غزوة بدر الكبرى

Cover Image for غزوة بدر الكبرى
نشر بتاريخ

هلّ شهر رمضان وحل علينا بجوده وكرمه، ننهل من بركاته دروس الصبر والتكافل والتعاون، ونغترف من خيراته الإيمان والتقوى، فهو المعين الذي لا ينضب سيل عطاياه. يقول  تعالى في محكم آياته: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (سورة البقرة، الآية 183). وهو خير شهر عند الله تعالى، كرمه على باقي الأشهر، فأنزل فيه القرآن في ليلة مباركة من لياليه، جعلها خيرا من ألف شهر. يقول عز من قائل: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ (سورة البقرة، الآية 185).

هذا الشهر الذي هو شهر القرآن والطاعات والعبادات، هو أيضا شهر شهد أكبر الفتوحات والغزوات؛ تلك الغزوة التي كانت الفاصل في تاريخ الأمة الإسلامية، فصلت بين عهدين؛ “عهد المصابرة والصبر والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع… لتحرير الإنسان في الأرض بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته” (1).

في هذا المقال سنحاول أن نقف مع أهم أحداث هذه الغزوة الكبرى؛ التي جعلها الله فرقانا بين الحق والباطل، ثم سنلقي نظرة على أبرز العبر والدروس المستخلصة من أحداثها.

1- أحداث غزوة بدر

سياق الغزوة

في اليوم الثاني عشر من شهر رمضان من العام الثاني للهجرة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه، بعد وصول خبر قدوم قافلة قريش من الشام متوجهة إلى مكة بقيادة أبي سفيان (2)، تحمل أموالا عظيمة، أصولها اغتصبت من مهاجري مكة ظلما وعدوانا بعد هجرتهم إلى المدينة.

قال عليه الصلاة والسلام يومها: “هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها” (3). وتجدر الإشارة إلى أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بادئ الأمر كان بغرض اعتراض القافلة واحتوائها، ولم يكن في نيتهم محاربة قريش أو قتالهم.

بلغ أبا سفيان خبر مسير النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فبادر إلى تغيير مسار القافلة نحو الساحل، وإرسال من يخبر قريش بالخطر الذي يهدد أموالهم، فجهزت قريش جيشا بلغ عدده ألفا، معهم مائتا فرس وعدد من الجمال، “ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين” (4)، بينما كان عدد الصحابة الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بضع عشر وثلاثمائة، وكان معهم فرَسان وسبعون بعيرا.

استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

أصرت قريش على القتال وبدأت بالزحف نحو المسلمين، مع أن القافلة نجت ولم يمسسها سوء، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأجمع أغلب المهاجرين على المضي قدما، وكان للمقداد ابن الأسود موقفا متميزا، إذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يومها: “لا نقول كما قال قوم موسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (سورة المائدة، الآية 24)، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك وخلفك” (5)، ففرح الرسول صلى الله عليه وسلم بموقف المهاجرين، لكنه أراد أن يستشير الأنصار الذين كانوا أغلبية جنده وما كانوا آنذاك مجبرين على قتال، فقال: “أشيروا عليّ أيها الناس” (6)،  يريد بذلك الأنصار، فأجابه سعد بن معاذ قائد الأنصار وحامل لوائهم قائلا: “والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. فنهض وقال: قد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله” (7).

فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وتوكل وأصحابه على الله عز وجل وعزموا على خوض المعركة وقال: “سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم” (8)، فكانت الغزوة يوم السابع عشر من رمضان.

تأييد الوحي

بدأت الحرب بمبارزة فردية، خرج فيها من قريش، عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد، وخرج من المسلمين عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، وكانت الغلبة للمسلمين في هذا النزال، فاشتد غضب المشركين وهجموا على المسلمين هجوما عاما ومتفرقا، واجهوه المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطة محكمة، واكبت مراحل المعركة بجميع تفاصيلها، بشرهم الحبيب صلى الله عليه وسلم  بالنصر من عند الله وبمدد من الملائكة، كما جاء في قوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (سورة آل عمران، الآية 123-126).

انتصار الحق على الباطل

انتصر المسلمون في المعركة، ورفعت راية الإسلام، وأسر سبعون من قريش وقتل مثلهم،  من صناديدهم أبو جهل وأمية بن خلف، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رغم قلتهم، وصبروا على الحر والصيام وأبلوا البلاء الحسن في نصرة كلمة الله، صدقا وإيمانا ويقينا بموعود الله، فكان التأييد والنصر منه تعالى، ثبت قلوبهم وأمدهم بجيوش لم يروها.

يقول حسان بن ثابت عن يوم بدر:

ما نَخشى بِحَمدِ اللَهِ قَوماً ** وَإِن كَثُروا وَأُجمِعَتِ الزُحوفُ

إِذا  ما  أَلَّبوا  جَمعاً عَلَينا  ** كَفانا  حَدَّهُم رَبٌّ رَؤوفُ

سَمَونا يَومَ بَدرٍ بِالعَوالي  ** سِراعاً ما تُضَعضِعُنا الحُتوفُ

2- دروس وعبر

يوم الفرقان

سمي بدر بيوم الفرقان كما جاء في كتاب الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (سورة الأنفال، الآية 41)، فكان فرقانا بين الحق والباطل، بين الوحدانية المجردة المطلقة وبين الشرك في كل صوره، فرق بها سبحانه بين الحق والباطل؛ فأعلى فيها كلمة الإيمان على كلمة الباطل، وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه.

يقين القائد

فضلا عن التخطيط المحكم للمعركة، تسلح القائد الحكيم صلى الله عليه وسلم بالدعاء والتضرع لله تعالى بإلحاح الموقن بموعوده، مدركا هول الموقف ومفصليته في عبادة الله ونصرة دينه، فكان يدعو ويقول: “اللهُمَّ آتني ما وعدتني، اللهُمَّ أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تَهلِكَ هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تُعبَد في الأرض” (9)، وظل يدعو ربه مادًّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وحتى نزل الوحي مطمئنًا؛ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر (سورة القمر، الآية 45).

نصر من الله

إن حقيقة النصر في بدر كانت من الله تعالى، إذ من ثمرات التمسك بالحق والقيام بمتطلباته؛ الحصول على عونه عز وجل بأشكال متعددة (10)، يقول تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ  وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (سورة الأنفال، الآية 10).

 وهنا برهان من الله عز وجل على أن التوكل لا يكون إلا عليه، فهو الذي يمد عباده بنصره ويفرج كل الكربات.

جعل الله هذا الشهر الكريم شهر نصر وفتح، وأمدنا فيه بالبركات والخيرات.


(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، ج 3، ص 1521 – 1522.

(2) ابن كثير، السيرة النبوية، تحقيق مصطفا عبد الواحد، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، 1396هـ-1976، بيروت، ج 2، ص 380.

(3) المصدر نفسه، ص 381.

(4) المصدر نفسه، ص 387.

(5) الصلابي، السيرة النبوية.. عرض وقائع وتحليل أحداث، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، ط 7، 1429هـ-2008م، بيروت، ص 394.

(6) صحيح مسلم، رقم 1779، كتاب الجهاد، باب غزوة بدر.

(7) أورده الإمام الذهبي في مغازيه، تحقيق عمر تدمري، ص 103.

(8) المسند، بإسناد صحيح، رقم 3698.

(9) مرويات غزوة بدر، جمع ودراسة وتحقيق أحمد محمد العليمي باوزير، مكتبة طيبة، ط 1، 1400هـ، 1980، المدينة المنورة.

(10) الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، م س، ص 412.