غيرة على أمن الوطن ومستقبل الوطن

Cover Image for غيرة على أمن الوطن ومستقبل الوطن
نشر بتاريخ

إن أخطر مرض قد يصاب به العقل السياسي الجماعي هو «ثقب الذاكرة»، الذي من انعكاساته فقدان القدرة على مراكمة التجربة السياسية من جهة، وفقدان مَلَكَةَ التمييز والحنكة السياسية من جهة أخرى. ذلك أن داء «ثقب الذاكرة السياسي» يجعلنا ننتج نفس المآلات السياسية الفاشلة، بنفس الأدوات السياسية مهما اختلفت الظروف والأزمنة السياسية. فيكفينا أن نقوم بتمرين بسيط لتنشيط الذاكرة السياسية المغربية ليتضح لنا بالمقارنة خطورة هذا الداء العضال الذي أصنفه ضمن أمراض سرطان السياسة.

يشهد التاريخ أنه في 30 مارس 1912 وَقَّعَ الملك عبد الحفيظ بفاس معاهدة الحماية مع المُخَرِّبِ الفرنسي، بعد أن أدخل المغرب حالة فشل تام على المستوى الاقتصادي، وحالة أزمة سياسية حادة بسبب الصراع على الحكم من داخل الأسرة الحاكمة، وقلاقل اجتماعية امتنع المغاربة وقتها عن دفع الضرائب تعبيرا منهم عن رفض السياسات الفاشلة المتبعة.

بعد هذا التوقيع خَيَّمَ خطاب سياسي رسمي يبشر بتقدم عاجل خلال العقد الثاني والثالث من القرن العشرين، خطاب طبلت له البطانة السياسية آنئذ وأفهمت المغاربة أنه لا ملجأ ولا منجى إلا في تحويل المغرب إلى «نظام محمية». والنتيجة أن المغرب الذي تنازل عن سيادته للفرنسيين تحت ذريعة “إصلاح البلاد“، سوف يظل محتلا 44 سنة، سقط خلالها مئات الشهداء، واغتصبت الأراضي، واستنزفت ثروات البلاد وعلى رأسها الذهب والفضة والحديد والفوسفاط، ناهيك عن استخدام الجنود المغاربة لمواجهة النازية وغزو الهند الصينية، وبقيت تبعات «نظام المحمية» حتى بعد توقيع وثيقة الاستقلال حيث فرض هذا النظام اتفاقات عديدة لاستخلاص أجرة “الحماية” تمثلت في تخصيصه بعدة امتيازات اقتصادية وسياسية بقيت تقدم لفرنسا على حساب العيش الكريم للمواطن المغربي (للأسف رغم مرور 100 سنة عن معاهدة الحماية لم يتم إخراج مضامينها التفصيلية وما ترتب عنها من تبعات).

وبين الأمس واليوم، ها هو النظام الحاكم يعيد الكرة ويفتح أبواب البلاد للكيان الصهيوني من خلال اتفاقيات شراكة واسعة؛ شملت الأمن والدفاع والفلاحة والصناعة والتعليم والإعلام والفن والسينما والنقل… تحت ذريعة التعجيل بحل قضية الصحراء المغربية، وعلى نفس المنوال عملت البطانة السياسية وحواشيها تفهيم المغاربة الذين ضحوا من أجورهم، وساعات عملهم، وتحملوا كلفة الحرب عبر ارتفاع أسعار السلع، وقدموا شهداء على جبهة المواجهة، أن التطبيع مع “إسرائيل“ وتعميق العلاقات معها، وانضمام الكيان الغاصب إلى لائحة المعترفين بمغربية الصحراء سوف يعجل باعتراف العديد من دول العالم ومن ثم تعجيل حل هذه القضية. ونحن نعرض هذا العرض أو الوهم السياسي لا يسعنا إلا أن نستحضر المثل المغربي ” الطماع كايقضي عليه الكذاب”. ولعله نفس الخطأ الاستراتيجي الذي كلف المغرب خمسة عقود من “نظام المحمية”، فالخشية كل الخشية أن يكون التغلغل الصهيوني الإمبريالي الاستخباراتي وبالا على المغرب يكرس مزيدا من الاستبداد، ويعطل أي مشروع إصلاحي سياسي، ما يؤدي إلى ارتهان الأمن السياسي والغذائي عند المغاربة بخدمة أجندات الصهيونية العالمية التي يمثل الكيان الغاصب أحد أقطابها.

 إن الوتيرة السريعة التي تسير بها الشراكات الاستراتيجية بين المغرب و”إسرائيل” وعدم اكتراث السلطة الحاكمة بالأصوات السياسية الرافضة لها، وأمام التنسيق الأمني على أعلى المستويات، كلها أمور تنبئ بأن المغرب رغم بعده الجغرافي أضحى عمقا استراتيجيا للمصالح الصهيونية لا يمكن أن تفرط فيه ولو على حساب أمن الدولة نفسها، ناهيك عن مصالح الشعب المغربي. الأمر الذي يستدعي ضرورة المساهمة في إنقاذ المغرب حتى لا يتحول لا قدر الله  مرة أخرى إلى “نظام المحمية” تحت ذريعة حفظ الأمن والاستقرار، بمعنى أوضح أن التطبيع مع الكيان الغاصب وتعميق العلاقات والشراكات معه يهدد سيادة المغرب على وطنه، تماما كما وقع في معاهدة الحماية مع فرنسا التي لم تَجُر ولا زالت الويلات على وطننا الحبيب المغرب. فهل نتعظ هذه المرة قبل فوات الأوان أم سنكون كالذبابة التي تُضربُ في نفس المكان وتعود إليه المرة تلو الأخرى حتى تلقى حتفها، لا لشيء إلا لأنها لا تمتلك ذاكرة تحذرها من الخطر!

فاللهم إنا استودعناك وطننا المغرب، فاحفظه من كل شر، وجنبه الرعونات السياسية ما ظهر منها وما بطن.