غزة.. شَرفُ أُمَّة

Cover Image for غزة.. شَرفُ أُمَّة
نشر بتاريخ

قيل لي: لم لا تكتبين عن غزة شيئا؟! خانني قلمي وقال: هل تحتاج غزة أن يُكتب عنها؟ غزة الضاربة في جذور التاريخ والجغرافيا، المكتوبة في الماضي والحاضر والمستقبل. بل أنا من أحتاج أن أكتب عنها، أن أتذوق معنى العزة والكرامة، وكيف يسعى الإنسان للحياة من أجل الله والسير في سبيله.

غزة التي تأبى أن تتخلى عن شرف النيابة عن مليار ونصف المليار مسلم، وتضحي وتهب من زينة أطفالها وخيرة شبابها وكريم نسائها وإباء رجالها نيابة عنا جميعا.

غزة التي في كل مرة تنبعث من الرماد كطائر الفينيق عند الرومان، والعنقاء عند العرب، والسيمرغ عند الفرس، وقنرل عند الأتراك… كثيرة هي المسميات والمعنى واحد؛ الولادة من رماد احتراق الجسد.

كم أخبرونا عن التغريبة الفلسطينية والتهجير والمجازر الوحشية في صفحات التاريخ، لم نحضرها لكن سمعنا عنها. عايشنا حروبا في أوائل القرن الواحد والعشرين حين كنا أقل وعيا وأقل قدرة على التحليل وقراءة الواقع، وكل ما كان يصل عبر القنوات الفضائية والجرائد كان عبارة عن أخبار هنا وهناك، بها حصيلة شهداء وعمليات وبضع مفقودين.

كل شيء مختلف الآن، كل المشاهد تصل لحظة بلحظة، وكل الأحداث تجري على مرأى ومسمع العالَمَيْن العربي والغربي، وقد انقسموا إلى مساند داعم ومجيش للصهيونية المتوحشة، أو متفرج مطبع خانع مكبل العزيمة والعقيدة، أو شعوب مُحتجَّة تتظاهر وتصدر أصواتا وتوصل صرخات علَّها تجد في أذن من تبقى لهم شيء من فتات الإنسانية والضمير الحر في العالم أن: “أنقذوا غزة! غزة تُباد يا عالم!”.

لكن؛ من ينصف حبة القمح إن كان القاضي دجاجة؟

ستظل المشاهد تطاردنا والبكاء والصراخ يملأ آذاننا، والمشاهد القاسية التي نسير نحو الاعتياد على مشاهدتها. لقد أصبحنا نرى الأجساد مشوية واللحوم مفتتة والرؤوس مقطوعة والأعضاء مبثورة وكأننا نمرر أحداثا عادية في صباح مشمس هادئ وجميل.

في غزة لسان حال أهلها يقول كما قال تميم:

أبحث عن قبر من نبكي فلا أجد

فالشهداء جميعا ها هنا وفدوا

حتى الحسين يعزيهم بمن فقدوا

هل مات من أحد؟ أم لم يمت أحد؟

أم أنهم كلهم موتى وما عرفوا

كفوا لسان المراثي إنها ترفُ

في غزة تتحول سيارة “الآيس كريم” لمستودع موتى، ويقبع أهل المدينة كلها في ظلام دامس تضيء الصواريخ سماءهم، وينتهي شحن هواتفهم فيقطع الاتصال بالعالم ويستفرد الموت بهم. يشعرون بالخذلان مع سماع صوت كل صاروخ ينتظرون سقوطه فيخطئهم ويمر أمام أعينهم ليصيب جيرانا لهم. هم لم يعتادوا العتمة، ولكن قسرا؛ صارت جزءا منهم!

في غزة يغمس خبز الجوع بدماء الأطفال، وتبتلع ريقك دون أن تجد قطرة ماء ترويك، تنتظر أمام مراكز توزيع الماء والخبز لساعات، وربما تعود محملا بالخيبة والخذلان، فأنت لم تخذل مرة واحدة، لقد أحاطت بك الخيبات ونفذت إليك من كل جانب، وكل شيء كان بالأمس القريب رفيقا صار اليوم منعدما، حتى أبسط شروط العيش.

في غزة يطلب من المستشفيات إخلاء الجرحى تمهيدا للقصف وتطمس عائلات بأكملها من السجلات المدنية، وأمٌّ تكتب أسماء أطفالها على راحة أيديهم وفي كل أجزاء أجسادهم كي تعرف هوياتهم عند موتهم، وتدفن الأشلاء في مكان واحد.

في هذه المدينة يرابط الناس في بيوتهم حتى الموت، وتدفن عائلة بأكملها في كفن واحد. فعن أي ألم تتحدثون وبأي إنسانية تتغنون؟

في غزة أم أخذت لأطفالها حمّامًا دافئا، ثم ألبستهم ملابس نظيفة، ووضعت على النار وجبة طعام، لم تعلم أن صاروخ الغدر سيدمر أحشاءهم قبل وصول اللقمة إليهم، لقد كانت تجري حافية تصرخ: “الولاد وين؟ الولاد ماتوا بدون ما ياكلوا يشهد عليا الله”!

المشاهد في غزة تبدو سريالية محضة وكأنها مقطع من مسلسلات الجريمة الدموية.

مشهد من طبيب مناوب يصله خبر استشهاد ابنه فيعجز أن يحدد أيٌّ هو من بين الأجساد والأشلاء، فقد تبعثر جسده الصغير وتغيرت ملامحه. تبحث الأم بين جنبات المستشفى وقلبها بين يديها يرجف ويعتصر: “اسمه يوسف 7 سنين شعره كيرلي وأبيضاني وحلو”، لا تريد أن تصدق أنها فقدت قطعة من كبدها، تفضل أن تطول المسافة والوقت على أن تدرك أن الأشلاء المكفنة في الثوب الأبيض لطفلها، لقد سرقوا منها فلذة كبدها وبسمة حياتها في لحظة!

كمال الطفل الصغير الذي يبكي بحرقة تنقطع أنفاسه وهو يردد: “كان يصرخ عليّ: يا كمال، يا كمال! كان عايش والله. بدي أبوسه” لقد فارق أخواه الحياة أمام عينيه تحت الركام، لم يستطع الوصول إليهما وهما يئنان يطلبان النجدة.

محمد الصغير الذي كان جسده يرتعش وينتفض من الخوف والهلع، كانت عيناه جاحظتان كأنه رأى ملك الموت أمامه، لقد اتسعتا من هول ما عاشه ولم يستوعبه عقله الصغير، فقد كان يحظى بغفوة وسط ضجيج الصواريخ والقذائف، يجيب الصحفي حين يسأله ولسانه معقود عن الكلام: “كنت نايم!” يحتضنه الطبيب فيشعر بالدفء فتنعَمُ عيناه وتفيض، وكأنه كان ينتظر من يحتويه ليطرد صدمته ويؤمن جزعه.

شيماء عروس كان من المفترض أن يقام زفافها منذ شهرين لظروف مرض والدها، شقتها جاهزة تماما، فقد عملت مع خطيبها على تجهيزها لأكثر من ثلاث سنوات. منذ بداية القصف كانت تبكي كل لحظة خوفا من فقدان بيت الزوجية الذي لم تزف إليه رغم رغبتها القوية وانتظارها الشديد للزفاف. تقول: “كان يقول لها باسما في كل مرة: ما دُمنا معا فداكِ ألف بيت”. تكتب وتخبرنا أن خطيبها استشهد وبقيت شقتهما كما هي شاهدة على زفاف لم يتم! وفتاة لن تتزوج أبدا! وعريس رحل قبل أن يشهد عرسه ويصبح عريسا حقا!

“رحل ساعدي، رحل إبراهيم” هكذا نعى الصحفي رشدي السراج زميله ورفيق دربه بعد استشهاده، وكان قبل 5 سنوات قد نعى صدقيه ياسر، لم يكن يعلم أنه يلتحق بخِلاّنه في جنات الخلود، وهو الذي كتب قبل استشهاده “لن نرحل، وسنخرج من غزة إلى السماء، ‏وإلى السماء فقط”، رحل إلى السماء حيث لا مكان لحرب ولا سباق لمجازر ولا إبادة مفتوحة، ولا جنون إجرام يعد من أشرس وأوحش ما مر في التاريخ المعاصر، وأمام أنظار العالم. رحل رشدي وحل ضيفا على رفيق قلبه. ألم يكونا رفيقي البداية؟ هُمُ الآن رفقاء النهاية أيضا، وأنْعِم بها غاية، كان الحلم أن يريا غزة من السماء؛ وهما الآن يحلقان فوق غزة ويريانها كما تمنيا.

علي نسمان الصحفي والناشط والفنان الذي أوجع قلوبنا جميعا. مقاطعه على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي شاهدة على قُوته وشجاعة خطاباته المليئة بكل معاني البطولة والعزة والثبات، نُشِر له مقطع يمازح أصدقاءه وهو يقول: “إلي فترة حاسس حالي مش مطول، حاسس أنو أيامي معدودة على الكوكب، صوِّر صوِّر، استغل وصور تريندات بكرا استشهد وتطلع بتريندات على صوت، أو تسألون لم يرحلون لا يرغبون فتات دنيا غابرة”. لقد ناله صاروخ الغدر وهو يتجول في الشارع بصدر عار سلاحه الكلمة والهاتف، وزفه المحبون على ذات الأنشودة: أو تسألون؟  لقد غاضتهم كلماته وخطاباته التي كان يوجهها تحت أسراب الصواريخ وأعمدة الدخان والبارود.

هبة الكاتبة الروائية كتبت قبل استشهادها وهي تنعي أصدقاءها وأصحابها ومعارفها “نحن في الأعلى نبني مدينة ثانية، أطباء بلا مرضى ولا دماء، أساتذة بلا ازدحام وصراخ على الطلبة، عائلات جديدة بلا آلام ولا حزن، وصحفيون يصورون الجنة، وشعراء يكتبون في الحب الأبدي، كلهم من غزة كلهم، في الجنة توجد غزة جديدة بلا حصار، تتشكل الآن”. وكانت وصية هبة قبل الاستشهاد بساعتين: “إذا متنا اعلموا أننا راضون وثابتون وبلغوا عنا أننا أصحاب حق”. ونحن يا هبة نشهد الله أننا سنبلغ عنكِ وعن 8000 شهيد و20 ألف جريح و1400000000 نازح، إلى حين كتابة هذا المقال، كل جرائم الحرب هاته التي أذهلت الحجر والشجر قبل بني البشر. ليسوا مجرد أرقام، كان لكل منهم بيت وقصة وعائلة وطموح وحلم وذاكرة وقلب مفجوع..

لهذا القهر تنتفض المقاومة الأبية، فمنذُ متى كان ممارس الإرهاب مدافعا عن نفسه ومقاوم هذه المجازر إرهابيا!؟ خسئت والله الموازين المختلة!

المقاومة الفلسطينية كسرت جدار الخوف وخرافة الجيش الذي لا يقهر، اخترقت الحدود وسيطرت على المواقع العسكرية خلف العدو، أجهزت على الجنود واستولت على أسلحتهم ودباباتهم، قتلتهم وأسرتهم وزعزعت الأرض تحت أقدامهم. جعلتنا نتلذذ بهرعهم في صحراء الغلاف هروبا من الموت أو الأسر. لقد شاهدنا تغريبتهم ولو لبضع دقائق.

تسببت المقاومة بهجرة عكسية لكل ابن يهودية يحمل جوازا أجنبيا، وجعلته يهرول لدولته التي لفظته بادئا: هذا ألماني وأخرى هولندية وثالث من الجحيم. لقد تعرت حقيقتهم الهشة التي أثبتت أنهم فراغ لولا أسلحة وعتاد الراعية اللذوذ أمريكا. وأما المقاومة وحاضنتها الشعبية فقد ازدادت متانة وقوة؛ بأسها بأس شديد.

وإلى حين موعد النصر سنظل نتلو آيات ربنا ونصدق موعوده: وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) صدق الله العظيم.