صدقتِ اللهَ فصدَقها (2)

Cover Image for صدقتِ اللهَ فصدَقها (2)
نشر بتاريخ

صداق وافر… وعرس ملكي

تمت خطبة أم المؤمنين أم حبيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان زواجا مع وقف التنفيذ – إلى حين – لحدوثه في ظروف استثنائية، ولكن لا بأس فسيدتنا أم حبيبة لديها من احتياطي الصبر والتؤدة ما يكفي لمثل هذه الظروف، ويكفيها شرفا أن تصبح أما للمؤمنين، فتلك مكانة لا شك تطمح إليها كل امرأة مؤمنة. 

وكان حفلا ملكيا راقيا، يجلله الوقار وتعلوه السكينة، إذ طلب النجاشي جعفر بن أبي طالـب رضي الله تعالى عنه ومَنْ هناك من المسلميـن فحضروا فخطب النجاشي معلنا طلب تزويج السيدة المصونة أم حبيبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تقدم وكيل العروس وابن عمها سيدنا خالد بن سعيد مجيبا طلب وكيل رسول الله ومستلما أربع مائة دينار صداقا، ثم أولم النجاشي للحاضرين عملا بسنة الأنبياء إذا تزوجوا.

زواج يرأب المتصدع ويجبر المكسور

وكان هذا الزواج مدعاة فخر واعتزاز لأبي سفيان وهو لا يزال على شركه، وتمهيدا لإسلامه وبداية لسعادته الأبدية، حيث لم يملك نفسه عندما سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار صهرا له أن قال: (هو الفحلُ لا يُجْدَعُ أنفُهُ)؛ أي هو الكفء الكريم الذي لا يرد ولا يعاب. وكذلك كانت كل العرب، رغم اختلافهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجرؤوا على قول ما ليس فيه ولا نفي صفاته وأخلاقه، فأين أخلاق العرب اليوم منها بالأمس؟ ما أحوجنا اليوم إلى مروءات الأمس تحفظ أدب الاختلاف وتدفع أذى الزور والبهتان.

العودة الميمونة

التحقت السيدة الطاهرة العفيفة بالبيت النبوي سنة سبع للهجرة بعد اغتراب دام أربعة عشر سنة، فاحتفل البيت النبوي لقدومها، واحتفلت نساء المدينة فجاءت وفودهن مهنئات ومباركات، وأولم خالها عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فذبح الذبائح وأطعم الناس اللحم فرحا بمقدم قريبته المصونة وإكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت والوفد المرافق لها من المهاجرين الأولين إلى أرض الحبشة، فوجدوا الحال غير الحال حيث أصبح للمسلمين قوة وللإسلام صولة، فقد كان المسلمون عائدين لتوهم من فتح خيبر بعد تواطؤ اليهود ونقضهم العهود، فجعل الله تعالى أموالهم غنائم للمسلمين حتى قال رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: والله ما أدري بأيّهما أفرحُ؟ بفتح خيبر؟ أم بقدوم جعفر”.

مواقف أم حبيبة

سرعان ما خانت قريش بدورها العقد الذي أمضوه في صلح الحديبية فحانت مناجزتهم، فلما أحسوا بالخطر يتهددهم أرسلوا سيدهم أبا سفيان عله يفلح في تمديد الصلح، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطهم ذلك فأسقط في يد أبي سفيان، ولكنه لن يعدم الحيلة، كيف وابنته في بيت رسول الله.

لم يتردد أبو سفيان في استغلال هذه الورقة لصالح قريش فأتى ابنته التي لم يرها ولم تره سنين طويلة، وأراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لم يرعه إلا وابنته تجذب الفراش من تحته وتبعده عنه. 

ماذا فعلت يا أم حبيبة، أهكذا تستقبلين والدك بعد طول غياب؟ لكن مهلا، فأم حبيبة أولى الناس ببر الوالدين والإحسان إليهما، ولو كان الأمر في حدود العلاقات الشخصية والعائلية لأخذت أباها بالأحضان حتى وهو على شركه، لكنه لم يأت زائرا ولا متفقدا بل جاء في مهمة دبلوماسية يخدم فيها قضيته، قضية الولاء التي يترتب عليها المصير في الدنيا والآخرة، وهي لا تريد أن يكون أبوها، لحمها ودمها، معاديا لله ورسوله، فيكون مصيره إلى النار، يقول تبارك وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (التحريم: 6).

ثم إن ولاءها يتطلب البراء من الشرك والمشركين حتى ولو كانوا أولي قربى. ولولا ثبات أم حبيبة والمؤمنين الأولين ومقاومتهم الضعف البشري المتمثل في حب ذوي القربى لما بلغ الإسلام مبلغه في ظرف وجيز. يشهد لهذا كله فرح الابنة البارة أم حبيبة عندما علمت خلال الفتح الأكبر أن رسول الله آثر أباها بجعل بيته مكانا آمنا لمن لجأ إليه، وفرحها الشديد لما حقق الله تعالى مرادها وأكرم أباها وقومها بالإسلام.

أم حبيبة وشجاعة طلب الصفح

لا زلنا مع مواقف سيدتنا أم حبيبة الجريئة والمقدامة، فها هي رضي الله عنها لما أحست بدنو الأجل تريد أن تتحلل من كل ما قد يشوب علاقتها بربها من شوائب الدنيا، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الضرائر. وما كل الناس يمتلكون الشجاعة في طلب الصفح والمغفرة من الذين يعاشرونهم، ولكن سيدتنا أم حبيبة تضرب في ذلك مثالا يحتذى، وتجعل علاقتها بربها فوق كل اعتبار آخر؛ عن عوف بن الحارث، قال: سمعت عائشة تقول: “دَعَتْنِي أُمُّ حَبيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهَا فَقَالَتْ: قَدْ كَانَ يَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الضَّرَائِرِ فَغَفَرَ اللَّهُ لِي وَلَكِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكِ ذَلِكَ كُلَّهُ وَتَجَاوَزَ وَحَلَّلَكِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: سَرَرْتِنِي سَرَّكِ اللَّهُ. وَأَرْسَلَتْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ. وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ” (رواه ابن سعد في “الطبقات الكبرى” (8/100)، والحاكم (4/24))، ودفنت بالبقيع.