طوفان الأقصى وغثاء السيل

Cover Image for طوفان الأقصى وغثاء السيل
نشر بتاريخ

من نافلة القول إن المقاومة الفلسطينية دشنت منذ السابع من أكتوبر المجيد طوفانا أكبر من مجرد عملية عسكرية تحرز من خلالها مواقع متقدمة في الصراع مع العدو الصهيوني، حيث أصبح الطوفان أكبر من مجرد عملية فدائية بطولية تعبر عن تفوق إرادة المقاومة على إرادة القسوة الصهيونية، إلى أن صار طوفانا على دعايات سادت وعمرت لعقود طويلة من الزمن، دعايات لم تصمد أمام طوفان الأقصى الذي عرى زيفها وتناقضها الفج مع الواقع: بداية من إسقاط أسطورة التفوق العسكري والمخابراتي الصهيوني، إلى زعزعة اليقين في السرديات الفكرية التي طالما بشر بها الغرب؛ من قبيل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والكونية… لقد أصبح طوفان الأقصى بداية فصل جديد في تاريخ الأمة الإسلامية والشعوب المستضعفة عبر العالم، إنه بمثابة الانقلاب التاريخي على سياق هيمن فيه على المنطقة تحالف الصهيونية والسلطوية وسردياتهما التاريخية والأدبية.

على قدر هذه القفزة النوعية التي دشنها طوفان الأقصى، من حيث كونها فتحت هامشا من الواجب على كل مناد بالتغيير الإسهام في اكتساب المزيد من المساحات داخله، عبر كل أشكال ووسائل التعبئة والضغط والمدافعة، فإنها تطرح أمام الشعوب والنخب سؤال المسؤولية في دعم هذا المد التحرري بالقطع مع هيمنة السلطوية والصهيونية، وهو ما لن تتم الإجابة عنه إلا من خلال الإجابة عن سؤال أي انتقالات يجب حسمها من خلال طوفان الأقصى؟ انتقال بمنطق العرفان لهذا الطوفان المبارك لا بمنطق التجاوز. إجمالا أحاول في هذه المقالة عرض وجهة نظر تخص أهم انتقالين يجب أن تعيشهما الأمة من خلال طوفان الأقصى. أسلك في مقالتي هذه مسلكا رومانسيا/حالما كما يصطلح عليه الأدباء، ولكن لا أنفي عنه نزعة تحليلية/تشخيصية مضمونها تسخير المعرفة والحركة من أجل التحرر، وهو ما لا أتحرج في التصريح به ابتداء لسبيين: أولا هذا مذهبي في المعرفة، فكل معرفة لا تخدم غاية سامية لا تستحق عناء الالتفات إليها، وثانيا تحديد الخيط الناظم للمقال حتى لا تتيه بنا التشعبات عن غايته المركزية.

عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله و ما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت” 1، هذا الحديث “المفتاح” لفهم حاضر الأمة بعيدا عن أمجاد ماضيها أو الأماني المعسولة التي ترتسم في أذهان أفرادها عن مستقبلها الموعود، بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، “هذا الحديث يرجعنا إلى الأرض والزمان والحالة المزرية. والمسافة بعيدة بين الموعود المشرق والظلام المحدق. بين الأمة المقاتلة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد الخلافة الراشدة الأولى وبين الأمة الغثائية اليوم […] لا تزال السِّمَةُ السائدة في سواد الأمة الخمولَ والوهْنَ” 2.

ذلك الحديث المفتاح يمكننا اعتباره، إن جاز القول، نموذجا تحليليا يمكننا على ضوئه فهم حاضر الأمة، واستيعاب مكمن دائها، وبالتالي فهم طبيعة دوائها، إن معضلة أمتنا كما يقدم الحديث: هي حب الدنيا وكراهية الموت، معضلة باطنية/قلبية تتعارض مع الشكل الخارجي الذي يقدم صورة معاكسة لأمة كثيرة العدد متعلقة بأشذاب التدين الظاهري. إنها أزمة تدين شكلي يخالف مضمون رسالة الإسلام، إنها أزمة إرادة قاعدة واهنة تستحلي الركون إلى الزاوية عوض الاقتحام.

إن هذا النموذج من التدين الشكلي السائد اليوم عند عموم الأمة، نموذج قد يقيم الدنيا ويقعدها في معارك فروعية كانت لتسعها رحمة اختلاف علماء الأمة، هذا النموذج الذي لا يهتز لحرمة دماء المسلمين المهرقة في أرض فلسطين لا يعدو أن يكون مجرد تدين يفتل في كبوة الأمة، ذا النموذج الغثائي، هو أول ما ينبغي على الأمة تجاوزه قصد صناعة نهضتها الحضارية الثانية وتحقيق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن النموذج الذي تتوق إليه الأمة وتشرئب له أعناقها، وهو ما يبرز جليا في كل لحظة من لحظات انفلاتها من عقال الغثائية، هو النموذج النبوي، نموذج الصحابة الكرام “النموذج الخالد”، في هذا الصدد يتساءل الأستاذ عبد السلام ياسين: “ما هو التركيب الاجتماعي الأمثل المطابق للإسلام؟” ويجيب رحمه الله: “النموذج العملي المعياري هو المجتمع الذي بناه رسول اللّه ﷺ” ولكن نموذج خالد بأي معنى؟ “ليس نموذجا بنخيله وحيطانه، وبساطة عيشه، وفروسية رجاله، وجمال سفره، وسيوف جهاده، كما يحلو لبعض الفاكهين أن يضحكوا ممن يتأمل ذلك النموذج الخالد. الخالد بالتربية التي رفعته من حضيض النسبة الأرضية إلى أوج الانتساب إلى اللّه تعالى، الخالد بالاقتحام الإيماني الذي وصله بمصادر القوة الإيمانية، وأوصله إلى أوج الانتساب إلى اللّه تعالى، وأوصله إلى الاعتزاز بالله عز وجل بدل الاعتزاز بالآباء والأجداد. الخالد بالدروس الإنسانية، والسياسية، والجهادية، التي أثلها لنا لنتعلم من آيات اللّه فيها وفي الكون والتاريخ البشري عامة حدود الإنسان في فرديته، وحركيته في انتمائه، واستيلاء النخوة القومية عليه، وما يصعد هذه النخوة حتى تصبح دافعا ساميا، أو يمكنها في النفوس فتستحيل نعرة مدمرة” 3.

هو إذن نموذج لا يقدس الأشكال، بل يعتبر بالمضامين أولا، نموذج ينطلق من المداخل الكبرى المؤسسة قبل الفروع والجزئيات، نموذج عمق وبناء غايته البناء الممتد في الزمن لا الحماس اللحظي العابر. هذا النموذج يناقض كل النماذج السائدة بين ظهراني أمتنا، نماذج، بكل حسرة، ليست في مستوى اللحظة ولا في مستوى التحديات المطروحة أمام الأمة اليوم.

إن كل نموذج في التدين يضع لنفسه سقفا لا يتجاوز الحفاظ على واقع هوان المسلمين بين الأمم وتحرير الإرادات، هو تدين يجب على الأمة الانعتاق منه إذ هو تدين مغشوش. إن الإسلام جاء رسالة إيمان وجهاد، يجتمع هذان المعنيان في غاية صناعة الإنسان المتحرر من كل ولاء لغير الله عز وجل، فلا ضامن للحرية سوى بناء نهضة حضارية على أسس رسالة الإسلام.

إن عظمة الأحداث مستمدة من عظمة تأثيرها وقيمة التحولات الناتجة عنها، فكما أن طوفان الأقصى ميلاد جديد للأمل في التحرر والانعتاق من كل أشكال القهر والاستبداد مهما اختلف القائمون وراءه، فهو بداية لتحولات جديدة سيشهدها العالم. لقد انطلقت في هذه المقالة من طوفان الأقصى بما هو تعبير عن إرادة كامنة في الأمة لصناعة نهضة شاملة، وغايتي أن يكون طوفان الأقصى المنطلق لتحول عميق في إرادة الأمة لصناعة تحول “استراتيجي” عميق ينتقل بنا من الغثائية إلى النموذج الحضاري الخالد. 


[1] أخرجه أبو داود في سننه.
[2] ياسين عبد السلام، مقدمات لمستقبل الإسلام، ص 34، موسوعة سراج الإلكترونية.
[3] ياسين عبد السلام، الإسلام والقومية العلمانية، ص 188، موسوعة سراج الإلكترونية.