمة الرسول/ شهادات من الخارج (كمال الخطيب من فلسطين وفرانسوا بورغا من فرنسا)/ شهادات من الداخل(أحمد وايحمان وعبد الرحيم شيخي)/  وصلتان أمازغيتان لفرقة الأنوار وفرقة إيمولا/ كلمة باسم نساء الجماعة/ روبورتاج صوت الأعصاء، ماذا تمثل لك الجماعة/ كلمة باسم شباب الجماعة/ قصيدة شعرية/  كلمة مجلس الإرشاد/ الختم.

ثانيا: عرض تحليلي لفعاليات الذكرى والمهرجان الختامي

أ- عرض تحليلي لفعاليات الذكرى الأربعين

أولا، يجدر بنا التنويه إلى أن فعاليات الذكرى قد احتضنتها مدن مختلفة في شرق وغرب وشمال وجنوب المغرب، ما يؤكد إشراك كل مناطق تنظيم الجماعة وعدم اعتماد أسلوب مركزية الأنشطة، ما يسمح باستثمار وتوظيف كل الطاقات وتوزيع الجهد، ثم مراكمة التجارب على نفس المستوى بين هياكل التنظيم على امتداد الوطن الحبيب. فبالرغم من الحصار المضروب على الجماعة، وتشميع بيوت أعضائها، يتبين أن الجماعة، بفضل الله سبحانه، وبفضل مرونتها وتنويع أساليب عملها، وابتكار طرق ووسائل عملها، قد تمكنت من تجاوز كل هذه المعيقات، ونجحت في إنجاز أنشطتها بجودة عالية. وهذا النجاح يجعلنا نتساءل ما جدوى الحصار؟ وما جدوى تشميع البيوت؟ وما جدوى منع الجماعة في إطار المساواة بين المواطنين الاستفادة من الفضاءات العمومية؟

ثانيا، كشفت لنا هذه الفعاليات عن تنوع وتوازن وتكامل مجالات الاهتمام داخل جماعة العدل والإحسان، بحيث شملت هذه الأنشطة مواضيع سياسية، واجتماعية، وثقافية، وتربوية دعوية، وتواصلية، وفكرية، وحقوقية. وعلاوة على ذلك نسجل أنها، أي الأنشطة، قد استهدفت معظم فئات المجتمع. أضف إلى هذا أنها جمعت بين التَّهَمُمِ بقضايا الجماعة، وقضايا الوطن الحبيب، وقضايا الأمة. ناهيك عن تناولها لقضايا الماضي والحاضر والمستقبل بمنطق الاعتبار والاستشراف والأمل في غد التغيير.

ثالثا، شدت انتباهنا هذه الفعاليات إلى تنوع المشاركين وانتمائهم إلى تيارات ومجالات فكرية مختلفة، حيث شارك فيها وحضرها اليساري، واللبرالي، والأمازيغي، والإسلامي، واللامنتمي، والسياسي، والمؤرخ، والكاتب، والفنان…الخ. وهو أمر بالغ الدلالة على أن جماعة العدل والإحسان منفتحة على كل أبناء هذا الوطن بِغَضِّ النظر عن انتماءاتهم ما داموا يحملون رسالة الإصلاح ويسعون إليه كل من موقعه ووَفق قناعاته وعلى قدر تطلعاته.

ب- عرض تحليلي للمهرجان الختامي

يمكن اعتبار المهرجان الختامي واسطة عقد فعاليات الذكرى الأربعين، سيما وأنه نجح في التعبير عن الفلسفة العامة التي أطرت مسار إحياء هذه الذكرى، كما أنه استطاع أن يختزل كل القضايا التي عالجتها الفعاليات في ساعتين ونصف، بطريقة سَلِسة، وأسلوب أقل ما يمكن القول عنه أنه سهل ممتنع. إن النظر في برنامج المهرجان الختامي بعين الدارس المستحضر لأدوات التحليل ستقوده لا محالة مواده إلى تسجيل الأمور التالية:

– على مستوى التقديم: تناوب على أدائه الرائع والمحكم والمتطور ثلاثة مقدمِين، شابتين وشاب، ما يبرز الوجاهة التي تحظى بها المرأة في منظومة جماعة العدل والاحسان، وانفتاح شبائبها قبل شبابها على مجال الإعلام يكل وظائفه.

– على مستوى الحضور: وَفَدَ على قاعة المهرجان أعضاء من كل الفئات؛ نساء ورجال، شباب وشبائب، كان من بينهم حوالي 70 بالمائة من الوجوه الجديدة أو غير المألوفة والمعروفة، ما يؤكد تجدد الدماء باستمرار في شرايين الجماعة، كما يؤكد توسع دعوتها بشكل مطرد، وتغطيتها لكل فئات المجتمع. فضلا عن ذلك فإن هذا المعطى يبرز وبشكل رمزي التواصل الفعلي الذي تكرسه وتؤكد عليه قيادة الجماعة بين كل أجيالها. دون أن يفوتنا التنويه بمشاركة فئة ذوي الحاجات الخاصة في فقرة من فقرات البرنامج بكلمة ووصلة شعرية، لأديب وشاعر فازت قصيدته بمناسبة الذكرى عن جدارة واستحقاق، وهو ما يؤكد إيلاء الجماعة اهتماما خاصا بهذه الفئة، وجعلها تتمتع بالحضور والاندماج اللائقين بها داخل الجماعة ومن تم داخل المجتمع.

– على المستوى اللغوي: سجلنا حضور الأمازيغية بمعظم تلاوينها، تاريفيت وتامزيغت وتشلحيت، إلى جانب الحسانية واللغة العربية، وهو أمر تؤكد من خلاله الجماعة على أصالتها وانبعاثها من كل بقاع المغرب، كما يؤكد في الوقت ذاته تجاوز الجماعة لمشكل الهوية التي يعمل البعض على تَخْيِير المغاربة بين أمازيغيتهم أو إسلامهم؛ ولعل اندماج كل هذه الهويات في صف الجماعة له دلالات ورسائل واضحة بالغة الأهمية تحتاج من يلتقطها ويستوعبها.

– على المستوى الفني والثقافي: تَميّزَ المهرجان الختامي بتنوع ثقافي لا تخطئه العين، بحيث حضرت الخطابة إلى جانب الشعر والزجل والغناء والإنشاد، وبمعظم اللهجات المحلية، ومن مناطق متنوعة، ما يعني انفتاح الجماعة على كل ألوان الفن الهادف، وتبرمه من المواقف الفقهية الرافضة لكل ما يتعلق بالفن. ناهيك عن ظهور أعضاء الجماعة بالزي واللباس المحلي لكل منطقة، وهو سلوك ينم عن خوض هؤلاء الأعضاء تجربتهم الدعوية والتربوية من داخل الهوية الثقافية وليس من خارجها.

– على المستوى التقني والإعلامي: إن بث فقرات مباشرة بطريقة تفاعلية ومن ثلاث مواقع، أمر يشي بالاحترافية والتطور الذي تشهده الجماعة في مجال الإعلام. فبالرغم من كل أشكال التضييق والتشويش الذي تتعرض له الآلة الإعلامية للجماعة من طرف السلطة المستبدة، إلا أن إعلاميي الجماعة وتقنييها يبدعون الوسائل التي تمكنهم من تقديم منتوج إعلامي جيد ومتطور.

– على مستوى الخطاب: تميز خطاب الحاضرين بمعاني الحمد والشكر على نِعَم الله الفياضة، ومنها عنايته سبحانه بهده الجماعة وحفظه لها رغم كل ما حيك ضدها، ورغم كل المحن التي مرت بها من اعتقالات وإعفاءات وترسيبات وتشميع بيوت وتضييق في المناصب والأرزاق…. كما غلب على الخطاب أيضا لغة الاعتراف بفضل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، وما قدمه أولا للأمة والانسانية جمعاء من مشروع إنساني يروم الرفق والرحمة والعدل، ثم ما قدمه ثانيا لهذا الوطن من نصح واقتراح للخروج من براثن التخلف، ثم ما قدمه ثالثا للجماعة من مشروع متكامل يجمع بين التربية والحركة، وبين قيم العدل وقيم الإحسان، بين خلاص الفرد الإنسان وخلاص الجماعة الإنسانية. وأمام استحضار ما أثله الإمام من فكر، وما أسداه من بذل وعطاء، وما رسخه من مواقف في وجه الظلم والاستبداد، وما أوصى به من إقبال على الله عز وجل، وما نبه إليه من غفلة عن ذكره سبحانه وغفلة عن اليوم الآخر، وما ألح عليه في حياته وفي مكتوباته ومسموعاته من رفع الهمة لطلب المعالي وأسماها طلب وجه الله سبحانه، أمام كل هذا الإرث المستأمن والوصايا الجليلة الموجِّهة التي خلَّفها الإمام في جماعة العدل والإحسان، أبى أعضاؤها إلا أن يجعلوا من الذكرى الأربعين لتأسيس الجماعة وذكرى الوفاء العاشرة لرحيل الإمام محطة لتجديد العهد، وتجديد النية وعقد العزم على الوفاء للمشروع وحفظ أمانة الجماعة، والتأكيد على خط المحجة اللَّاحِبَة التي رسخها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى. علاوة على كل ذلك، فقد علت خطاب الذكرى ومهرجانها سمة الأمل واليقين في مستقبل زاهر بإذن الله عز وجل، إذا تظافرت جهود المصلحين وكل الغيورين على هذا الوطن.

– على مستوى الشهادات: يتبين لنا أن الجماعة تتبرم من أسلوب الانتقائية والتركيز فقط على الآراء التي تمدحها، فقد تابعناها تعرض آراء مخالفة لها بل وتنتقدها أحيانا انتقادا لاذعا، غير أنها بصدق المتواصل الجاد في تطوير أدائه ومشروعه تستمع وتدون بمسؤولية كل تلك الانتقادات. فضلا عن ذلك، نلاحظ انفتاح الجماعة على الكثير من الفاعلين والمفكرين في الغرب والشرق، ما يزكي مشروع العمران الأخوي الذي تبشر به، ويثمن أيضا دعوتها إلى واجب صلة الرحم الآدمية بين بني البشر في أفق بناء عالم إنساني متراحم.

وخلاصة القول، فإن نجاح الجماعة في إحياء الذكرى الأربعين لتأسيسها بهذا المستوي الرفيع الأخاذ، وبهذا الحضور المتميز، والتفاعل الإيجابي لفرقاء الوطن، رغم الحصار والتضييق المضروبين عليها في كل المجالات، من شأنه أن يؤكد الأمور التالية:

– أن الجماعة بعد عقد من رحيل الإمام عبد السلام ياسين تسير على المنهاج النبوي الذي دلها عليه.

– أن الجماعة بحمد الله تحافظ على الأصول والثوابت التربوية.

– أن الجماعة وفية لخطها السياسي الممانع للاستبداد والفساد.

– أن الجماعة تمد يدها للتعاون من أجل إخراج البلاد من حالة التخلف والفساد.

– أن الجماعة مدرسة مغربية أصيلة فكرا وتربية وحركة.

– أن الجماعة ورش كبير يستوعب كل الطاقات والكفاءات، وينفتح على كل المجالات.

– أن الجماعة بتصالحها مع بيئتها الثقافية تمكنت من التوسع في كل مناطق المغرب.

– أن الجماعة كما تهتم بتنظيمها، فهي تهتم بمستقبل الوطن، ومستقبل الأمة خاصة فلسطين الحبيبة، ومستقبل كل المستضعفين في هذا العالم.

– أن الجماعة كانت وستبقى صمام أمان لهذا البلد الحبيب من العنف والفوضى، كما ستظل مرابطة على تخوم الحرية والكرامة والعدل حتى تحقيقها.

– أن الجماعة بقيادة الأمين العام الأستاذ محمد العبادي، ومجلس الإرشاد، وباقي الهياكل التنظيمية ماضية في تنزيل مشروع الإمام عبد السلام ياسين، وترجمة مواقفه من كل القضايا بما يتماشى وحاجيات الراهن، وبما يتناسب مع حيثيات الواقع، دون أن تعدم الاجتهاد في ذلك، وحتى تتجنب ما نهى عنه الإمام من جعل فكره صنما يعبد.