عشر عتبات بين يدي الوثيقة السياسية للعدل والإحسان (3)

Cover Image for عشر عتبات بين يدي الوثيقة السياسية للعدل والإحسان (3)
نشر بتاريخ

العتبة الثامنة: فلسفة الطرح

تنتظم الوثيقةَ فلسفةٌ واضحة ومقاصد لا تخطئها العين، فلسفة تتسلّل بين التفاصيل والاقتراحات، وتُشتَّم رائحتها في المداخل والمحاور، في التشخيص كما في الاقتراح. وإذا جاز لنا أن نستدعي عصارة هذه الروح التي حكمت الوثيقة وأصحابها، فهي ثنائية الإنسان والدولة؛ إنسان هو غاية كل سياسة، ودولة تنضبط للمأسسة والدمقرطة.

إن واحدة من أكبر خصائص المشروع التغييري الذي تحمله جماعة العدل والإحسان هو مركزية الإنسان، وهو الأمر المستمد من المرجعية الإسلامية التي تنطلق منها، إذ الإنسان مُكرَّم ومُكلَّف؛ مُكرّم بأن أراد له خالقه حفظ آدميته وممارسة حريته وعدم الاعتداء على حقوقه، ومكلّف بأن أراد له أن يكون فاعلا إيجابيا متحمّلا مسؤوليته تجاه ما يجري حوله، لا رقما على اليسار المهمل أو متفرجا من أريكته المنعزلة. هذه الفلسفة الإسلامية الأصيلة، الحاضرة بقوة في مرجع الجماعة الأستاذ ياسين، لم تتخلّف عن الوثيقة، بل حضرت بتجلياتها السياسية والمجتمعية الرئيسة.

وهكذا، وأنت تُقلبّ صفحاتها وتنظر في مقترحاتها، ترى أن المواطن المغربي هو مدار النقاش ورهان التغيير. إذ ناهيك على أن بناء الإنسان وتشييد مجتمع العمران الأخوي (ومحوره الإنسان أيضا) من أبرز غايات المشروع السياسي الاستراتيجي للجماعة، فإن الوثيقة، وهي طرح مرحلي، حافظت على هذه السِّمة المحورية؛ فإلى جانب الحق السياسي المركزي في اختيار الحاكمين عبر الاختيار الحر وكذا ربط الدولة المنشودة بصفات “العدل والكرامة والحرية” وتلك أبعاد إنسانية للسياسة، تريد العدل والإحسان من مبادرتها ضمان الحق في التعليم العمومي الجيد والمنصف لكل فئات المجتمع، وتأمين الحق في الصحة والتطبيب لكل المواطنين، وضمان الحقّ في الشغل مع تعويض الفاقدين للشغل لفترة معقولة، والحق في السكن المحافظ للكرامة الآدمية، وحماية حقوق السجناء… المرأة والطفولة والمسنّون وذوو الوضعيات الخاصة وغيرهم من الفئات الاجتماعية ستجد نفسها في وثيقة العدل والإحسان.

ولأن الأمر ليس جديدا، فقد سبق أن دعا الأمين العام للجماعة الأستاذ محمد عبادي (دجنبر 2016) إلى ما أسماها “دولة الإنسان”، معتبرا أن “الدولة الإسلامية هي دولة إنسانية”.

أما الدولة بما هي الكيان الجامع للمجتمع، وفي القلب منها السلطة الحاكمة والنظام السياسي، فهي الهدف المركزي للمشروع السياسي للجماعة. تخليصها من التسلط والاستبداد، والعبور بها من الحكم الفردي إلى حكم السيادة الشعبية، وإرجاعها إلى حضن الأمة حتى تنبع عنها وتترجم تطلعاتها، ذلك هدف ناظم لرؤية وهدف العدل والإحسان.

من مجتمع الدولة إلى دولة المجتمع، ومن السلطوية المدسترة إلى الدستور الديمقراطي، ومن تركيز السلط واحتكارها إلى فصلها وتوازنها، ومن أجل أن تكون الانتخابات هي مصدر السلطات، ومن المركزية المهووسة بالتحكم الأمني إلى اللامركزية الترابية والمجالية المنتجة، وكي ترتبط ممارسة المسؤولية بتقديم الحساب والمساءلة، ولإصلاح الإدارة والتخلص من الفساد… تلك وغيرها كثير، عناوين محورية حضرت في المحور السياسي بلغة مباشرة وظهرت في باقي المحاور وراء الأرقام والغايات. وجميعها تعكس رغبة الجماعة في “الإسهام في بناء دولة عصرية عادلة منضبطة للتعاقد الدستوري المنبثق عن الإرادة الشعبية، دولة مدنية بكل ما يعنيه ذلك من بعد عن طبيعة الدول التيوقراطية والعسكرية والبوليسية، دولة القانون والمؤسسات القائمة على الفصل والتوازن والتعاون بين السلطات، وعلى التداول السلمي للسلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة ومنتظمة وفعالة”.

العتبة التاسعة: سياق الاقتراح

جاءت الوثيقة في سياق يتّسم بجمود ورتابة بالغتين، وبغياب أي معنى حقيقي للممارسة السياسية، وبدخول المغرب في دوامة مُفرغة؛ انتخابات شكلية، تؤدي إلى مؤسسات محدودة الصلاحية والتأثير، فمناكفات بين أغلبية ومعارضة، ومشاكسات من مؤسسات موازية غير منتخبة، فمشاريع وتدابير وإجراءات غير مؤثرة، فانتخابات شكلية جديدة. يجري ذلك على عين مؤسسة ملكية تبسط يدها على الجميع ويمتد نفوذها إلى مراكز القوة الفعلية. وعلى الهامش من كل ذلك مجتمع مُغيّب وشعب غير فاعل.

لقد بلغ الوضع أن أصبح “موت السياسة” هو الوصف الأكثر تداولا لدى الباحثين الجادين في توصيف الوضع القائم منذ زمن، ومن تجلياته أن يصل الأمر بوزير أوّل مكلف بتشكيل الحكومة القبول بأن يضع مستشار ملكي ورقة صغيرة في جيبه، كتب له فيها أسماء الوزراء الذين ينبغي أن يختارهم! وأن يعاني رئيس حكومة ثان مكلّف بتشكيل حكومته من “بلوكاج” امتد إلى أشهر عديدة، حتى تم تغييره بصديق له من الحزب لتنفكّ عقدة “البلوكاج”! وأن يصبح التماهي واستمداد الشرعية غير مقرون بالفعالية في الإنجاز ولا بحيازة ثقة الناخبين، بل بالانتساب إلى الملك، فالأغلبية تتغنى بأنها “حكومة صاحب الجلالة” والمعارضة كذلك فهي “معارضة صاحب الجلالة”!

ومع هذا الوضع السياسي الفاقد للمعنى، والذي ما لبث أن تخلّص من التأثيرات المحدودة التي جاءت مع سياق الربيع العربي وحراك 20 فبراير المغربي، يعيش المغرب من جهة ثانية على وقع تذمر اجتماعي واسع وصامت، جرّاء الغلاء الفاحش والمتزايد منذ قرابة السنتين، وعلى إيقاع تضييق متواصل يطول كل رافض لهذا المشهد البئيس الذي تسيّدت فيه التفاهة، حتى بات اعتقال الصحفيين والناشطين الحقوقيين والمناضلين وحتى المدوّنين من عناوين المرحلة.

في سياق هذه عناوينه الرئيسة، ومع ما يتسم به من هبوط في كل شيء جرّاء “موت السياسة”، وغياب إرادة جادة لإصلاح الأوضاع، مع تسليم الفاعلين لما هو موجود كأنه قدر مقدّر أو قواعد سليمة في الاجتماع الإنساني، جاءت الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان بهذا العمق الصّادم لمسلمات الواقع، وبهذه المطامح الجذرية الداعية إلى إعادة التأسيس ثم إعادة الانطلاق.

هذا وفي الوقت الذي تؤكد فيه جماعة العدل والإحسان أنها توجّهت بوثيقتها السياسية إلى مختلف الفرقاء والفاعلين، دون أن تسمّي أحدا ودون أن تستثني أحدا، بما يوحي أنها تركت للجميع اختيار اصطفافاتهم وبما يومئ أنها تراهن على “طاولة الحوار” وجدّيتها ليحيا من حيي عن بيّنة، فإن هذه المبادرة السياسية في حاجة أكيدة إلى رافعة تضعها على “عتبة الإمكان”، وهو الدور المطلوب إلى الحلفاء الموضوعيين الذين تلتقي معهم الجماعة -تنسيقا وفعلا- على مستوى الميدان.

العتبة العاشرة: ماذا بعد؟!

قد يُقرّ كثيرون أن ما تريده جماعة العدل والإحسان للمغرب دولة ومجتمعا شيئا “طموحا”، لكن السؤال العالق هنا هو: كيف يتحقّق ذلك، والبون شاسع بين هذا الطرح المأمول والواقع القائم؟ ليلحقه سؤال أوّلي: ماذا بعد الوثيقة؟

دعونا في البداية نستحضر أن “واقعيين” كثرا يرون أن التحدي ليس في التنظير والتصور بل في القدرة على التنفيذ والتطبيق، وهو كلام فيه من الصواب بقدر ما فيه من الخطأ. إذ، وبعيدا عن فرضية أن جزءا من هذا الكلام قد يكون صادرا عن تطبيع مع واقع مختلّ أو استسلام غير واع لقواعد منحرفة، فإن كثيرا من الانحرافات في العمل تنشأ من أعطاب في العلم، ذلك أن إحكام النظر تشخيصا ثم اقتراحا يسهّل في مرحلة التنفيذ أجرأة التدابير وإعمالها، وإلا فإن واحدا من الاتهامات التي تُلقى في وجوه المعارضات الصلبة، ومنها تلك التي وصلت إلى الحكم مع الربيع العربي، أنها تعرف كيف تعارض ولا تعرف كيف تحكم، وأن بقاءها في المعارضة يُقوّيها ووصولها إلى السلطة يضعفها، وأنها تجيد النقض ولا تحسن البناء، وهي كلها اتهامات -إن صحّت- تنصب في المقام الأول على الرؤية والتصور، وتمسّ النظر العقلي الذي في تقديرهم لم يُحط جيدا بواقعه قبل أن يُنزل برامجه ومشاريعه إلى امتحان الميدان.

ومن ثمّ، كلما جوّدت القوى السياسية والاجتماعية وأحكمت رؤاها، كلما كان ذلك أفضل للحياة السياسية ولإمكانية النهوض بها. ولا شك أن ثمة علاقة جدلية بين الرغبة والقدرة، والكائن والممكن، والواقع والمأمول، والاستغراب يكون حقا حين تكون الاقتراحات “خارج دائرة الإمكان” وأقرب إلى الإعجاز والاستحالة، أما حين تكون ضمن “حدود الاستطاعة” السياسية والقانونية والاجتماعية، وتجدها مرهونة بالإرادة السياسية أكثر من ارتهانها لإمكانات البلد ومقدّراته، فإن طرحها على تلك الشاكلة قلب للحقائق، وعسف على الواقع، وإبراء لساحة السلطوية التي تَحْجُر على الديمقراطية، واتهام للمعارضة الناصحة لأنها أعادت طرح الأسئلة البسيطة والأوَّلية والمُؤسِّسَة.

سنجد أنفسنا إذا في خضمّ الجدل الأبدي والتدافع الأزلي بين الإرادات المتفاوتة، إرادة المحافظة على الموجود مهما كان موحشا، فترتّب أجزاء الصورة وعناصر الأسئلة بما يخدم تلك الإرادة، وإرادة الإصلاح والتغيير التي تشدّها دائما منطلقاتها الصلبة وتنظر إلى غاياتها السامية، فتقترح وتتحرك وتبادر وتصانع لعلها تحدث الاختراق تلو الاختراق ولتقترب المرّة تلو المرّة نحو “المثال” الذي تريد.

وعليه، ومع إدراكنا بأهمية البعد الاقتراحي في سير الحياة الجماعية وبضرورة التصور النظري العاصم من ضغوط الواقع والمستشرف لآفاق المستقبل، لا شك أن طرح العدل والإحسان لوثيقة سياسية من هذا الحجم والنوع يرتّب مسؤولية سياسية وأخلاقية على القوى الفاعلة والحيّة والمعارضة لتتفاعل بما يتناسب مع هذه المبادرة.

نعم، الوثيقة السياسية موجّهة إلى جميع الفاعلين كل من موقعه لعلّهم يبادرون إلى عمل يستنقذهم من السير المتخبّط المفضي إلى مآلات خطيرة، لكن الأكيد أن المعني الأول الذي عليه أن يبادر إلى النظر في الوثيقة وبحثها وتقييم مضامينها ومن ثم المبادرة الفعلية إلى “شيء ما” ملموس في الساحة، هو طيف متنوع من القوى السياسية والمدنية والحقوقية ومن الشخصيات المستقلة المعارضة لتوجهات الدولة المغربية وسياساتها القائمة. هذا الطيف، ومعه جماعة العدل والإحسان، معني باستثمار اللحظة لبحث إمكانية تشكيل جبهة أو حلف أو تنسيق يبدأ فعليا بما هو أكبر من الالتقاء الموضوعي في ساحات النضال والاحتجاج.

إن وثيقة سياسية من هذا النوع، حَرصت على المشترك السياسي والإنساني، وتخفّفت من أهدافها الاستراتيجية لصالح أهداف مرحلية جامعة، وقدّمت إجابات واضحة على كثير من أسئلة الفرقاء والشركاء، لا ينبغي أن يكون “أقصى تأثيرها” ضجة في الإعلام وتقديرات وإعجابات عند النخبة، بل يلزم أن تُولّد “مبادرة نوعية” يلتقي حولها ذلكم الطيف المتنوّع. والّذي أرى أن على طاولته ثلاث مهام مستعجلة: إنضاج تصورات مشتركة مبنية على حوارات مسؤولة وواضحة حول البديل المقترح، فتح حوار مع قوى وفاعلين وأسماء أخرى -من خارج تشكيلتها المعروفة- والبحث عن أرضية التقاء معها جوهرها الرغبة في إحداث التغيير، الانخراط في دينامية اجتماعية وسياسية تتجاوز التفاعل مع الخروقات الحقوقية والاجتماعية إلى فعل نوعي متواصل مؤثر.

إنّ وثيقة نوعية من هذا الحجم، لا يناسبها إلا مبادرة حقيقية جادّة تتشكل في ضوئها “جبهة مجتمعية”، تشتغل على تعديل ميزان القوى لصالح إرادة الإصلاح والتغيير.