صناعة الحرية (55).. لكل سجن كُتبه.. ولكل كاتب أسلوبه

Cover Image for صناعة الحرية (55).. لكل سجن كُتبه.. ولكل كاتب أسلوبه
نشر بتاريخ

لكل سجن كُتبه.. ولكل كاتب أسلوبه

من الحرية “أن لا يُمنع أحد من الأفراد أن يكتب ما يظهر له من المصالح في الكتب والجرنالات التي تطلع عليها العامة، أو يعرض ذلك على الدولة والمجالس، ولو تضمن الاعتراض على سيرتها” 1 كما قال خير الدين التونسي (ت1890م)، لكن الأستاذ لم يسمح له بذلك، فتجلَّد للكتابة بحرية ولو من داخل السجن، إذ كتب أغلب ما كتبه في السجون الثلاثة، أي بالمدن الثلاث (مراكش والرباط وسلا)، ونحت أسلوبه الخاص في الكتابة، بل صنع جهازه المفهومي المتفرد 2 عن غيره من الكُتاب والمفكرين، فمن يقرأ له يجده فريدا في أسلوبه، وهذه عادة الكُتاب الكبار لما يُطوعون اللغة ويصنعون المضامين بطريقتهم الخاصة، فيبصمون الكتابة ببصماتهم المتميزة، حتى مواضع تأوهاتهم تدل على نمط شخصيتهم ومستوى عمق تفكيرهم، وهو الذي قال عن أسلوبه: “كتبت ما سطرتُ من دواة قلبي وروحي، وبمداد همي ودمي” 3، و”ما كتبه الرجل جزء من ذاته، وعصارة من تجربته، وترجمان عن همته، وإفصاح عن مكنوناته” 4، وبفضل صحبته للقرآن الكريم استمد خصائص البلاغة القرآنية وأحسن فهم المفردة القرآنية وامتداداتها الدلالية، لذلك تجد “منهجية الكتابة لدى الشيخ ياسين تخرج عن المتعارف عليه، وتكاد تكون نسخة من منهجيات رجال العلم الأولين في تاريخ الإسلام، فهو يدخل بك مدخلا ثم تجد نفسك في مخرج غير الذي ولجت منه، كما أن منهجيته سجالية في الكثير من المواضع، فيها الجدل والمساءلة والنفي والتأكيد؛ وهو فوق ذلك كاتب متطلب في بعض مؤلفاته، بمعنى أنه يفترض قارئا لديه خلفية معرفية يستطيع بها متابعة الجدل الذي يفتحه” 5.

مع العلم أنه لا يكتب من أجل الكتابة، وإنما يكتب من مختبر الفعل، ولا يكتب كتابة هشة كما يسميها دريدا 6، فهو يحول كلامه إلى أفعال محسوسة ووقائع ملموسة، ولا يكتب الرجل بمنهجية أكاديمية كما تعارفت عليها التقاليد البحثية، وإن كان يعرفها وسبق أن كتب على منوالها مؤلفاته البيداغوجية والتربوية الأولى (1961-1963)، غير أنه اختار أسلوبا خاصا لا تخطئه عين القارئ الحصيف، يقول المقرئ أبو زيد الإدريسي: “الأستاذ عبد السلام ياسين مدرسة نسيج وحدها بين المدارس الأسلوبية العالمية” 7، فهو يحيا بقلبه وعقله ما يكتبه قبل أن يستشكل موضوع مخطوطه ويوزع فصوله، ويتفنن في التعبير عنه. ولا يقلل من شأن الكتابة الأكاديمية التي يستدعيها أحيانا، لكنه لا يعول عليها ولا يدعو إليها، وقد علق على خرقه لقواعد الكتابة وفق “المنهجية الأكاديمية” في كتابه الإحسان بقوله: “لستُ من قيس ولا قيس مِنِي!” 8.

وعن قصور الدراسات الأكاديمية أحيانا عن التعبير عن الواقع والعمل على تغييره يقول عبد الوهاب المسيري رحمه الله (ت2008م): “الدراسة الأكاديمية هي الدراسة التي يكتبها أحد المتخصصين الأكاديميين دونما سبب واضح ولا تتسم بأي شيء سوى أنها “صالحة للنشر” لأن صاحبها اتبع مجموعة من الأعراف والآليات البحثية (من توثيق ومراجع وعنعنات علمية موضوعية) تم الاتفاق عليها بين مجموعة من المتخصصين والعلماء. والهدف عادة من مثل هذه الكتابات (التي يُقال لها “أبحاث” مع أنها لا تنبع من أية معاناة حقيقية ولا تشكل “بحثًا” عن أي شيء) هو زيادة عدد الدراسات التي تضمها المسيرة العلمية للأكاديمي صاحب الدراسة. فتتم ترقيته، فالصالح للنشر هو عادة ما يؤهل للترقية. قد تقوم الدنيا ثم تقعد وقد يُقتل الأبرياء وينتصر الظلم وينتشر الظلام، وصاحب “البحث” لا يزال يكتب ويوثق ويعنعن وينشر، ثم يكتب ويوثق ويعنعن وينشر، وتدور المطابع وتسيل الأحبار ويخرج المزيد من الكتب. ثم يذهب صاحبنا إلى المؤتمرات التي تُقرأ فيها أبحاث أكاديمية لا تبحث عن شيء ليزداد لمعانًا وتألقًا، إلى أن يعين رئيس المجلس الأعلى لشؤون اللاشيء الأكاديمي، يتحرك في عالم خالٍ من أي هموم إنسانية حقيقية -عالم خالٍ من نبض الحياة: رمادية كالحة هي هذه المعرفة الأكاديمية، وذهبية خضراء هي شجرة المعرفة الحية المورقة” 9.

لعل المسيري رحمه الله وهو ينتقد آفة البحث العلمي الأكاديمي البارد الذي يُسود الورق ويملأ المكتبات، لكنه لا يمتع الروح ولا يعمر الأرض، كما هو الأمر في غالب القول الأكاديمي في عالمنا العربي، يضع إصبعه على ما رفض الأستاذ ياسين الخضوع له وتسييج كتاباته به من آليات تقنية صارمة وقوالب شكلية مستوردة لا تسأل عن المعنى ولا تزعج “المجتمع العلمي” بتعبير طوماس كوهن (ت1996م)، ولا تحرج “المجتمع السياسي”، ولا تخالف “الثوابت الفكرية”، ولا عليك آنذاك أن تكون خالية من الروح وفارغة من نبض الحياة. فماذا تنفع عنعنة البحوث إذا فترت همة الباحثين؟

في برنامج الكتابة

أما عن برنامجه في الكتابة، فيظهر من خلال تواريخ تدوينه لمقدمات وخواتيم كتبه ورسائله أنه يدون أغلب كتبه في جوف الليل، وأحيانا يكتب في الظهيرة، تقول زوجه رحمها الله: “كان يكتب إما في النهار -إذا لم تكن لديه مواعيد مع الزوار- من الواحدة ظهرا إلى العصر، أو يكتب في الليل بعد القيام. وقد يجالسنا وإذا خطرت عليه فكرة يسارع إلى مكتبه ليكتبها، بل وقد يستيقظ من النوم ليكتب فكرة ثم يعود إلى النوم، وكانت مدة الكتابة تستغرق من ثلاثة أشهر إلى ستة حسب كل كتاب. وكان يلزمه الكثير من التركيز في الكتابة لذلك كنتُ أمنع الأبناء الصغار والأحفاد من الدخول عليه لكيلا يقطعوا حبل تفكيره. وكان يفرح عند الانتهاء من تأليف كتاب ويقول: هذا مولود جديد يسره الله تعالى، نفع الله به الأمة الإسلامية والناس أجمعين” 10.


[1] التونسي، خير الدين. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 2012م، ص 117.
[2] انظر: السّلاسي، الحسن. الجهاز المفهومي في نظرية المنهاج النبوي عند الأستاذ عبد السلام ياسين، مطابع أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 2015م.
[3] ركراكي، منير. “الإمام أديبا”، ضمن كتاب جماعي بعنوان “الإمام عبد السلام ياسين بعيون من صحبوه”، مرجع سابق، ص 72.
[4] المرجع نفسه، والصفحة.
[5] الكنبوري، إدريس. “بين عبد السلام ياسين وابن تيمية”، مقال منشور بموقع الجماعة (aljamaa.net)، بتاريخ 10 دجنبر 2014م، وشوهد في 25 ماي 2020م.
[6] انظر: Derrida, Jacques. « Je suis en guerre contre moi-même», www.lemonde.fr, Publié le 18 août 2004, Je l’ai visité le 25 Avril 2020.
[7] نقلا عن: ركراكي، منير. “الإمام أديبا”، مرجع سابق، ص 67.
[8] ياسين، عبد السلام. الإحسان، مرجع سابق، 1/11.
[9] المسيري، عبد الوهاب. رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط1، 2000م، ص 259.
[10] المالكي، خديجة. “الإمام زوجا وأبا”، مرجع سابق، ص 14.