في عيدها.. المرأة بين الإهانة والتكريم

Cover Image for في عيدها.. المرأة بين الإهانة والتكريم
نشر بتاريخ

   اقترن عيد المرأة الذي يحتفل به يوم 8 مارس من كل سنة، بخروج العاملات في نيويورك للمطالبة بحقوقهن، وأثناء تظاهرهن رفعن في أيديهن الورود والخبز اليابس، وذلك للتعبير عن عمق مأساتهن وفداحة الظلم والاستغلال الذي يتعرضن له أثناء عملهن، خرجن يطالبن بحقوقهن، وفي شوارع نيويورك يصرخن ويواجهن رصاص القمع بصدورهن وبالورود والخبز.

    خرجت المرأة للتظاهر، وحملت الوردة عربون محبة وإخاء وإخلاص، فالوردة كناية عن الإنسانية المفقودة والكرامة المهدورة، كما حملت الخبز، كإشارة إلى أن العيش لا يستقيم ولا يهنأ إلا بالاستقرار المادي. الخبز بلا وردة كالحياة بلا معنى، والوردة تذبل وتموت في تربة الظلم والفقر والاستغلال.

    المجتمع الغربي استغل المرأة أيما استغلال، حرمها الحق في العيش الكريم، فخرجت مرغمة إلى طاحون الإنتاج تحت كلكل الظروف الاقتصادية وتحول المجتمع إلى الإنتاج الصناعي الذي يسحق الأفراد ليصبحوا آلة للإنتاج وتحقيق الأرباح.

    كانت المرأة في الغرب هي الحلقة الضعيفة في عملية الإنتاج حيث تم استغلالها من طرف أصحاب رؤوس الأموال وأرباب المعامل، ومن طبيعة الحال، فهذه التحولات الاقتصادية سبقتها ورافقتها تغييرات عميقة على مستوى البنية السياسية والفكرية والاجتماعية، وظهرت أفكار وتوجهات مذهبية وفلسفية. 

    ووسط هذا التحول طالبت المرأة الغربية بالحقوق الخبزية والمادية والسياسية، لكنها، و في سبيل ذلك، داست على إنسانيتها وسحقت الوردة في طريقها، وطالبت بالحرية المطلقة، وتمردت على الرجل معتبرة إياه خصما وعدوا لا شريكا ومؤنسا.

    حلت الندية و”المساواة” محل الخصوصية والوظيفية، وتمردت المرأة على الأسرة والأمومة، بل تمردت على الفطرة، وبعبارة أخرى يمكن القول أن الخبز تمرد على الوردة، وأن الحرية تمردت على الكرامة، لتصل في الأخير إلى تمرد المرأة على الرجل، لتأسس لنفسها مذهبا نسوانيا.

    المرأة بنت بيأتها ولا يمكن فصلها عن تاريخها ومجتمعها.

    وكمحاولة لفهم علاقة الرجل بالمرأة في السياق الغربي نستحضر الأسطورة اليونانية التي تقول أن الإله “زيوس” أراد أن يعاقب البشر على تميزهم فخلق المرأة الأولى “باندورا” و أمر بقية الآلهة بمنحها صفات عديدة وهي الجاذبية، والقدرة على الكلام المعسول والخادع، والفضول، وأهداها لـ”برومثيوس” الذي خلق البشر (الذكور) وسرق نار المعرفة، فتزوجها، وبمناسبة زواجهما أهداهما زيوس الجرة كهدية، وفتحتها الزوجة، ضد رغبة زوجها “برومثيوس”، فخرجت منها جميع الشرور.

    تقول الأسطورة أن المرأة كانت سبب تعاسة الإنسان، وهي كانت مصدر انتشار الشرور والآثام.

    وغير بعيد عن الأسطورة، اعتبرت الديانة المسيحية أن المرأة كانت مصدر الخطيئة الأولى، فحواء هي أول من أكل من الشجرة وأغوت آدم بالأكل منها، بهذا فالمرأة سببت التعاسة للإنسان حين أخرجته من الجنة.

    هكذا يلتقي الدين (الكنيسة) مع الأسطورة لصناعة وجهة نظر غربية ضد المرأة. والتقى هذا الازدراء مع الاستغلال الاقتصادي لسواعد النساء مع حرمانهن من حقوقهن، لينفجر هذا البالون في المطالبة بالتحرر من قيود الدين ومن الرجل ومن الأخلاق والثورة على الإله.

و هكذا انخرطت المرأة الغربية في الفلسفة العبثية والوجودية والداروينية ومناهضة “السلطة الذكورية” وكل مظاهرها، حتى صرحت إحدى زعيمات تحرير المرأة الفرنسية سيمون دي بوفوار لإحدى الصحف: “ستظل المرأة مستعبدة ما لم تتحرر من خرافة الأسرة وخرافة الأمومة والسلطة الأبوية” 1.

    هل، بعد كل هذا، ما زالت المرأة تحمل مشموم الورود، أم أن مطلب الحرية وتحقيق الكرامة من بوابة الاستقلال الاقتصادي لم يترك لهذه الإنسانة المقهورة والمظلومة فرصة لسقي الورود وإهدائها للإنسانية.

    من حق المرأة أن تنتفض ضد الظلم والحرمان وضد الاستغلال والعنف، وضد الإله “زيوس”، ولكن ليس إلى درجة الانتفاضة ضد فطرتها وخصوصيتها ووظيفتها ورسالتها وإنسانيتها.

   فقد أصبح الانعتاق من سلطة “الذكر” مذهبا إذن.

  الحضارة الغربية بتقدمها المادي وإرثها الفكري والفلسفي، أعلنت رفضها لفكرة الإله بعد سيطرتها على الطبيعة، فالمعبود الوحيد هو الإنسان والهدف إشباع رغباته وشهواته ولذاته. فتراجعت الأخلاق لصالح المصالح المادية.

    وفي زخم هذه الانتكاسة الأخلاقية، انتكست المرأة، فأصبحت سلعة من السلع، ومصدرا للمتعة واللذة، فانتشرت الإباحية والخلاعة باسم الحرية، وظهرت الحركات النسوانية (الجندر). بل تدحرجت المرأة إلى مرتبة خرجت معها عارية للتظاهر في شوارع باريس ولتطالب بمطالب بعيدة كل البعد عن الوردة والخبز.

أي انحدار هذا وأي سقوط وأي إهانة.

    ماتت الوردة وماتت الأخلاق، وماتت الكرامة، وبقيت المصالح المادية واللذة والمتعة الشهوانية. وارتفع شعار الحرية الذي لا ينضبط لخلق ودين.

     في تجربة أخرى من هذا العالم، وإن كان في زمن مغاير، كانت المرأة تنتفض ضد الظلم وتضحي بنفسها من أجل إيمانها وعقيدتها، فاتحة بوابة الكرامة والحرية بإعلانها إيمانها بالله تعالى.

    في المجتمع الإسلامي الأول، كان شعار المحبة والأخوة هو الذي يربط بين المرأة والرجل، فالمؤمنون إخوة، ولا فضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “النساء شقائق الرجال” 2. فالعلاقة بين الرجل والمرأة بنيت على “المودة والرحمة” لا على الكراهية والعداء والاستغلال، فحواء وآدم كلاهما أكلا من الشجرة، والذي أغواهما هو الشيطان، بل إن آدم يتحمل المسؤولية الكبرى في حصول تلك المعصية.

    في الإسلام كل له وظيفته ودوره في حدود خصوصيته. والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالنساء خيرا، وجعل الأسرة والأمومة من مقاصده الضرورية، تأسيسا وحفظا. كل طرف يحافظ على خصوصيته، ولا يسعى لإلغاء الآخر.

    مساران مختلفان ألقيا بظلالهما على النظرة تجاه المرأة.

    فشلت الحضارة الغربية في تحقيق السعادة رغم نجاحها في تحقيق الرفاهية المادية، فالإنسان ليس جسدا فقط، بل هو روح وجسد، قلب وعقل.

    ولن يسعد الإنسان إلا بمعرفة خالقه الذي أكرمه ورزقه وهداه وأغدق عليه بمظاهر التكريم من الرزق والطيبات والتفضيل، وجعله إنسانا مكرّما وخليفة في الأرض، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا 3.

    إن تكريم المرأة يكون في معرفة خالقها وربها، فمصدر الكرامة في معرفة الله تعالى، وليس بالتمرد على الفطرة وعلى الوردة. ويكتمل التكريم بتحقيق العدالة على مستوى توزيع الأرزاق وخلق الفرص ليشارك الجميع، كل من جانبه، في إقامة العدل.

    ومن كمال التشريف والتكريم أيضا للمرأة أن تشارك، إلى جانب الرجل، في مواجهة الظلم والعنف والاستغلال وتحقيق مجتمع العمران الأخوي المبني على المحبة لا على الكراهية.


[1] الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيكوفيتش، ط1997، ص258.
[2] حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
[3] سورة الإسراء، آية 70.