في حضرة الإمام مع أهل وزان

Cover Image for في حضرة الإمام مع أهل وزان
نشر بتاريخ

بقلم: ذ. عز الدين محمد البدوي

بعد ما يزيد عن عشر سنوات من الحصار على المرشد رحمه الله، أيس الجلاد من “الضحية”، وعلم وتحقق أن هذه الجماعة لا يزيدها القمع والتنكيل والزج في السجون، وحصار مرشدها إلا تباثا ورسوخا وانتشارا، إنها ارادة الله وتدبيره، وقوته وعزته وسلطانه، ينصر الفئة المؤمنة قليلة العدد ضعيفة العتاد، ويهزم الفئة الباغية ولو كانت كثيرة العدد عظيمة المدد. ولك أن تتأمل قوله تعالى: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ البقرة: 249.

خرجت الجماعة من المحنة منتصرة مستبشرة، كثيرة العدد، عظيمة المدد، متراصة الصفوف، أرقام أربكت حساب النظام، وخاب ظنه وخسر سعيه، كلمة قالها أبو سفيان قبل دخوله الإسلام عن المسلمين: (كلما زدناهم عذابا ازدادوا قوة)، فكلما أغلق النظام بابا على الجماعة إلا فتح الله لنا أبوابا كثيرة تكون لنا بمثابة نافذة على العالم والناس أجمعين، خرجنا من المحنة ونحن نردد قوله تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ الروم:5.

دخلت أفواج وجماعات من المؤمنين والمؤمنات، في تلك العشر من السنوات، وكنت واحدا من هؤلاء، انتظمنا في سلك الجماعة ولم نظفر بمجالسة المرشد رحمة الله عليه.

حتى كان اليوم الموعود وزال القيد ورفع الحصار، فشرع الإمام المرشد رحمه الله في تدبير زياراته لبعض المدن صلة للرحم وإعلانا للصحبة والمحبة والوفاء.

كم كنت حريصا على مثل هذه المحطات، وقد تشرفت بزيارته الأولى لفاس.

هذه المرة رجعت الى مدينتي وزان، وكنت لا أقطع الصلة مع مدينتي الصغيرة الهادئة، ومع أهلها الطيبين الكرماء، مهما غبت عنهم، أشعر بعمق أنني منهم، وهم مني، أحبهم ويحبونني، أتقرب إلى الله بخدمتهم ومجالستهم، أنقل لهم ما أعيشه، وكأنهم معي في فاس، أحكي لهم عن النصيحة، ومجلس الحديث، عند الأستاذ منير الرݣراݣي، كما أنقل لهم ما أفدته من مجالس الفقه عند الدكتور عبد العلي المسئول، كما أخبرهم بكل ما يقع في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس.

ويا ليتني أظفر ببعض من تلك الرسائل التي كنت أوقعها باسمي وأضمنها كل مشاعري وأحاسيسي، أبث في هذه الرسائل معالم الصحبة والجماعة، والصحبة في جماعة.

كنت أبعث بهذه الرسائل والمذكرات واليوميات لأخي العزيز الأستاذ الأريب مصطفى، فيفرح بها وينشرها في مجالس الخير والإحسان.

أخالني سفيرا لهم، غير أني، غفر الله لي، كنت أحيانا أفرط وأسهب في حديثي عن القطاع الطلابي، وكأنهم يعيشون في مدينة جامعية، يصبرون عليَّ كثيرا حين أحضر معهم مجالسهم، أسماؤهم محفورة في قلبي وفؤادي، حتى ولو لم أرقنها فيما كتبت.

أخبرت بالزيارة الكريمة لأهل وزان، والتي حدد لها موعد، فكان ليلة السبت، وصبيحة الأحد، وحدد لها مكان، فكان المقر المركزي بسلا.

أدلجنا وبلغنا مقصدنا، بتنا تلك الليلة الزهراء ننتظر الصباح، حيث مائدة الجماعة، مائدة الصحبة في جماعة.

كانت ليلتي غير الليالي، تركني النوم ورحل، سبحت في خيالي، أنظم القوافي، فتبعثرت أوراقي وقمت من مضجعي فزعا مذعورا، خشية أن يضيع مني ما خالجني، فأخرجت كراستي وكتبت شعري، أو قل مشاعري.

كنت أرجو أن أقدم بين يديه هدية، من وزان أرض الشرفاء والصالحين، مدينة الولي الصالح، القطب الرباني المولى عبد الله الشريف.

وكم كان ليلي طويلا، وأنا أنتظر الصباح، أنتظر الشروق، أنتظر النور، أنتظر الأمل.

خرج علينا بهيبته وطلع علينا بأبوته وحنانه وعطفه، تسمرت أنظر إليه، ولو سمحوا لي لقمت واحتضنته.

كلامه بسيط وعميق، يجمع بين سهولة اللغة وعظيم المعاني، كلماته يفهمها الدكتور، كما يفهمها الأمي، إنه البيان، وإن من البيان لسحرا.

يقدم الأحبة فيقول: هذا سيدي محمد العبادي، أتعرفونه؟ وهذا سيدي عبد الواحد من منكم لا يعرفه؟ وهذا الرجل لا بد أنكم تعرفونه، إنه سيدي عبد الرحمن؛ فنرفع أصابعنا كأننا تلاميذ نجباء في حضرة معلم متمرس خبير.

ثم يسأل سؤاله المعتاد من منكم يحفظ القرآن؟

فيرفع تلميذ لم يتجاوز عمره الأربعة عشر عاما يده، فيناديه، ويتهلل وجهه فرحا، ويجلسه بجانبه، ويقربه ويدنيه، ويطلب منه أن يشنف أسماعنا بما تيسر من آي الذكر الحكيم.

عادة يقطع مجلسنا بسؤال لايزال صداه يلاحقني، لا ينفك عني.

من منكم يريد أن يحفظ كتاب الله؟ فنرفع أيدينا هذه المرة جميعا، ويشهد علينا، ويفرح بنا قائلا: نحن مدرسة قرآنية متنقلة عبر الأجيال.

وكم أجدني فرحا مسرورا عندما يصلني خبر المئات من المؤمنين والمؤمنات الذين حفظهم القرآن قبل أن يحفظوه، فأقول في نفسي: لا تزال هذه الجماعة في خير ما حفظت كتاب ربها وتمسكت بسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.

أرفع يدي على استحياء، لعلي أظفر بإشارة منه، يسمح لي بالحديث، فأمسكت بيميني كراستي، وقدمت الشكر والتحية بين يديه، واستأذنته في قراءة ما كتبت.

قلت: جئناك محبين منتصحين

أتيناك من وزان أرض الأولياء والصالحين

وأبيات بلغت العشر كلها على هذا المنوال.

فأطرق مليا بعدما فرغت، وقال لي كلاما لازلت أذكره: “جميل هذا الكلام ورقيق ولطيف، ولكن ليس شعرا، الشعر شيء آخر، الشعر له قواعده”.

أدركت يومها أن من قال في غير فنه أتى بالعجائب كما يقال، وأدركت أن الإمام لا يجامل الواحد منا حتى لا يضيع عليه وقته وعمره فيما لا يتقنه، بل يساعدك في تحديد الوجهة وبيان القصد. وكذلك كان.