على ضفاف آيات.. آلاء الرحمان في شهر رمضان

Cover Image for على ضفاف آيات.. آلاء الرحمان في شهر رمضان
نشر بتاريخ

يقول ربنا عز وجل: يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اُ۬لصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي اَ۬لذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (182) أَيَّاماٗ مَّعْدُودَٰتٖۖ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً اَوْ عَلَيٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنَ اَيَّامٍ ا۟خَرَۖ وَعَلَى اَ۬لذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدْيَةُ طَعَامِ مَسَٰكِينَۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراٗ فَهُوَ خَيْرٞ لَّهُۥۖ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٞ لَّكُمُۥٓ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَۖ (183) ۞ شَهْرُ رَمَضَانَ اَ۬لذِےٓ أُنزِلَ فِيهِ اِ۬لْقُرْءَانُ هُدى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ اَ۬لْهُد۪ى وَالْفُرْقَانِۖ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ اُ۬لشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضاً اَوْ عَلَيٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنَ اَيَّامٍ ا۟خَرَۖ يُرِيدُ اُ۬للَّهُ بِكُمُ اُ۬لْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ اُ۬لْعُسْرَۖ وَلِتُكْمِلُواْ اُ۬لْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اُ۬للَّهَ عَلَيٰ مَا هَد۪يٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَۖ (184) [سورة البقرة].

إلهي ما أحلمك وما أكرمك! ما أعظمك وما أرحمك!  تكتب علينا وتيسّر، وتخفّف عنا ولا تُعسّر، وتبشّر ولا تنفّر.

يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اُ۬لصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي اَ۬لذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (182) أَيَّاماٗ مَّعْدُودَٰتٖۖ.

وكأنما يقول لنا سبحانه لا تحسبوا أنّا فرضنا عليكم الصيام وحدكم، لقد فرضناه كذلك على من كانوا قبلكم. ولسنا نكتبه عليكم لنعذّبكم بل لنطهّركم. ونعظم أجركم. ف: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به…» 1.

والصوم إمساك؛ إمساك جسد عن طعام وشراب وجماع من طلوع الشمس إلى غروبها، وإمساكُ نفسٍ عن أخلاطها وأخطائها، وحبسُ حواسٍ عن جرائرها، عن خائنة أعين، وزلاّت ألسن، وميل قلوب عن سوى المحبوب.

الصيام ربط النفس عن شهواتها، بل عن احتياجاتها… حتى تذعن، فيستسلم الجسد الطيني -العاشق للدنيا، المهووس بشهواتها، الرّاكن إلى زينتها، الملهوف على ملذاتها- للروح التائقة لربّها، المشتاقة إلى بارئها، الحانّة إلى وطنها، المتطلّعة إلى آفاق الطهر وروضات الأنس بسيدها لا بغيره. فيعلم المولى سبحانه ويرى ذلك منها، فيدنيها ويقرّبها ويبشّرها على لسان حبيبه وصفوة خلقه: «… والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ» 2.

وتأمّل -رحمك الله يا أُخيَّ- قوله صلى الله عليه وسلّم: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ»؛ إنّه مَقامُ العِنديَّةِ في حَضرةِ ربّ البريّة حتى تعلم أن رتبة الصَّومِ عَلِيَّةٌ.

الصوم وسيلة تربية، وشهر رمضان مساحة زمنية للتدريب، فهل من راغب مريد؟

أَيَّاماٗ مَّعْدُودَٰتٖۖ فبيّن سبحانه مقدار هذا الصيام، وأنه ليس على الدوام، إنّما هي بضعة أيّام. فاشكروا الله -عباد الله- على ما أولاكم من سابغ الإنعام، فلو شاء -سبحانه- لجعله واجبا على الدوام، ومن ذا يستطيع ردّ أمره إن صدرت عن جنابه الأحكام؟

فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً اَوْ عَلَيٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنَ اَيَّامٍ ا۟خَرَۖ ومن عظيم رحمته جلّ جلاله أن خفّف عن أصحاب الأعذار ممن أصابتهم الأسقام والأضرار، أو كانوا على تنقّلات وأسفار، فوهبهم الرخصة في الإفطار على أن يقضوا ما فاتهم بعد خروج رمضان، إلّا أن يكون مرضا مزمنا، أو عجزا دائما، فلهم أن يفطروا ويخرجوا فدية عن كل يوم أفطروه.

وَعَلَى اَ۬لذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدْيَةُ طَعَامِ مَسَٰكِينَۖ ولمّا كان الصيام مناسبة لتذوّق طعم الجوع والسغب، فقد جعل سبحانه فدية الإفطار فيه – لمن كبرت سنّه، أو ضعف بدنه، أو مرض مرضا مزمنا لا يطيق معه الصيام – إطعاما لأهل العجز والعوز. إطعام حدّه الأدنى أن يطعم المفطر مسكينا عن كلّ يوم، وحدّه الأعلى ما طابت به نفسه، فإنّما هو خير له ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراٗ فَهُوَ خَيْرٞ لَّهُۥۖ﴾ ثم حبّبهم في اختيار الصوم مع المشقة – في غير سفر ولا مرض- لما في الصوم من خير لهم. إذ ينمّي فيهم عنصر الإرادة، ويقوّي قدرتهم على التحمّل، ويعلّمهم إيثار عبادة الله على الراحة. وكلها عناصر مطلوبة في تربية المؤمنين. نعم لقد أعطاهم رخصة الإفطار، لكن لو علموا ما أعدّه جلّ جلاله للصائمين من عظيم الأجر والثواب، لفضّلوا الصيام. ولذلك قال لهم ناصحا: وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٞ لَّكُمُۥٓ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَۖ.

“واعلم أن الصيام على ثلاث درجات: صوم العوام، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص. أما صوم العوام: فهو الإمساك عن شهوتَي البطن والفَرْج، وما يقوم مقامَهما من الفجر إلى الغروب، مع إرسال الجوارح في الزلاَّت، وإهمال القلب في الغفلات. وصاحبُ هذا الصوم ليس له من صومه إلا الجوع، لقوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أنْ يدع طعامَه وشرابَه” 3.

وأما صوم الخواص: فهو إمساك الجوارح كلَّها عن الفَضول، وهو كل ما يشغل العبد عن الوصول، وحاصلُه: حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا يَعْنِي.

وأما صوم خواص الخواص: فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب، وحفظ السر عن الوقوف مع الغير، وحاصله: الإمساك عن شهود السَّوى، وعكوفُ القلب في حضرة المولَى، وصاحب هذا صائم أبداً سرمداً. فأهل الحضرة على الدوام صائمون، وفي صلاتهم دائمون، نفعنا الله بهم وحشرنا معهم. آمين» 4.

ثمّ يبين لنا سبحانه بأنّ هذا الصيام المفروض علينا، مخصّص بزمان معيّن هو سبحانه اختاره لنا. وهل يختار لنا جلّ جلاله إلاّ وقتا مباركا وزمنا ميمونا. فالشهر الذي اصطفاه المولى لأمّة حبيبه حتى يصوموه هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن.

شَهْرُ رَمَضَانَ اَ۬لذِےٓ أُنزِلَ فِيهِ اِ۬لْقُرْءَانُ هُدى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ اَ۬لْهُد۪ى وَالْفُرْقَانِۖ؛ إنّه شهر رمضان، شهر الرحمة والغفران، شهر العتق من النيران. إنّه موسم الغيث الربّاني والكرم الرحماني، حيث تتنزّل الرحمات، وتُمحى السيئات، وتُغفر الخطيئات، وتُرفع الدرجات.

يُعطي الملك المنّان سبحانه أوامره العليّة، فتُفتح أبواب الجِنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفّد الشياطين ومردة الجانّ… وينادي مناد: يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِر.

فيتسابق المريدون إلى أرض القلوب بمحاريث الصيام يحرثونها احتسابا وإيمانا، وببذور الذكر الكثير يزرعونها إتقانا، ثم بدموع الخشية في الأسحار يسقونها تزلفا وإيقانا، فإذا ما اهتزّت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج، عمدوا إلى طفيليات النفوس فاجتثوا جذورها إثباتا وبرهانا، حتى إذا ما أثمر زرعهم – بفضل الله وكرمه – أدّوا حقّه زكاة وصدقة وإحسانا.

فرمضان شهر القرآن، وأعظم نعمة جاد بها المولى علينا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو هذا القرآن الذي جعله سبحانه هدى للناس، أي هادياً لهم إلى طريق الوصول، وجعل فيه آيات واضحات دالاّت على الحلال والحرام، والحدود والأحكام، مفرقات بين الحقّ والباطل. فكلّ من يتدبّر القرآن، ويتبع منهاج المصطفى العدنان، إلا ويدرك أن المطلوب إحسان. إحسان بما هو عبادة بإيقان، وبرّ بخلق الله حولك من حجر وشجر ونبات وحيوان وإنسان، وتجويد في العمل وإتقان.

إحسان تجلى على سيد الورى خير الأنام، حتى فاضت ينابيع الخير منه صلى الله عليه و سلّم فرآه أصحابه أكرَمَ عطاءً، وأكثَرَ جُودا، وأعظَمَ نَفعًا لِلخَلقِ مِنَ الرِّيحِ الطَّيِّبةِ التي يُرسِلُها اللهُ عز وجلّ بالغَيثِ والرَّحمةِ. قال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ” 5.

فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ اُ۬لشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضاً اَوْ عَلَيٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنَ اَيَّامٍ ا۟خَرَۖ ويعود سبحانه ليؤكّد لنا على وجوب هذا الصيام في حقّ الأصحاء، كما يؤكّد أيضا على بقاء رخصة الإفطار لأصحاب الأعذار ممن شقّ عليهم الصوم بسبب الأسقام أو الأسفار، فسبحان العزيز الغفار.

يُرِيدُ اُ۬للَّهُ بِكُمُ اُ۬لْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ اُ۬لْعُسْرَۖ ألا تشعر – يا أخي – بدفء الكلمات، ولذّة العبارات، وحلاوة الإشارات… ألا تُحسّ بتنزّل الرحمات. ما ظنّك بربّ هو أرحم بعباده من أمّ حنون بولدها؟

يُرِيدُ اُ۬للَّهُ بِكُمُ اُ۬لْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ اُ۬لْعُسْرَۖ إنّها قاعدة عظيمة من قواعد هذا الدّين؛ التيسير لا التعسير، و التبشير لا التنفير. «يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا، ولا تُنَفِّرُوا» 6.

وَلِتُكْمِلُواْ اُ۬لْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اُ۬للَّهَ عَلَيٰ مَا هَد۪يٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَۖ فإذا أكملتم عدّتكم، وأتممتم صومكم، فلتعظموا بالتكبير ربّكم الذي أنعم بالهداية علـيكم وخصّكم بكرامته دون غيركم، واشكروه أن وفقكم لأداء ما كتب علـيكم فلولاه ما اهتديتم، ولولا توفيقه ما استطعتم.

وَلِتُكْمِلُواْ اُ۬لْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اُ۬للَّهَ عَلَيٰ مَا هَد۪يٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَۖ مضت أيام الشهر الفضيل بسرعة، وهلّ هلال شوال، وفرح المؤمنون بفطرهم، وابتهجوا بعيدهم، وطربت قلوبهم بذكر ربّهم فتعالت أصوات تكبيرهم امتثالا لأمر بارئهم.

وهكذا يسدل الستار على الشهر الكريم، وتطوى صفحات أيامه كما تطوى صفحات أعمالنا فيه، وتكتمل الصورة الساحرة. بدأناه والنفوس متراخية والأبدان متثاقلة تراه تكليفا صعبا لا قدرة لها عليه، ثمّ ها هو ذا ينتهي لندرك بأننا فقط كنّا واهمين، وأننا نملك من القوّة ما لا يعلمه إلا الله. فحينما ننظر إلى كلّ تكليف كُلّفنا به بعين الحبّ ندرك يقينا أنّه سبحانه لا يأمرنا إلا بخير، ولا ينهانا إلا عن شرّ، ونستلذ حينها حلاوة ذلك التكليف، وندرك ما شاء الله لنا أن ندركه من أسرار وأنوار.

فلا تنظر حفظك الله إلى ثقل التكليف، ولكن انظر إلى عظمة الجهة التي أتاك منها، فقد ضمن لك سبحانه التيسير والإعانة ورفع الحرج، وضمن لك المثوبة والأجر والفرج. فليكن قلبك موقنا مستقيما غير ذي عوج.

هذا هلال الصوم من رمضان

بالأفق بان فلا تكن بالواني

وافاك ضيفًا فالتزم تعظيمه

واجعل قراه قراءة القرآنِ

صمه وصنه واغتنم أيامه

واجبر ذما الضعفاء بالإحسان

واغسل به خطّ الخطايا جاهدا  

بهمول وابل دمعك الهتّان

لا غرو أن الدمع يمحو جريه

بالخدّ سكبًا ما جناه الجاني

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.


[1] أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151) واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151) واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري (1903)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] سيدي أحمد بن عجيبة في تفسيره البحر المديد.
[5] أخرجه البخاري (3220) و اللفظ له، ومسلم (2308) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[6] أخرجه البخاري (69) و اللفظ له، ومسلم (1734) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.