غزوة بدر وتجليات الخصال العشر

Cover Image for غزوة بدر وتجليات الخصال العشر
نشر بتاريخ

أقبلت علينا ذكرى غزوة بدر الكبرى بنفحاتها الربانية العظيمة وتفاصيلها الإيمانية الجليلة؛ إذ إنها شكلت مرحلة مفصلية ومعلمة شامخة من معالم إحقاق الحق وإبطال الباطل في تاريخ الأمة الإسلامية، فخلد الله عز وجل أحداثها قرآنا يُتلى لما حملته من دروس وعبر يستفيد منها جند الله عبر الأزمان؛ سنحاول من خلال هذا المقال المتواضع أن نقرأها في ضوء الخصال العشر لنلمسها:

1-      الصحبة والجماعة

كان لهذه الخصلة حضور جلي في أحداث غزوة بدر، إذ إن ناظمة المحبة في الله التي تربى عليها الصحابة في المدرسة النبوية وتلك الرابطة القلبية التي جمعت بين جند الله دفعتهم لتحقيق العدل في الأرض وللجمع بين الخلاصين الفردي والجماعي، فأنتجت جماعة منظمة لا تخشى في الله لومة لائم، أما ناظمتها الثانية فهي الشورى والنصيحة، وكتب السيرة حفظت لنا موقف إشراك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في اتخاذ قرار الحرب. جاء في الأثر أن رَسُول اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: “أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الأَنْصَارَ، …، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ، لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَا أَرَدْتَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا. إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدْقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ” لتجتمع ضوابط التنظيم مع ليونة تأليف القلوب فتصبح الطاعة تحصيلا حاصلا وثمرة يجنيها المتحابون في الله المتشاورون فيه.

2-الذكر

يقول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ سورة الأنفال الآية 9. لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود الحرب وفق المقدرات المادية، لكنه كان يضع موعود الله نصب أعينه وأعين صحابته، فعدد المشركين كان أكبر بكثير من عدد المسلمين، ولكن الله غالب على أمره، فاستغاث المسلمون بربهم ليحقق وعده وينصر جنده؛ والاستغاثة ذكر ودعاء وصلاة ولجوء إلى الله.

3-الصدق

كانت التربية المحمدية تفتل حول ربط القلوب بالله وابتغاء وجهه عز وجل في كل حركة وسكنة وتربي في قلوب الصحابة الصدق في الطلب، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر كان يشحذ هممهم للجهاد بقوله: “قوموا إلى جنَّة عَرْضُها السموات والأرض”.

4-البذل

يقول الإمام عبد السلام ياسين: “… المعادن الخسيسة لا تعطي، إنما تطمع. لا تواسي، إنما تلتوى وتتقاعس. لا تهب لنجدة، إنما تتدثر برداء عافية الجبناء العاقين.”

لكن أصحاب المعادن الفاضلة من صحابة رسول الله الذين حضروا مشهد بدر أعطوا، وواسوا، وهبوا لنجدة الأمة ولم يطمعوا ويتقاعسوا بل بذلوا وآثروا، فأهل بدر هم من هاجروا وتركوا الديار والمال والعتاد وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل الله، وهم أيضاً من نصروا وآووا المهاجرين وبذلوا كل شيء لينعم إخوانهم بالبيئة الآمنة لعبادة الله تعالى وهم من يحق فيهم قوله تعالى: إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُومِنِينَ…

5-العلم

أبانت غزوة بدر عن الحكمة النبوية في إدارة الحروب، إذ إن التدبير الرصين للمعركة والتخطيط المحكم لمعرفة عدد العدو وعدته أسفر عن نتائج عظيمة، مثل التحكم في الشريان الاقتصادي لقريش وأيضا اتساع رقعة المسلمين الجغرافية…

6-العمل

جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين معاني التوكل ومعاني العمل حيث إنه عمل على الأخذ بالأسباب والإعداد الجيد للمعركة ليرسخ بذلك سنة كونية مفادها أن النصر رهين بالاستحقاق.

7-السمت الحسن

تجلى سمت المسلمين بشكل واضح في تعاملهم مع أسرى غزوة بدر؛ إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سطر تصورا محكما أملاه عليه الوحي الرباني تُضمن به راحة الأسير البدنية والصحية ليتميز المسلمون بهذا التصور وتنبهر به قريش. يروي لنا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد المواقف التي أقدم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على استشارته وأبي بكر حول التعامل مع الأسرى: “فقال أبو بكرٍ: يا نَبِيَّ اللهِ، هؤلاء بَنو العَمِّ والعَشيرةُ والإخوانُ، فأَنا أرى أنْ تَأخُذَ منهمُ الفِداءَ؛ فيَكونُ ما أخَذْنا منهُم قُوَّةً لنا على الكُفَّارِ، وعَسى اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ يَهْدِيَهم، فيَكونون لنا عَضُدًا. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما تَرى يا ابنَ الخطَّابِ؟ فقال: قُلْتُ: واللهِ، ما أَرى ما رأَى أبو بكرٍ، ولكنِّي أَرى أنْ تُمكِّنَني مِن فُلانٍ -قريبٍ لعُمرَ- فأَضرِبَ عُنُقَه، وتُمكِّنَ عليًّا مِن عَقِيلٍ فيَضرِبَ عُنُقَه، وتُمكِّنَ حمزةَ مِن فُلانٍ –أخيه- فيَضرِبَ عُنُقَه؛ حتَّى يَعْلَمَ اللهُ أنَّه ليس في قُلوبِنا هَوادةٌ للمُشرِكينَ، هؤلاءِ صَناديدُهُم وأَئِمَّتُهُم وقادَتُهُم. فهَوِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما قال أبو بكرٍ، ولمْ يَهْوَ ما قُلْتُ، فأخَذَ منهُم الفِداءَ”.

8-التؤدة

من مظاهر التؤدة الصبر، والصبر عُدة المجاهد، ومن صور الصبر الخالدة ما رواه أنس بن مالك عن أم حارثة التي استشهد ولدها في غزوة بدر فجاءت تسأل النبي عن مصيره فقالت: يا رسول الله، ألا تحدثني عن حارثة، فإن كان في الجنَّة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء؟ فقال: “يا أم حارثة إنها جنان في الجنَّةِ، وإنَّ ابنك أصاب الفِرْدَوْسَ الأعلى، وفي رواية: وحارثة في الفردوس.”

9-الاقتصاد

يقول الإمام عبد السلام ياسين في رسالة تذكير: “الاقتصاد توسط رفيق، وسير حثيث، وخطى ثابتة في الدنيا لا تزيغ بك عن قصدك الأخروي ومطلبك الإحساني”. وهذا ما أبدع في تجسيده رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته أثناء خوضهم لمعركة الإيمان والفداء، فلم تزغ قلوبهم عن الغاية العظمى وإنما ازدادوا تشبثا بها. ولما تحركت نفوس بعض الصحابة لتتسابق على الغنائم جاء التوجيه الرباني ليصحح القصد والغاية يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ، قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ سورة الأنفال 1.

10-الجهاد

التربية النبوية لم تفصل بين الفعل الجهادي والفعل التربوي، بل كان الجهاد ثمرة للتربية الرصينة المتوازنة التي تجمع بين الحكمة العقلية والرحمة القلبية. وقد كانت غزوة بدر في كل مشاهدها تنزيلا واقعيا لكل معاني وأنواع الجهاد في صورة خالدة تتجدد فيها العزائم عبر الأزمان.