غزوة بدر على ضوء الخصال العشر

Cover Image for غزوة بدر على ضوء الخصال العشر
نشر بتاريخ

تعد غزوَة بدر من أعظم أيام الله وأجل نعمه على أمة الإسلام، بها فرق سبحانه بين الحق والباطل، بعدما تحقق المسلمون بحقيقة التوحيد وانبروا للدفاع عن كلمة الله لتكون هي العليا غير هيابين ولا متخاذلين. شاءت الأقدار الإلهية لأهل الإيمان أن يعيشوا كرامة النصر الأكبر بعدما كانت أحلامهم لا يجاوز مداها استرجاع بعض أموال تركوها مجبرين ونأوا بأنفسهم أن تصيبهم يد الطغاة، خرجوا مهاجرين إلى الله ورسوله راغبين فيما عند الله ومودعين نصيبهم من الدنيا. لكن الله المحيط بما نعلم ولا نعلم يشاء للمسلمين ما لم يخطر على بال.. لقد خلدهم التاريخ على مدى 14 قرنا في أول خروج في سبيل الله، اصطفاء رباني للطليعة التي كتب الله لها أن تكون قائدة للتغيير الذي أعز الإسلام والمسلمين وأذل أهل الكفر بعد عنفوان السطوة وجبروت القهر. فما سر هذا النصر؟ وما هي المبادئ التي قامت عليه؟ وما هي الدروس المستفادة منه؟

مبادئ النصر

ثلاثة مبادئ قام عليها هذا النصر العجيب:

1- الوضوح: وتجلى في  معرفة الوجهة

في بداية الخروج كانت الوجهة استرجاع أموال ضائعة، هدف صغير خرجت له ثلة من المؤمنين تطوعا، لكن بعدما تأكد خبر خروج قريش للقتال صار الهدف هو الجهاد.

2- الشورى والطاعة:

أ- قبل الغزوة: وهذا ما تبين جليا من موقف المهاجرين والأنصار من الغزوة؛ إذ بسط الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه الأمر للصحابة ليدلوا فيه دلوهم حتى يكون القرار ملزما للجميع.

ب- عند الوصول إلى مكان الغزوة؛ مشورة سيدنا الحباب بن المنذر.

ج- بعد الغزوة؛ في قضية الأسرى.

3- المسؤولية: الانخراط الجماعي في نصرة الله ورسوله

لأنه عندما تعرف وجهتك تصبح مسؤولا عن اختيارك فلا تتراجع دونه. ثم إننا انتقلنا من الاختيار إلى الاضطرار أو “ذهنية الواجب”، فليس الأمر متروكا على هوى الأفراد.

أسرار النصر

لهذا النصر أسرار جعلت منه واقعا رغم كونه مستحيلا عقلا :

– الدعاء والتضرع: وهذا هو الإعداد الذي قام به سيدنا محمد ﷺ مع الصحابة، ومما دعا به سيدنا رسول الله ﷺ: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، وبقي ﷺ يلح على الله سبحانه حتى سقط رداؤه، فأتاه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه فألقاه عليه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك.

– المدد الغيبي: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (الأنفال، 9).

– النعاس: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ (الأنفال، من الآية 11).

– المطر: على المشركين كان وبالا وعلى المسلمين كان تطهيرا إذ تحقق به اغتسالهم.

– التنظيم: استعمال نظام الصفوف ووضع كل جندي في الثغر الذي يليق به. ومن التنظيم اختيار الوقت المناسب للهجوم، كاغتنام تعب جيش المشركين.

– اليقين: أعظم سر من أسرار النصر في أي معركة كانت.

غزوة بدر والخصال العشر

– الصحبة والجماعة:

وتبين ذلك من خلال التفاف الصحابة رضوان الله عليهم حول سيدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه باعتباره النبع الروحي الذي اغترفت منه القلوب؛ رفع همتهم لطلب وجه الله تعالى، وفي سبيل هذا الهدف ستتوحد القلوب وتتحاب في الله، بل ستنتظم في صحبة جهادية تقيم للشورى وزنا حقيقيا، وستنبري عنه طاعة بذهنية الواجب، ثم انضباط وسط المعركة القائمة بين الحق والباطل. دون أن ننسى تلك المحبة العظيمة التي بها نجوا لما جاءت الآية الكريم: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (يونس، 62).

– الذكر:

أعلى شعبة من شعب الإيمان هي لا إله إلا الله، والصحابة رضوان الله عليهم تمثلوها جهادا، فقدموا في سبيلها الغالي والنفيس. كما أنهم لجؤوا إلى الدعاء والتضرع والبكاء على الله بكامل يقينهم في النصر فبشروا بالملائكة تقاتل معهم.

– الصدق:

دليله عدم فرار الصحابة من أرض المعركة، بل منهم من زحف نحو المشركين يرفض أن تشبع نفسه من تمرات تقيم أوده بعد صيام وطلب بذلك الشهادة حتى نالها. قتال إلى آخر نفس، سلامة القلب، الشجاعة، النصرة، الوفاء بالعهد.. كلها معان كانت حاضرة عند الصحابة رضوان الله عليهم.

– البذل:

وهل هناك أعز ما يملكه الإنسان من روحه يهبها لله ورسوله، الصحابة الكرام بذلوا أرواحهم وبذلوا أموالهم وجهدهم وراحتهم وكل ما يملكون، بل أعز ما يملكون في سبيل نصرة دين الله تعالى.

– العلم:

كان الصحابة رضوان الله عليهم يتعلمون القرآن ويرتلونه، ويتعلمون من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الجأر بالدعاء، ويخططون للنصر. وبعد النصر فرضوا على كل أسير أن يعلم 10 من المسلمين مقابل حريته.

– العمل: الإنجاز الناتج عن معرفة الهدف والوجهة

العمل بيقين صاحبه المدد الغيبي.. إماطة الأذى عن المسلمين عزة ونصر وفتوة.

– السمت الحسن:

المزايلة: معركة بدر زايلت بين الحق والباطل؛ فأعزت الحق ودمغت الباطل، “وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ” (المنافقون، من الآية 8).

النظافة والطهارة: فالطهور شطر الإيمان. وقد أذن الله سبحانه بنزول المطر الذي اغتسل منه المسلمون بعد افتقادهم للماء.

– التؤدة:

كان سيدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه قمة في كل معاني التؤدة. وهنا أشير إلى قصة سواد بن غزية الذي ضربه سيدنا رسول الله إلى بطنه يود انتظامه في الصف، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن طالب بالقصاص غير متنازل، فخضع الحبيب المصطفى لرغبته وكشف عن بطنه ليرتمي فيها الصحابي الجليل المحب الهائم في الحضرة النبوية الشريفة وينهال عليها بالتقبيل، وكان غرضه أن يكون آخر عهد بينه وبين رسول الله جلد يمس جلده..

رفق، تواضع، لين، لا فرق بين غني وفقير.. الكل يدا بيد دافعوا عن الدين.

– الاقتصاد:

من معانيه التماس القصد، والقصد هو السير إلى الله، وكذلك كانت وجهة الصحابة رضي الله عنهم. لا ننسى نظام الأسرى والفدية مع ما صحبه من توجيه من الله عز وجل للقلوب بعدم التعلق بالغنائم، وإنما يجب أن تتعلق همة المؤمن بالله وأن يقتحم عقبة المال، فإن ملك الدنيا فلا يجعلها تملكه.

– الجهاد:

وما غزوة بدر إلا تجل وعنوان كبير للجهاد بما تحمله الكلمة من معنى.

إذًا؛ المحبة لله ولرسوله ورثت ذكرا وصدقا في الطلب مما استدعى علما وعملا وبذلا وتؤدة وسمتا حسنا واقتصادا.. مجموع يصب في ذروة سنام الدين؛ جهاد بالروح ودفعها رخيصة في سبيل الله.

رحم الله شهداء غزوة بدر كانت همتهم الله فصدقوا فصدقهم الله. وسطرت لنا ملحمتهم سنة كونية تؤسس لشروط النصر يقينا في موعود الله الذي يجتبي له الرجال من صفوة أحبابه الذين أيقنت قلوبهم بأن الله آت بالنصر القريب ولو بعد حين.