صلة الرحم.. فوائد وطرائق

Cover Image for صلة الرحم.. فوائد وطرائق
نشر بتاريخ

لا شك في أن صلة الرحم من أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل، وهي تعد من الأمور الواجبة على كل مسلم، كما أنها تحق له، وذلك بأن يصل ويوصل. ولعظم شأنها ربط الله تعالى بينها وبين البركة في الوقت والرزق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ له فِي رِزْقِهِ، وأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ” (1).

ماهية صلة الرحم

 الصلة في اللغة؛ يقال: وصلت الشيء بغيره وصلا، فاتصل به، ووصلته وصلا وصلة، ضد هجرته، وواصلته مواصلة ووصالا (2).

وهو مصدر وصل الشيء بالشيء، أي ضمه إليه وجمعه معه (3).

 أما الرحم في اللغة؛ فهي موضع استقرار الجنين في بطن الأم، ويقصد بالرحم أيضا القرابة.

وصلة الرحم اصطلاحا هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة، وتارة بالسلام (4).

“وتارة بطلاقة الوجه، وتارة بالنصح، وتارة برد الظلم، وتارة بالعفو والصفح، وغير ذلك من أنواع الصلة على حسب القدرة والحاجة والمصلحة” (5).

حكم صلة الرحم

صله الرحم واجبة على كل مسلم بدليل قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ *  أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ (محمد، 22 – 23).

وقال تعالى في سوره النساء: وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (النساء، 1)، وقال تبارك وتعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (الأنفال، 75).

وحول هذه الآية؛ يؤكد ابن كثير  أن المعنى لقوله تعالى: “في كتاب الله”: حكم الله، وأنها ليست خاصة بالأرحام الذين يذكرهم علماء الفرائض؛ الذين ليس لهم فرض، وليسوا من العصبة، بل الحق أن الآية تشمل جميع القرابات، كما نص عليه ابن عباس رضي الله عنهما وغيره (6).

أما الأدلة الواردة في السنة النبوية فنسوق منها قوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ” (7).

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الرَّحِمُ شِجْنَةٌ، فمَن وصَلَها وصَلْتُهُ، ومَن قَطَعَها قَطَعْتُهُ” (8).

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يصل أقاربه وأرحامه، حتى قبل أن ينزل عليه الوحي عليه الصلاة والسلام، ولا أدل على ذلك من قول أمنا خديجة رضي الله عنها، عندما نزل الوحي مؤازرة له: “كلَّا! والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق” (9).

وقد حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلة الرحم، وذلك لأنها أحب الأعمال إلى الله تعالى، لقوله: “مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ له فِي رِزْقِهِ، وأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ”.

تختلف صله الرحم بحسب درجة القرابة، فكلما ازدادت القرابة تأكدت الصلة وزادت شدتها، والأرحام هم الأقارب من جهة الأب والأم وإن بعدوا، كما بين ذلك ابن حجر الهيثمي رحمه الله.

طرق صلة الرحم

لعل ما ذكرناه سابقا في التعريف يلخص طرق صلة الرحم، فقد تكون الصلة بالزيارة والاستضافة والتفقد بالسؤال عنهم والسلام عليهم، أيا كان السؤال؛ عن طريق الهاتف أو إرسال رسالة أو الذهاب إليهم، وإن كانت الزيارة الحضورية أفضل، خاصة في وقتنا الحاضر الذي غيبت وسائل التواصل الحديثة التواصل التقليدي والزيارة، وتكون أيضا بالعطايا والصدقة والهدية، وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الصدقةُ على المسكينِ صدقةٌ وعلى ذي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ؛ صدقةٌ وصِلَةٌ” (10).

فوائد وفضل صلة الرحم

جعل الله تعالى لصلة الرحم فوائد وآثارا كثيرة تعود على المسلم في دينه ودنياه بالخير، فجعلها سبحانه سببا لغفران الذنوب والمعاصي، فقد ورد في الحديث، عن عبد الله بن عمر، “أنَّ رجلًا أتَى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أصَبتُ ذنبًا عظيمًا، فَهَل لي مِن تَوبةٍ؟ قالَ: هل لَكَ مِن أمٍّ؟ قالَ: لا، قالَ: هل لَكَ من خالةٍ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فبِرَّها” (11).

واقترنت البركة في عمر الإنسان بصلة الرحم، وتكون البركة بتوفيق المسلم لعمل الخير في الحياة الدنيا وتبقى آثار وصله الرحم بعد الموت، ويكون بالذكر الطيب والذرية الصالحة، التي تدعو للواصل رحمه بعد موته، والصدفة الجارية، والعلم النافع.

وصلة الرحم تقي الإنسان من ميتة السوء، وتحميه من المكروه، فعن سيدنا علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من سرَّهُ أن يُمَدَّ لَهُ في عمرِهِ ويوسَّعَ لَهُ في رزقِهِ ويُدفعَ عنهُ ميتةُ السُّوءِ فليتَّقِ اللَّهَ وليصِلْ رحمَهُ” (12).

وصلة الأرحام من أسباب دخول الجنة، فعن أبي أيوب الأنصاري، رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: “تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم” (13).

وهي تقوي الروابط الأسرية بين الأقارب، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “والله، إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه شيء ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم لردعه ذلك عن انتهاكه” (14).

ويقول الزبيدي شارحا قولة عمر رضي الله عنه: “مروا الأقارب أن يتزاوروا ولا يتجاوروا” (15): “أي يزور بعضهم بعضا رغبا؛ فإن ذلك يورث الألفة والمحبة، (ولا يتجاوروا) أي: لا يساكنوا في محل واحد، وإنما قال ذلك؛ لأن التجاور يوجب التزاحم على الحقوق، وربما يورث الوحشة، وترفع الحرمة والهيبة، فيفضي إلى قطيعة الرحم والتدابر” (16).

ومن فضل صلة الرحم كذلك، أن الله تعالى يصل من وصلها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ منه قامَتِ الرَّحِمُ، فقالَ: مَهْ، قالَتْ: هذا مَقامُ العائِذِ بكَ مِنَ القَطِيعَةِ، فقالَ: ألا تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَن وصَلَكِ، وأَقْطَعَ مَن قَطَعَكِ، قالَتْ: بَلَى يا رَبِّ، قالَ: فَذَلِكِ لَكِ، ثُمَّ قالَ أبو هُرَيْرَةَ: فَهلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ [محمد: 22]” (17).

ومقصود هذا الكلام كما قال القرطبي: “الإخبار بتأكد صلة الرحم، وأنه تعالى قد نزلها منزلة من قد استجار به فأجاره، وأدخله في ذمته وخفارته، وإذا كان ذلك، فجار الله تعالى غير مخذول، وعهده غير منقوض” (18).

‌يقول الإمام رحمه الله تعالى: “ألا إن مجتمعنا مفتون، ولا يمكن طلب الاستقامة من الناس، ومن نظام الأسرة والمجتمع المتأثر بالجاهلية المبني على قيمها، قبل أن نعيد بناء الإسلام.

قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (لقمان، 14 – 15).

وانظر عند الشيخين قصة جريج حين قدم صلاته على تلبية حاجة أمه. فهي موعظة لنا ألا نعق والدينا، ولا نقاطع أقاربنا، باستعلاء العابد الذي يحسب أن ركعاته تغنيه عن بر من أمرنا ببره” (19).

اللهم ارزقنا بر والدينا أحياء وأمواتا بصلة رحمنا، واجعل اللهم صلاتنا وسلامنا دائما على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو الرحمة وهو الشفاعة وهو الوسيلة وهو الأمان يوم الفزع الأكبر، والحمد لله رب العالمين.


(1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم، (8/ 5)، برقم: (5986). ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، (4/ 1982)، برقم: (2557).

(2) المصباح المنير، ج2، ص 662.

(3) معجم لغة الفقهاء، ص 475.

(4) المصدر نفسه.

(5) سعيد بن علي بن وهف القحطاني، صلة الأرحام في ضوء الكتاب والسنة، ص 6.

(6) تفسير ابن كثير، ص 595.

(7) أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، 6138.

(8) أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، 5989.

(9) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، رقم 160.

(10) أخرجه الترمذي (658)، والنسائي (2582)، وابن ماجة (1844)، وأحمد (16278) باختلاف يسير.

(11) صحيح الترمذي، 1904.

(12) أخرجه عبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (1213) واللفظ له، والبزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (13/465)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3014).

(13) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، رقم 5983.

(14) المروزي، البر والصلة، ص 62.

(15) رواه قتيبة في عيون الأخبار، ج 3، ص 88.

(16) فهد بن سريع بن عبد العزيز النغيميشي، صلة الرحم ضوابط فقهية وتطبيقات معاصرة، مكتبة دار المنهاج، ص49.

(17) أخرجه البخاري في صحيحه، 7502.

(18) المفهم، ج 6، ص 525.

(19) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ط 1989/1، ص 144.