في ظـــــــــــلال آية

Cover Image for في ظـــــــــــلال آية
نشر بتاريخ

يقول الله تعالى في سورة الحديد الآية 27 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم وسورة الحديد سورة مدنية من المفَصل، عدد آياتها 28، ترتيبها في المصحف الشريف 57، أي النصف إذ عدد سوره 114 آية، نزلت بعد سورة الزلزلة. ابتدأت السورة بالتسبيح لله: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ واختتمت بالثناء عليه جل وعلا والله ذو الفضل العظيم

فضــــــــــلها:

جاء في فضل هذه السورة التي تصنف من المسبحات ما أخرجه أبو داوود وغيره، أنه صلى الله عليه و سلم، كان لا ينام حتى يقرأ المسبحات، وقال: “أن فيهن آية أفضل من ألف آية”.

والمسبحات 6 سور ثلاث منهن ابتدأت بالماضي (سبح لله) وهي: الحديد والحشر والصف واثنتان ابتدأتا بالمضارع (يسبح لله) وهما: الجمعة و التغابن وواحدة ابتدأت بالأمر سبح وهي الأعلى.

أسباب النزول:

جاء في معظم التفاسير المعتمدة كتفسير الطبري وابن كثير والقرطبي وغيرهم، أن المخاطب بهذه الآية هم أهل الكتاب الذين أسلموا بحيث أنهم آمنوا بموسى أو عيسى عليهم السلام ثم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فآتاهم الله على ذلك كفلين، أي أجرين.

وورد كذلك عن سعيد بن جبير ومقاتل بن حبان أنه لمّا نزل قوله تعالى: أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ القصص، الآية 54، و يعني أهل الكتاب، افتخروا بذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، فقالوا لنا أجران و لكم أجر واحد، فاشتد ذلك على الصحابة، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم و الله غفور رحيم، أي ضعفين من رحمته.

والآية التي هي موضوعنا، تخاطب منذ البداية الذين آمنوا أي الذين ارتقوا إلى درجة الإيمان بعد الإسلام، ويتشوفون إلى درجة الإحسان. إذ الدين مراق ودرجات كما يقول الإمام المجدد رحمه الله في التنوير 2 ص 9: مراقي الدين تعلمها الصحابة رضي الله عنهم في مشهد ملائكي فريد لكي يكون وقع التعليم مؤثرا عميقا دائما. تعلموا أن الدين سلم مرقاته الأولى، إسلام، والثانية إيمان، والثالثة إحسان.)افتتح الإمام مسلم صحيحه بحديث جبريل، هذا الحديث التي لا تمل المؤمنات من حفظه وتحفيظه، وفقهه وتفقيهه، وعلمه وتعليمه، حتى لا يستقر عند المسلمات والمسلمين أن الدين مرتبة واحدة، الناعسة على عتبتها كالصاعدة في سلمها يحدوها حب الله، والشوق إلى الله، والإخلاص لله، لا تستوي تلك وهذه).

ثم بعد ذلك تبدأ أوامره سبحانه: إذ هناك أمران: أولهما الأمر بالتقوى، والتي هي أول الأوامر، وهي كما قال الإمام علي كرم الله وجهه الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل). فمن خاف من الجليل فقد عرف ومن عمل بالتنزيل ورضي بالقليل فقد نجا، ومن استعد ليوم الرحيل فقد فاز.

و التقوى تقرُّب وتجنب: تقرب من كل ما يعين على طاعة الله، كعمل الصالحات والقرب من أهل الله لأنه تعالى يقول: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، و تجنب لكل ما يؤدي أو يقرب إلى سخط الله، كإتيان أماكن المعصية ومصاحبة أهل الشر والغفلة، وما أكثرهم كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “المرء عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فلينظر أحدكم من يخالل”، رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله هنه، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: أوصى حبيب الله أحدنا وإحدانا بالبحث والنظر عن خُلة في الله، و بيئة تربوية منهضة إلى الله.)

و الأمر الثاني: هو الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الإيمان يكون بالتصديق والاتباع مع المحبة لشخصه الكريم على الله تعالى، هذا الإتباع جعله الله شرطا لحب الله تعالى للعبد حيث قال عز من قائل في سورة آل عمران قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم

يقول المرشد رحمه الله: استكملت الإيمان من ذاقت طعم الإيمان يوم أصبح الله ورسوله أحب إليها مما سواهما) التنوير 2 ص 7.

ثم يقول الحق سبحانه يوتيكم كفلين من رحمته ويوتيكم من فعل آتى، بصيغة المضارع المجزوم، لأنه جواب الأمر

أي شرطي التقوى والإيمان بالحبيب صلى الله عليه وسلم، جزاؤهما أن يؤتي الله تعالى من استوفاهما كفلين من رحمته، أي نصيبين من رحمته. جاء في تفسير الطبري وابن كثير: (الكفل في اللغة: كساء كان يضعه الراكب على سنام بعيره حتى لا يسقط عنه. و على هذا قال المفسرون: يوتكم كفلين من رحمته: يحفظانكم من السقوط في المعاصي).

قال بعض المفسرين: يوتكم كفلين أي أجرين: للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبموسى أو عيسى عليهما السلام. وقال آخرون: كفلين أي أجرين: أجر الدنيا وأجر الآخرة. وكل ذلك من معاني القرآن ومراميه.

وبما أن الدين إسلام إيمان وإحسان، كما جاء في حديث جبريل، ولاتصاف المخاطبين الذين هم الصحابة بهذه الآية بالإحسان، فقد زادهم الله تعالى على الكفلين: نورا ومغفرة جزاء على إحسانهم هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ. والنور هو القرآن كما قال بعض المفسرين، وكذلك اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم، ففي اتباعه نور وإخراج من الظلمات، كما قال تعالى قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ المائدة.

قال المفسرون: النور هو المصطفى صلى الله عليه و سلم، و منه قول الإمام الشعراوي رحمه الله.

وأعظم نعمة هي نعمة الرسول الكريم المبعوث رحمة للعالمين. و هو نور يؤتيه الله من آمن برسوله و اتقى الله كما جاء في أول الآية. يوتيه محبته صلى الله عليه و سلم و اتباعه والاقتداء به ويرزقه صحبة أحبابه من الأولياء و الصديقين.

هذا النور الذي جاء به الحبيب المختار صلوات ربي وسلامه عليه، يصل المؤمنين عن طريق الصحبة والمحبة، فيمشون به في طريقهم إلى الله مسترشدين مهديين منتفعين به في الدنيا والآخرة.

يقول الإمام المجدد رحمه الله: إن حبل المودة والمحبة يريده الله ورسوله رباطا ممتدا بين أجيال المؤمنين، موصولا من قلب لقلب إلى منبع النور) التنوير 2 ص :15.

و هناك قولان وردا في تفسير قوله تعالى: تَمْشُونَ بِهِ منهم من قال: تمشون به في الآخرة على الصراط، فيقودكم إلى الجنة و ينجيكم من العذاب. و منهم من قال تمشون به بين الناس بالدعوة و نشر الخير وهداية العالمين، وكلا المعنيين صحيح، ومن وُفق لهذا الأمر نال النورين: نور الدنيا و نور الآخرة، و الله يختص بفضله من يشاء، كما جاء في آخر السياق: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُوتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ سورة الحديد الآية 28.

لننظر كيف تدرج الخطاب الإلهي المكسُو بحلة الجمال الذي ليس فوقه جمال، من ذكر الرحمة ثم النور ثم المغفرة. رحمة تغشى القلوب أولا فتصير أهلا لاستقبال النور واتباعه، فتستحق بذلك المغفرة التامة بإذن الله.

وهذه العناية الربانية تتكرر في الكثير من الآيات، والنفحات الإيمانية التي يجود بها الحق على عباده المؤمنين. ففي سورة التوبة يبين الحق تبارك و تعالى أن توبة العباد تسبقها رحمة منه وتوبة من عنده حيث قال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلفوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. سورة التوبة

وها نحن في شهر رمضان، شهر الرحمة والنور، جعل الله أوله رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتقا من النار.

جعل سبحانه أوله رمضان رحمة وهي الباب التي يدخل منها العبد على الله فيفوز برضاه. فمن يدخل إذن هذه الباب؟ من يجيب النداء الذي يقول فيه الحق سبحانه وتعالى في آخر آيات الصيام: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُومِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ البقرة.

أول خطوة في هذا الدخول هي العشر الثانية وتكون بالاستغفار إذ هي عشر المغفرة. لابد من التخلي قبل التحلي، ومن الصفاء قبل العطاء. لا يصح ملء القلب بالأنوار قبل تخليصه من بقايا الذنوب وأدران المعاصي، كما لا يصح ملء الكأس لبنا خالصا قبل غسله وتنقيته مما علق به من الأوساخ. ولهذا قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلم عند استقبال رمضان: “جَاءَكُمْ المُطهر “و قال في نفس الحديث : “خصلَتَان تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ … شَهَادَةُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَتَسْتَغْفِرُونَهُ…”.

و في الأخير بعد الاجتهاد والتعرض للنفحات الربانية خاصة تلك التي تطل على العباد في ليلة هي خير من ألف شهر، في رحاب هذه النسمات العلوية يكون العتق من النار وهو الفوز العظيم لقوله تعالى: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ

مسيرة في خلال شهر واحد تحاكي مسيرة عمر عبد صالح أو أمة صالحة، تعرضا لرحمة الله في صحبة حانية وجماعة مؤمنة، فبدءا عهدا جديدا وقطعا صلتهما بماضي الفتنة والغفلة، مشمرين ساعديهما للحوق بركب الرجال والنساء اللذين سبقوهم بإيمان وإحسان، فثبتا على ذلك حتى لقيا الله تعالى، فكان عقباهما العتق من النار، وما أكرمها من عقبى !.

هذه المعاني التي سيقت في هذه الآية الكريمة، لكي يعيش العبد حقيقتها لابد له من بعض الخطوات:

1- إخلاص النية:

قال صلى الله عليه و سلم: “إنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى…” رواه البخاري رحمه الله

يقول الإمام المجدد رحمه الله: إخلاص الوجهة لله تعالى نية و عملا هو لب الإيمان و قلبه، فإن تحرت أمة الله الصواب الشرعي في عملها فهي على طريق الصلاح رائدها و مرمى طرف إرادتها أن تكون مرآتها التي تجلو لها أحوال إيمانها قوله تعالى: يأمر نبيه و يأمرنا: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)) التنوير 2

2- التربية المتكاملة:

ورد في المنهاج النبوي: التربية الإيمانية عملية على نجاحها يتوقف ميلاد المسلم إلى عالم الغيمان، ثم نشوؤه فيه وتمكنه ورجولته ولا جهاد بلا تربية. )وفي التنوير: نعود و نتساءل لتتربى المؤمنات التربية الكاملة المتكاملة عقلا وقلبا و خلقا، قلبا قبل كل شيء ليتأهلن بالأنوار المقتسبة المشعة من جيل مؤمن لجيل مؤمن، ولينشئن أجيالا مؤمنة، يرضعنهم مع لبن الجسم لبن الإيمان). التنوير 2

3- التحاب في الله:

عن معاذ بن جبل أنه سمعه صلى الله عليه و سلم يقول: قال تعالى: وجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِي، وَلِلْمُتَجَالِسِينَ فِي، وَالْمُتَزَاوِرِينَ في، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِي هو دستور الصحبة. لا غنى عنه.

اجتناب صحبة السوء:

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “إنما مثل الجليس الصالح و لجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك (يعطيك من مسكه) و إما أن تبتاع منه، و إما أن تجد منه رائحة طيبة، و نافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، و إما أن تجد منه رائحة خبيثة”) رواه الشيخان.

يقول الإمام المجدد رحمه الله: يتساءل المؤمنون السعداء في الجنة ويوجهون السؤال للمجرمين: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) المدثر. مع الخائضين هذه أوردتهم المهالك. )قال تعالى: (قال هل أنتم مطلعون؟ فاطلع فرأوه في سواء الجحيم. قال تالله إن كدت لتردين. ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين))

4- الدعاء:

تلك العبادة التي لا تنقطع، والإعراض عنه يعرض لغضب الله، وفي ومضة تنويرية: مهجورة من هجرت باب ربها لا تقرعه، ولا تُنزل به حاجاتها. محرومة مهددة بغضب الله. ذلك أن كرمه فياض، وخزائن فضله زاخرة، فيريد منا أن نستمطر رحماته، وأن نكرر الطلب، ونُلِحَّ، لتَتَلَقَّى عبوديتُنا رأفة ربوبيته ولِتتلقى حاجتُنا بوافر عطائه، ولِتَرتوِي نَهْمتنا بهاطل نَعمائه، وليستجيب غناه لافتقارنا، وقوتُه لضَعفنا، وقدرتُه لعجزنا، ووُجده لفقدنا، وكماله لنقصنا).

5- قيام الليل:

يقول الرسول صلى الله عليه و سلم: “أشراف أمتي أهل القرآن و أصحاب الليل”.

يقول الإمام المجدد رحمه الله: إنما قاموا في جوف الليل يصلون لله ويدعونه، ويسألونه من خير الدنيا والآخرة، مقابل العرض الإلهي: ” من يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَه؟” تنبعث في جوف الليل والغافلون نيام، تلبية للسائلة الملهوفة والسائل (أنا يا رب). واستجابة لدعوته سبحانه: “مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟” تنبري روح أمة الله و روح عبد الله تستبق الخيرات لاهجة: (أنا يا رب). وتؤنب أمة الله و يؤنب عبد الله النفس الأمارة بالسوء الخطاءة أطراف النهار، حتى إذا جنّ الليل و نام النوم، و خرجت من حانات الليل زبائن الشيطان، ألفيت السعداء بمناجاة ربهم ينتظرون السحَر ليَحظَوا بساعة: ” مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟”) التنوير ج 1 ص376.

كل هذه الخطوات للظفر بوجهه سبحانه، يريد منا رحمه الله أن نحدو حدو الصالحات ومنهن تلك التي أسكرها حب الله وغمر إرادتها الشوق إلى الله وغيب عنها حبه الدنيا والآخرة فتقول:

ليس لي في الجنان والنار رأي

أنـــــــا لا أبغــــــــــي بحبي بديــــــلا