مواقف في الاستبشار والتفاؤل

Cover Image for مواقف في الاستبشار والتفاؤل
نشر بتاريخ

 يعترض المؤمن محن وابتلاءات شديدة في حياته، تحتاج منه رباطة جأش ويقين في أن بعد كل عسر يسرا، وفي كل محنة منحة، يقين في الله تعالى أنها تطهير بعد تمحيص، وفرج بعد كرب ومخاض بعده فرحة ولادة تنسي ما سبقها من آلام، تتويج رب المنح لعباده الموقنين الصابرين.

ولنا في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مثال للاقتداء والتمثل والاتباع من خلال مواقفه التوجيهية المبشرة، فقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على غرس الأمل والتفاؤل في قلوب المؤمنين والمؤمنات، في قلب الأزمات والمحن، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عن صهيب بن سنان الرومي: “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله فيه خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له” [1].

وفي هديه صلى الله عليه وسلم وسيرة فضليات هذه الأمة مفاتيح تنير لنا طريق تمثل الاستبشار والتفاؤل في الحياة، نحاول استلهامها من خلال محورين اثنين؛ الأول نشير فيه إلى مواقفه صلى الله عليه وسلم في التفاؤل والاستبشار، بينما المحور الثاني نسوق فيه بعضا من النماذج النسائية التي أثبتت مواقفهن سعة صدرهن وتفاؤلهن في قلب الشدائد.

أولا: بعض مواقفه صلى الله عليه وسلم في التفاؤل والاستبشار

اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وعلمهم ورباهم على الاستبشار والتفاؤل مع الصبر والثبات، وكان يحذر من النظرة التشاؤمية التي تورث الإحباط والقنوط واليأس، فكان يقول صلى الله عليه وسلم: “إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم” [2]، وقال أيضا: “لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح، الكلمة الحسنة” [3]، وفي رواية: “لا طيرة وخيرها الفأل قيل: يا رسول الله، وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم” [4].

فالكلمة الطيبة الصالحة تبعث الاطمئنان والراحة للإنسان، وما أحوج الإنسان إليها في وقت الكرب والشدة، بما تعطيه من أمل وبشرى.

والطيرة من التطير وهو التشاؤم بالشيء يرى أو يسمع، ويظن وقوع المكروه به، وهو توهم ليس إلا، يؤكد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خير تلك الظنون “الفأل الصالح”؛ الكلمة الصالحة التي تجعله يحسن الظن بربه، وتريح قلبه وتشرح صدره، وقد جاء في رواية الحاكم في المستدرك؛ أنه لما نزل قوله تعالى في سورة الشرح: فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا [5]، خرج رسول الله صل الله عليه وسلم مسرورا فرحا وهو يقول: “لن يغلب عسر يسرين” [6]، فكان التفاؤل صفة من صفاته التي لم تفارقه على اختلاف الظروف والأحوال، بل كان حريصا على بعث الأمل والتبشير في أصعبها، فيحول ظلمتها نورا؛ يقينا في موعود الله بالفرج من كل نائبة، يعلمهم فضلا عن التصديق العمل وأخذ الأسباب وصولا لذلك الأمل المنشود. 

ولعل خير ما نستشهد به هنا؛ ما حدث له صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه في طريق الهجرة إلى المدينة وهما في أصعب الظروف في غار ثور، حيث المشركون يقفون على بابه لا يمنعهما منهم إلا قدر الله تعالى ويقينهما في التمكين لدعوة الله.

ونلمح استبشاره صلى الله عليه وسلم في قمة المحنة، يخفف عن الصديق هول الموقف، ويصور لنا المشهد أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: “نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما” [7]. وصدق الله تعالى حين قال: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [8]، يعلمنا سبحانه وتعالى أن نستحضر في قلب الابتلاء التوكل عليه والاعتصام به تعالى وحسن الظن به، مع السعي الحثيث للأخذ بالأسباب واستفراغ الوسع.

تمثل صلى الله عليه وسلم خلق التفاؤل قولا وفعلا، وأشع نوره وفاض ليس فقط على أصحابه بل على كل من لمس فيه الخير من غير المسلمين، مبشرا ومحببا ومرغبا فيما عند الله من خير، فها هو سراقة يطارده طمعا في الغنيمة التي أعلنتها قريش مكافأة لمن يجد الصاحبين الكريمين، فيبشره صلى الله عليه وسلم بسواري كسرى واعتناق دين الحق والسعادة في رحابه، والمشاهد أكثر من أن تحصى وتعد، كان فيها “نعم الدليل على الثبات في المبدأ، والوضوح في الرؤية والهدف، والمعيار الرباني والمقياس الإيماني للأمور، ولذا لم تكن المحن والأزمات يوما – مهما بلغت قسوتها وضراوتها – تخرجه عن طبعه واعتداله، أو تغير من أخلاقه وآدابه، وقيمه ومبادئه، أو تثنيه عن غاياته وأهدافه” [9].

وفي كل ذلك تعليم وتوجيه منه صلى الله عليه وسلم لنا كيف نجتهد في تحبيب الخير للناس، وكيف نستبشر في سلوكنا في طريق الدعوة المليء بالعقبات، من خلال “البشر والاستبشار والكلمة الطيبة، الكلام الواضح الهادئ الوقور، الإقبال على السائل وحسن الاستماع، الانبساط للناس، التبشير لا التنفير” [10]، كما يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله.

ثانيا: مواقف نسائية في الاستبشار والتفاؤل

هذا السلوك لم ينقطع، بل سرى نوره بين أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ونساء عهده ومن بعده. ويقينا سيبقى وهج تربيته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن حظ المرأة من تلك التربية النبوية العطرة أسوق بعض النماذج:

أولها: أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، في موقفها مع سيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليه، حين عودته من خلوته بغار حراء وهو يرتجف من هول ما رأى  حين نزل عليه الوحي، وهو يقول “زملوني زملوني”، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فأخبرها بما رأى وقال: لقد خشيت على نفسي، قالت: “الله يرعانا يا أبا القاسم، أبشر يا ابن عم واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، فوالله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق” [11].

اليقين بالله تعالى أنطق الزوجة والصاحبة والسند؛ “أبشر”، وهل هناك أكثر من هذه الكلمة في وقع لطافتها ونسمتها في قلب المخاطب في محنته، نعم “أشرقت أساريره وزايله روعه، فما هو بالكاهن ولا به جنة، وهذا صوت «خديجة» العذب الحنون، ينساب مع ضوء الفجر إلى فؤاده، فيبث فيه الثقة والأمن والهدوء” [12].

آوت الدعوة وصاحب الدعوة بكلمة هدأت من روع الحبيب عليه الصلاة والسلام، وفي موقفها ذاك الكثير له ولأمته من بعده، تلك الكلمة الإيجابية التي تصنع الرجال والنساء باعتبارها تعزز الثقة في النفس وترفع الهمم.

النموذج الثاني: موقف سيدتنا أسماء رضي الله عنها، من رشفت من معين التربية النبوية وتمثل في سلوكها صدقا ويقينا، ذاك المشهد السامي والراقي في مضمونه الذي سجلته السيرة مع الحجاج بن يوسف الثقفي،  وكان ابنها عبد الله بن الزبير قد تولى إمارة المسلمين لمدة ثمان سنوات، وكانت له الجزيرة العربية والعراق واليمن، ونازعه عبد الملك بن مروان وحاربه وأرسل إليه جيشا بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي، فأشارت سيدتنا أسماء على ولدها عبد الله بالتحصن بالكعبة، بعد أن شكا لها ما وصل إليه حال انقسام المسلمين وتخاذلهم في قوله: “لقد خذلني الناس، ولم يبق معي إلا اليسير وقد أعطاني الله ما أردت من الدنيا فما رأيك” [13]، فأجابته بيقين المتفائلين بما قدره الله تعالى: “يا عبد الله إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فامض عليه ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت لي إني كنت على حق، فلما ضعف أصحابي وهنت نيتي، فوالله ما هذا بفعل الأحرار ولا من فيه خير… والله لضربة بالسيف أحب إلي من ضربة السوط في ذل يا ابن الزبير. فقال لها عبد الله: يا أماه، أخاف إن قتلوني أن يمثلوا بجثتي ويصلبوني، فقالت له قولتها الشهيرة: يا بني إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، يا بني امض عل بصيرتك واستعن بالله” [14].

فخرج رضي الله عنه وقاتل قتال الأبطال الموقنين حتى استشهد، فصلبه الحجاج على باب المدينة [15]، وأرسل في طلب الأم الصابرة فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول: “لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني” [16]، ويأتيها صاغرا أمام أنفتها في الحق، “فقالت: كيف تستأذن علي وقد قتلت ابني؟ فقال: إن ابنك ألحد في حرمة الله، فقتلته ملحدا عاصيا حتى أذاقه الله عذابا أليما، فقالت: كذبت يا عدو الله وعدو المسلمين، والله لقد قتلته صواما قواما، برا بوالديه، حافظا لهذا الدين، ولئن أفسدت عليه دنياه لقد أفسد عليك آخرتك، ولقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنه يخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما أشر من الأول، وهو المبير” [17]، وما هو إلا أنت يا حجاج” [18].

موقف حافل بالدروس والعبر؛ صبر ويقين وقوة في الحق، مع التثبيت والتبشير بخير ما عند الله تعالى “يا بني امض على بصيرتك واستعن بالله”.

النموذج الثالث: امرأة من فضليات نساء التابعين؛ وهي أم الإمام الشافعي، “فاطمة بنت عبد الله الأزدية”، تلك المرأة المناضلة التي فقدت الزوج في عمر الزهور وابنها لا يبلغ من العمر إلا السنتين، تحملت شظف العيش ومرارة الفقد، ولم تيأس وترضخ للأحزان أو تستسلم، بل عاشت على أمل أن ترى ابنها علما من أعلام الله في العلم والحق.

انتقلت السيدة فاطمة بابنها من عسقلان بأرض الشام بعد موت زوجها إلى مكة، حيث كانت في ذلك الوقت أرض العلم والعلماء وفي نيتها إلزامه التتلمذ على فقهائها، وتعهدته بالرعاية والنصح والتوجيه حتى بلغ ما بلغه من العلم، فكان محدثا وفقيها، بل “حجة في العلم كله” [19]، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.

وحياة هذه السيدة مليئة بالعقبات والمحن، تحملت الكثير من أجله ولأجل خدمة الأمة، فهي قدمت لها علما خدمها بعلمه وفقهه، صبرت وساندت الابن وكانت معه في محنته تواسيه وتبشره. ولعل ما نعتبر به من هذه السيرة؛ أن الصعوبات إذا اقترنت بعلو الهمة فهي بالتأكيد محفز يبعث على الأمل والتفاؤل وليس عقبة نستسلم لها.

والنموذج الرابع والأخير: هو نموذج المرأة الفلسطينية، فعلى الرغم من الصعوبات التي تعيشها في ظل الاحتلال تحت وطأة الإرهاب والتقتيل والتهجير والأسر، تظل ثابتة صابرة وكلها أمل ويقين بأن الغد أفضل، وأن الأرض المغتصبة ستتحرر يوما وترى النور، لذلك نجدها صامدة ثابتة في وجه العدو لا يثنيها إرهابه عن مواصلة السير قدما نحو النضال والكفاح، يقينا في أن الأمل لا يتحقق إلا بالعزم الصادق والهمة العالية من أجل البناء والتغيير. 

لذلك سطرت المرأة الفلسطينية أروع الأمثلة في التفاؤل والاستبشار، من خلال ملاحم بطولية في مسار القضية الفلسطينية على اختلاف أحداثها ونكساتها، فكنّ بحق أيقونات في النضال والأمل، حاضرات بفعالية في جميع المواقع الاجتماعية والسياسية والعسكرية وغيرها، يقتحمن العقبات ومواطن الموت، وقد سجل تاريخهن العديد من الأسماء ولا زال؛ حافزهن كان التفاؤل بتحرير الوطن والعيش الكريم.

وجملة القول؛ إن مما يؤكد أهمية خصلة اليقين والتفاؤل في حياة المؤمن والمؤمنة، وصيته صلى الله عليه وسلم الخالدة بتعلم اليقين كما كان يتعلمه. حيث كانت هذه الخصال دأبه صلى الله عليه وسلم ودأب صحبه الكرام، مستغرقة كل حياتهم.


[1] رواه صهيب بن سنان الرومي في صحيح مسلم، الرقم 2999.

[2] رواه أبو هريرة في صحيح مسلم.

[3] رواه أنس بن مالك، صحيح الأدب المفرد، الرقم 701.

[4] رواه أبو هريرة، صحيح مسلم، الرقم 2223.

[5] سورة الشرح، الآية 5-6.

[6] بدائع الفوائد، ج2، ص155.

[7] صحيح البخاري، رقم 3653، وفي صحيح مسلم، 2381.

[8] سورة التوبة، الآية 40.

[9] إبراهيم بن عبد الله الدويش، تفاؤله صلى الله عليه وسلم في الأزمات، دار الميمان للنشر، والتوزيع، ط1، 1436هـ-2015م، ص 12.

[10] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص279.

[11] رواه مسلم في الصحيح، والسيرة 1/253، وعيون الأثر 1/83.

[12] عائشة عبد الرحمن، نساء النبي، دار الكتاب العربي، ط 1399هـ/1979م، ص 46.

[13] عمر أحمد الراوي، نساء حول الرسول، دار الكتب العلمية ، ط1، 1423هـ/ 2002م، بيروت، ص9.

[14] نجوا عبد العزيز، نساء في حياة الرسول صل الله عليه وسلم، مكتبة الصفا، ط1، 1422هـ/2002م، القاهرة، ص63-62.

[15] بسام محمد حامدي، نساء حول الرسول صل الله عليه وسلم، دار دانية للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1413هـ/1993م، بيروت، ص355.

[16] رواه أبو نوفل بن أبي عقرب في صحيح مسلم، الرقم 2545.

[17] ابن كثير، البداية والنهاية، بيت الأفكار الدولية، ط1، 2004بيروت، ج8، ص375.

[18] المستدرك عل الصحيحين، كتاب الفتن والملاحم، ج5، ص835.

[19] منازل الأئمة الأربعة، ص 222.